تزاحمت الأحداث واحتشدت في الأيام الأخيرة بعد ظهور نتائج الانتخابات الإسرائيلية التي لم تحقق آمال حزب كاديما في قطف ثمار التدمير الذي أحدثه أرييل شارون في بنية الليكود. ورغم كثرة الحديث عن الحزب الكبير القائد في كل ما يتعلق بحزب كاديما، فإن ما ناله من مقاعد في الكنيست لا يفسح مجالاً له لتحقيق آماله في التغيير البنيوي للحلبة السياسية الإسرائيلية. صحيح أن الليكود قد تحطم وأن اليمين الإسرائيلي بات يفتقر إلي القوة المركزية القائدة، ولكن هذا اليمين حافظ بشكل أو بآخر علي قوته. وبحسم ذلك الجزء الذي كان يحسب في اليمين ولكنه كان في الوسط غالباً، والذي انتقل لحزب كاديما يصعب القول ان اليمين تراجع. بل ان هذا اليمين قد يجد نفسه بعد هزيمة مشروع الوسط أكثر قوة من أي وقت مضي، خاصة أن في حزب كاديما بعض غلاة المتشددين يمينيا. ومع ذلك ليس ثمة ريب في أن فوز حزب كاديما بأكثرية الأصوات خلق سابقة هي الأولي من نوعها في الحياة السياسية الإسرائيلية، وهي تبوء حزب وسط مكانة الصدارة في الانتخابات. ورغم أهمية هذه الخطوة التي تلغي القطبية الثنائية التي حكمت الحلبة الإسرائيلية منذ عقود، فإن هناك من لا يري في الأمر انقلاباً كبيراً في الواقع. فقد ضم هذا الحزب عملياً المقاعد الخمسة عشر التي كانت لحزب شينوي في الكنيست السابقة، إضافة إلي أربعة عشر مقعداً كانت ليمين الوسط في الليكود. ويري هؤلاء أن التضخم الذي أحدثه أرييل شارون في الانتخابات السابقة لليكود تبدد هذه المرة. وبالتالي ليس هناك من جديد جدي في الحلبة سوي أن عمير بيرتس بتركيزه علي البعد الاجتماعي حفظ لحزبه مكانة ومنع انهياره. وإذا كان لما سبق من معني فإن إعادة الاعتبار للبعد الاجتماعي وضجر الجمهور الإسرائيلي من السياسة ووعود الساسة الكاذبة ينبئان بنوع من التغيير في طريقة تفكير الشارع. فقد رفض هذا الشارع تقبل الطريقة التي يتعاطي بها "الحزب القائد" معه وأصر علي عدم الانصياع لأوامر حسم الانتخابات. وهكذا نشأت توازنات جديدة علي أكثر من صعيد. فعلي الصعيد السياسي هناك نوع من التعادل بين مؤيدي التسوية السياسية ومعارضيها فضلا عن التعادل بين دعاة الحل من طرف واحد ومعارضيه. ويبدو أن خطة إيهود أولمرت لرسم الحدود خلال الولاية المقبلة صارت بعيدة عن التحقيق، إن لم يكن لأسباب حزبية فربما لأسباب تتعلق بتغيير سلم الأولويات. وعلي الصعيد الاجتماعي هناك أيضا نوع من التعادل بين القوي التي تعتبر نفسها مدافعة عن حقوق الشرائح الدنيا وبين القوي التي تري نفسها في صف الطبقات الوسطي والعليا. وليس صدفة أن هناك اليوم في الحلبة الإسرائيلية من يدعون إلي تشكيل جبهة اجتماعية إن لم تكن من أجل إقامة حكومة ذات "أجندة" اجتماعية فعلي الأقل محاولة فرض شروط اجتماعية في المفاوضات الائتلافية. غير أن هناك في إسرائيل اليوم من يحاولون خلق نوع من التوافق بين البعدين السياسي والاجتماعي. ويقبع أغلب هؤلاء في المعسكر اليميني الذين يرون استحالة تكوين كتلة سياسية مانعة تحول دون كاديما وتشكيل الحكومة. فاليمين الذي يسيطر علي أكثر من خمسين مقعداً في الكنيست عاجز لوحده عن منع أولمرت من تحقيق أغلبية برلمانية لدعم حكومته. ولكن هذا اليمين، أو علي الأقل جزءاً منه، يعتقد أن بالوسع إغراء حزب العمل بترؤس حكومة اجتماعية غير سياسية تسعي إلي محاربة الفقر. ورغم أن مكافحة الفقر هدف قائم بذاته فإن دعاة هذه الفكرة يسعون أولا وقبل كل شيء إلي الحيلولة دون كاديما وتشكيل الحكومة. وإذا شئتم فإن هذه الفكرة، في بعض جوانبها، هي الدفاع الأخير من جانب المنظومة السياسية القديمة ضد المنظومة الجديدة. لذلك ثمة أهمية كبيرة للسجال الدائر حالياً بين قادة كاديما وزعماء حزب العمل بخصوص تشكيل الحكومة. إذ هناك من يسعي في صفوف اليمين لبلورة أكثرية تؤيد ترشيح عمير بيرتس لا إيهود أولمرت لرئاسة الحكومة. ورغم بدء الرئيس الإسرائيلي موشيه كتساف مشاوراته الرسمية لتكليف أحد زعماء الأحزاب بتشكيل الحكومة، فإن الصراع بين كاديما والعمل يتعاظم. بادياً أنه ليس هناك من سيوصي بتكليف أولمرت سوي حزبه وحزب المتقاعدين. وقد هدد زعماء كاديما بأنهم لن يشركوا كل من لا يوصي بتكليف أولمرت أمام الرئيس في حكومتهم. وكان عمير بيرتس قد رفض لقاء أولمرت واتهم قادة كاديما ببث ألاعيب إعلامية لحسم المفاوضات قبل أن تبدأ. وبين هذه الألاعيب الإعلان عن أن أولمرت لن يمنح بحال وزارة المالية لبيرتس. عموماً يعملون في حزب العمل علي اتخاذ القرار: هل سيحاول بيرتس تشكيل حكومة التفافية علي كاديما أم لا؟ البعض يوحي بأن بالوسع تشكيل مثل هذه الحكومة من العمل وشاس والليكود ويهدوت هتوراه وربما الاتحاد القومي المفدال علي أن يحظي هذا الائتلاف، من الخارج، بدعم الأحزاب العربية.