جاءت هزيمة سيلفيو برلسكوني في الانتخابات الإيطالية الأخيرة لتضع حداً، ولو مؤقتا علي الأقل، لواحدة من أهم التجارب التي عرفها التاريخ المعاصر في مجال الديماجوجية السياسية. غير أن ما يميز ديماجوجية برلسكوني علي وجه الخصوص ويمنحها طابعها الخاص، هي فرادة الرجل نفسه الذي بدأ ناشطاً سياسياً يعرض مهاراته الفطرية لإرضاء الجمهور ولتحقيق النجاح البارز الذي أحرزه في قطاع الأعمال والتجارة. وعندما تأكد نجاحه لم يتوانَ في استعمال ذات المهارات الفطرية في تضليل الجمهور كي يرتقي أعلي درجات السياسة الإيطالية ويتربع علي قمتها بعد 1994. ولو حاولنا إعطاء تعريف للديماجوجية سنجد أنها تعني عادة الاستخدام المقصود لاستراتيجية معينة لتحقيق التطلعات السياسية، أو لاكتساب السلطة والمال لذاتهما وليس من أجل خدمة الآخر أو المجتمع. وأثناء قيام الديماجوجي السياسي بعمله غالباً ما يدفعه إدراكه الفطري لحاجيات الجمهور وتطلعاته البسيطة إلي محاولة تغيير المجتمع برمته. وقد ظهر ذالك واضحاً مع موسوليني الذي بدأ كمثقف اشتراكي ومترجم للنظريات الاشتراكية، حيث استطاع تحويل الصحيفة الثورية الإيطالية "آفانتي" إلي أكثر الصحف شعبية ونجاحاً في إيطاليا ما قبل الحرب. ثم بعد ذلك نجح موسولوني بفضل إصغائه لنبض الشارع من جهة، وطموحه للوصول إلي السلطة من جهة أخري، في المزج بين الاشتراكية والقومية لينتج الفاشية في أبشع صورها. وبالرجوع إلي برلسكوني، نلاحظ أنه لم يدخل السياسة لخدمة مصالح المزارعين الفقراء، بل هو انطلق في سماء الأعمال وحقق نجاحاً ملفتاً بعدما انهالت عليه أموال لا يعرف أحد من أين جاءت ثم استطاع توظيفها بشكل جيد جعلته ينتقل من مهنته الأولي ككاتب للأغاني إلي رجل الأعمال الأول في إيطاليا. واستطاع بعد ذلك تحويل ثروته المحدودة في البداية إلي أكبر ثروة مالية وأكثرها إثارة للجدل في بلاده. ولم يكن دخوله إلي عالم السياسة، كما يؤكد ذلك المتتبعون لمساره، إلا لحماية إمبراطوريته الإعلامية وتحصين نفسه من المساءلة القضائية. وطيلة الفترة التي قضاها في السلطة تمكن برلسكوني من إثبات خصائصه السياسية الفريدة التي حولت المشهد السياسي الإيطالي إلي قاعة للعروض إذ وظف خلاله مهاراته الاستعراضية للدفع بأجندته وتعزيز موقعه. وكثيراً ما كان ينظم في حملاته الدعائية، بمساعدة العاملين معه في مجال الإعلام، عروضاً رياضية يتم فيها ترديد شعارات حماسية مثل "إلي الأمام إيطاليا" لتتحول السياسة في عهده إلي مسرح كبير، بحيث تفتقد الجوهر لكنها حافلة بالبهرجة. ورغم تعهده بالتخلص من احتكاره لأغلب وسائل الإعلام الخاصة في إيطاليا، لاسيما القنوات التليفزيونية، فإن ما قام به في الواقع هو إطلاق هيمنته لتمتد إلي وسائل الإعلام العمومية. وظل تعهد برلسكوني الشهير للإيطاليين بإحداث ثورة حقيقية في إيطاليا علي شاكلة رونالد ريجان مجرد كلام تذروه الرياح، إذ لم يحدث في واقع الأمر سوي المزيد من الارتباك والبلبلة علي الساحة السياسية من خلال محاولاته الرامية إلي تغيير القوانين والتشريعات المعمول بها بغرض حماية مصالحه الخاصة، وإبعاد أنظار العدالة الإيطالية عن مزاعم التضليل المالي التي لاحقته لفترة طويلة. وإذا كان برلسكوني قد استطاع الإفلات من قبضة العدالة والاستمرار في مساره السياسي، فإن ذلك راجع إلي توظيفه البارع للبهرجة في الحياة السياسية وتحويلها إلي سيرك كبير لكي تأسر عقول الجمهور دون أن تمنحه الفرصة لإمعان التفكير وتقصي الحقيقة. وكما عبر عن ذلك الروائي الأمريكي "روبرت بان وارن" واصفاً إحدي شخصياته التي تشبه إلي حد كبير برلسكوني من حيث اعتمادها علي الديماجوجية للوصول إلي السلطة والبقاء فيها: "كانت قوة (الشخصية) تعتمد بالأساس علي قدرته الكبيرة في إيهام جمهوره بأن لديه سراً ما يريد أن يبوح به إليهم". وبالفعل كانت عيون الإيطاليين مشدودة دوماً إلي ما سيقوله برلسكوني، وللحظة معينة بدوا وكأنهم ينتظرون من رئيسهم المناور أن يفصح لهم عن سر نجاحه الشخصي وثرائه الفاحش عسي أن ينالهم من ذلك نصيب. غير أنه مع مرور الوقت تصدعت صورة الرئيس بعدما فشل في إحداث النقلة النوعية في حياة الإيطاليين، وبعدما نكص عن وعوده بتحقيق الازدهار لقطاع الأعمال، ما حدا بهم إلي الانقلاب عليه والتعبير عن استيائهم من سياساته، لاسيما بعد الأداء السيئ للاقتصاد الإيطالي في السنوات الأخيرة. لكن بدلا من معالجة القضايا الشائكة التي تهم الجمهور راح برلسكوني يراهن مرة أخري علي براعته في استثارة حماس الإيطاليين وتخديرهم بالاستعراضات الكبري التي امتلأت بها القنوات التليفزيونية الإيطالية، حيث غصت بالألعاب والأغاني والنساء الجميلات، وطبعاً نشرات الأخبار المتعاطفة مع برلسكوني، وكل ذلك لاستمالة الجمهور وإبعاده ما أمكن عن السياسة. لذا فإننا لا نجافي الحقيقة إذا اعتبرنا السنوات التي أمضاها برلسكوني علي رأس السلطة في إيطاليا بمثابة إجازة مفتوحة لعموم الإيطاليين من السياسة وهمومها، ذلك أنه من الصعب استحضار أي إنجاز قام به برلسكوني طيلة ولايته الرئاسية. وهناك أخبار تقول إن الرئيس بوش سارع إلي إرسال مستشاره كارل روف إلي برلسكوني لمساعدته في حملته الانتخابية بسبب تخوف هذا الأخير من صعود الشيوعيين في بلاده. غير أن عدم تماسك خطاب برلسكوني في الأسابيع الأخيرة من حملته الانتخابية أظهر أن "روف" لم يستطع هذه المرة تطبيق نظريته القائمة علي نسف الخصم وتدميره كما كان يفعل في أمريكا. واللافت أنه حتي في الولاياتالمتحدة لا تخلو الساحة من الديماغوجية فبينما نجح برلسكوني عبر تحويله السياسة إلي استعراض، نجح بوش من خلال تحويله الحرب إلي سياسة.