يري فريق من الخبراء والمحللين الأمريكيين ومسئولون كبار سابقون في الإدارة الأمريكية أن الولاياتالمتحدة نفسها هي التي يقع علي عاتقها الجانب الأكبر من المسئولية عن ظاهرة "الانفلات النووي" في العالم. ويقولون إن سياسة المعايير المزدوجة التي تتبعها واشنطن وتراجعها عن العديد من الاتفاقيات النووية شجع العديد من دول العالم ومن بينها دول تصفها الإدارة الأمريكية "بالمارقة" مثل كوريا الشمالية وإيران علي المضي قدما في برامج نووية ستؤدي في النهاية إلي زيادة عدد أعضاء النادي الذري في العالم وزيادة الأسلحة النووية الفتاكة التي تشكل تهديداً خطيراً ومباشراً للأمن والسلم العالميين. وخلال الخمس سنوات الأخيرة تراجعت الولاياتالمتحدة عن العديد من الاتفاقات الرامية إلي مراقبة الأسلحة النووية وضبط انتشارها، وهي التي فاوضت من أجلها منذ إدارة الرئيس الأسبق دوايت إيزنهاور. ولاشك أن التغيير في سياسات واشنطن والإشارات غير المريحة التي بعثت بها حيال مدي حزمها في تطبيق المعاهدات الدولية، أثار انتباه بعض الدول التي تتحين الفرصة الملائمة للانطلاق في برامجها النووية، مثل كوريا الشمالية وإيران. كما أنه من شأن النكوص الأمريكي عن الاتفاقيات النووية السابقة أن يشجع دولا أخري تمتلك القدرات التكنولوجية الكافية علي سلوك الطريق النووي. وفي هذا السياق تأتي الصفقة النووية مع الهند كخطوة أخري تدفع مارد الانتشار النووي إلي الخروج من قمقمه والعبث بالأمن والسلم الدوليين. ويذكر هنا أن الالتزام النووي الوحيد الذي مازال مفعوله ساريا بين الدول هو معاهدة عدم الانتشار النووي لسنة 1970 التي وقعت عليها، بالإضافة إلي الدول النووية الخمس، 182 دولة أخري. وقد حددت أهداف المعاهدة في منع انتشار الأسلحة النووية والتكنولوجيا ذات الصلة، وبذل كافة الجهود لتحقيق الهدف النهائي المتمثل في نزع السلاح النووي. وفي دورة عام 2005 من المؤتمر الذي تعقده الأممالمتحدة كل خمس سنوات لمراجعة سياستها في المجال النووي، لم يكن هناك من الدول التي تمتلك ترسانة نووية من خارج معاهدة عدم انتشار السلاح النووي سوي إسرائيل وكوريا الشمالية والهند وباكستان. ولكن يبدو أن أمريكا قد تراجعت عن التزاماتها السابقة، حيث تخلت عن معاهدة الحد من الصواريخ العابرة للقارات وأنفقت ما يزيد علي 80 مليار دولار علي مجالات عسكرية مريبة تهدف إلي اعتراض الصواريخ وتدميرها بمعدل إنفاق سنوي وصل إلي 9 مليارات دولار. والأكثر من ذلك تراجعت حكومة الولاياتالمتحدة عن تعهدها باحترام القيود المفروضة علي إجراء الاختبارات النووية وتطوير أسلحة فتاكة. والأدلة علي ذلك كثيرة ووافرة حيث أعلنت الإدارة الأمريكية عن خططها للبدء في تجريب قنابل خاصة تخترق المخابئ، فضلا عن أسلحة أخري سرية وإطلاقها مشروع نشر أسلحة الدمار الشامل في الفضاء. أضف إلي ذلك التغيير الذي طرأ علي سياستها النووية حيث انتقلت من سياسة الردع التي كانت متبعة في الحرب البارة إلي احتمال استخدام السلاح النووي استباقياً ضد دول لا تمتلك أسلحة نووية. وليس غريبا أن تقود القرارات الأمريكيةالجديدة وتركيزها علي السلاح النووي كعنصر أساسي في عقيدتها العسكرية إلي استثارة ردود فعل سلبية من قبل الدول الموقعة علي معاهدة عدم انتشار الأسلحة النووية بما فيها روسيا والصين، بل وامتد القلق حتي إلي حلفائنا التقليديين الذين لم يبق أمامهم سوي الدخول في تنافس محموم لتطوير ترسانتهم النووية في تجاهل تام لاتفاقيات مراقبة الأسلحة. وقد عبر عن تخوفه من الاتجاه نحو التسلح النووي المفرط الذي أطلقته أمريكا، بعدم التزامها بالاتفاقيات الموقعة، وزير الدفاع الأمريكي السابق روبرت ماكنمارا في مجلة "السياسة الخارجية" السنة الماضية قائلا: "لا يمكن أن أصف السياسة الأمريكية الحالية في مجال الأسلحة النووية إلا بأنها تفتقد إلي الشرعية والأخلاق، كما أنها غير مبررة عسكريا وخطيرة بشكل كبير". وتجدر الإشارة إلي أنه في ظل هذا التساهل العالمي إزاء انتشار الأسلحة النووية والإشارات الخاطئة التي تبعث بها الولاياتالمتحدة، ليست هناك حاليا أية جهود تسعي إلي خفض العدد الكبير من الأسلحة النووية الموجودة علي الساحة الدولية. فقد بلغ إجمالي الترسانة النووية في العالم نحو 30 ألف سلاح، تمتلك منها الولاياتالمتحدة 12 ألفا، فيما تستحوذ روسيا علي 12 ألف رأس نووي. أما باقي الدول فتتوزع عليها الأسلحة النووية علي الشكل التالي: الصين 400، وفرنسا 350، وإسرائيل 200، والهند وباكستان 40 لكل منهما، إضافة إلي كوريا الشمالية التي تمتلك ما يكفي من الوقود النووي المخصب لصنع عشرات القنابل. وكما كان الحال أثناء الحرب الباردة فإن احتمالات اندلاع "محرقة" نووية مازالت ماثلة أمامنا. ويقول المحللون إن الرؤساء الأمريكيين وإدراكاً منهم لتطلعات القادة الهنود إلي امتلاك السلاح النووي قاموا بإشراكهم في سياسة واضحة وثابتة تحظر علي الجانب الهندي بيع التكنولوجيا النووية المدنية، أو الوقود النووي غير الخاضع للمراقبة إلي أية دولة غير موقعة علي معاهدة عدم الانتشار النووي. ورغم الصخب الذي أثير مؤخرا حول إمكانية فوز شركات أمريكية بصفقات بناء مفاعلين نوويين للهند بعدما أعلنت عن نيتها استيراد ثمانية مولدات نووية بحلول عام 2012، فإن الأخطار الناتجة عن هذه الصفقة تفوق بكثير الفوائد المرجوة منها علي المدي القصير. وقد تكون الهند حالة خاصة، لكن يتعين عليها ممارسة المزيد من ضبط النفس والتقيد بالأعراف الدولية. فإذا كانت الدول النووية التقليدية قد تعهدت بوقف إجراء الأبحاث علي المواد الانشطارية وتجميد إنتاج المزيد من الأسلحة النووية، فإنه علي الهند أيضا أن تتعهد بتحديد سقف معين لترسانتها النووية وألا تزيد عليها. والواقع أن الاتفاقية النووية الأخيرة التي وقعها الرئيس بوش مع الهند تخولها إجراء أبحاث نووية وإنتاج كميات كبيرة من الأسلحة الفتاكة قد تصل إلي 50 قنبلة نووية في السنة الواحدة، وهو ما يفوق بكثير قدراتها الحالية. ولأن الهند لا تمتلك حاليا سوي التكنولوجيا الأولية لتخصيب اليورانيوم أو تصنيع البلوتونيوم، طالب مسئولون أمريكيون كبار سابقون الكونجرس أن يسارع إلي وقف بيع التكنولوجيا النووية إلي نيودلهي لاستباق محاولاتها الدؤوبة نحو تطوير ترسانتها وإنتاج مزيد من الأسلحة. وقد أبدي السيناتور السابق "سام نون" تخوفه من الاتفاقية النووية مع الهند قائلا: "إن الاتفاقية لا تساعد أبدا علي وقف انتشار الأسلحة النووية في العالم"، حيث من غير المرجح أن يحدث ذلك في وقت قريب ما لم توقع الهند علي معاهدة عدم انتشار الأسلحة النووية وتلتحق بحظيرة الدول الملتزمة بمقتضياتها. وبالطبع يحق للدول الأخري مثل البرازيل واليابان وإندونيسيا وإفريقيا الجنوبية والأرجنتين، فضلا عن الدول ذات القدرات التكنولوجية، أن تتساءل: لماذا تستمر في خيارها المتمثل في الحصول علي التكنولوجيا النووية عبر قنوات معاهدة عدم الانتشار، في حين أن الهند تحصل علي التكنولوجيا نفسها دون أن توقع علي المعاهدة؟ وبالمثل فإن استمرار إسرائيل في امتلاك أسلحة غير مراقبة ولا خاضعة للتفتيش الدولي، يشجع الدول المجاورة كإيران وسوريا وتركيا ودول أخري علي السعي من أجل الحصول علي الأسلحة النووية. وقد شاهد العالم بأسره كيف أن العراق الذي لم يكن يملك أسلحة دمار شامل تعرضت أراضيه للغزو، بينما استطاعت كوريا الشمالية الأكثر خطورة الإفلات. وفي هذا الإطار تأتي الأزمة النووية الإيرانية بتداعياتها الخطيرة، فلمدي أكثر من ثلاث سنوات حتي الآن ظل الفريق الغربي بزعامة الولاياتالمتحدة يطالب بوقف تخصيب اليورانيوم داخل منشآت نووية ايرانية حتي لا تنتقل ايران عن مستوي اليورانيوم المخصب الي مستوي تصنيع البلوتونيوم - المادة التي تستخدم في انتاج اسلحة نووية.لكن دون جدوي فالحكومة الايرانية ماضية في تطوير برنامجها النووي - بحجة استخدامه لاغراض مدنية - رافضة بقوة الانصياع للمطلب الغربي. وبدخولها المواجهة مع ايران ساقت الولاياتالمتحدة نفسها وحلفاءها الي مأزق بحيث انها لا تستطيع ان تتراجع كما لا تستطيع ان تتقدم ذلك انه بسبب التصلب الايراني انتهت كل عملية تفاوضية غربية مع طهران الي طريق مسدود. رفعت ادارة بوش شكوي الي الوكالة الدولية للطاقة الذرية لكن الوكالة لم تستطع فعل شيء فإيران من الناحية الفنية القانونية لم ترتكب خطأ فهي اولا في الدول الموقعة علي المعاهدة الدولية لمنع الانتشار النووي والمعاهدة لا تحظر استخدام الطاقة النووية لاغراض سلمية كالتوليد الكهربائي. ومن حين لآخر يقر المدير العام للوكالة محمد البرادعي بأن مفتشي الوكالة لم يعثروا علي ادلة دامغة تفيد بأن الحكومة الايرانية تعتزم فعلا تصنيع اسلحة نووية فغاية ما وصل اليه المفتشون هو ان هناك "شكوكا" حول البرنامج النووي الايراني. هنا قررت ادارة بوش تجربة طريق آخر وهكذا وبعد ضغوط أمريكية وافقت الدول الاعضاء في وكالة الطاقة الذرية علي رفع الملف الايراني الي مجلس الأمن الدولي. لكن هذا المسعي وصل ايضا الي طريق مسدود فالقوي الدولية الكبري داخل المجلس - اي صاحبة الفيتو انقسمت علي نفسها تجاه المسألة الايرانية بسبب اعتبارات لعبة المصالح الحيوية فروسيا والصين ترفضان بصراحة وقوة اي تحرك دبلوماسي داخل المجلس ينتهي الي فرض عقوبات علي ايران او حتي مجرد التهديد بفرض عقوبات. والسؤال الذي يطرح هو: لماذا تصمد ايران بقوة وتحد امام الولاياتالمتحدة؟ لأن لديها حسابات دقيقة. فالولاياتالمتحدة لن تستطيع ان تحصل علي سند اجماعي في مجلس الأمن الدولي اذا قررت اللجوء الي القوة العسكرية ضد ايران. وحتي لو قررت انفراديا اللجوء الي هذا الخيار فإن حلفاءها الاوروبيين لن يكونوا مستعدين للمشاركة. وسيكون رد الفعل الإيراني في هذه الحالة خطيراً ويستهدف المصالح الأمريكية في مختلف أنحاء العالم وسيأتي العراق المجاور في المقدمة.