بينما تغيب السياسة عن المصريين تاركة أحزابهم الهشة وفاعليهم السياسيين يصارعون موتا إكلينيكيا محققا، باستثناء حزب وحيد نجا من الهلاك بعد أن أضعفت الأمراض والأوبئة السياسية من مناعته ليغدوا مسيطرا علي زمام الأمور محتكرا لمفاتيح السلطة والنفوذ، علي النحو الذي حال دون تبلور معارضة سياسية حقيقية بالمعني المتعارف عليه في الدول التي اكتمل بنيانها الديمقراطي وترسخ ________________________________________ أطلت برأسها ظاهرة جديدة علي الساحة السياسية المصرية، تلك المتمثلة في جنوح بعض العناصر والكوادر السياسية المحسوبة علي الحكومة أوالحزب الوطني، بشكل أو بآخر، نحو تبني ما يمكن أن نسميه بالاتجاه الانتقادي لهما أو الانشقاقي عليهما، فيما اعتبر وكأنه نزوع نحو الاضطلاع ببعض المهام الرمزية للمعارضة السياسية الغائبة وذلك عبر تكييل تلك العناصر انتقادات لسياسة الحزب والحكومة ليس فقط داخل أروقة الحزب أو الاجتماعات الرسمية للوزراء والمسئولين، وإنما عبر وسائل الإعلام وتحت قبة البرلمان. بيد أن نفراً من أصحاب هذا التوجه السياسي الجديد قد هرع نحو إظهار ولائهم للحكومة وحزبها من خلال تأكيدهم علي أن القيام بمثل هذا الدور لايعد خروجا علي مبدأ الإلتزام الحزبي، وذلك علي غرار ما يفعل الدكتور زكريا عزمي،رئيس ديوان رئيس الجمهورية ونائب الحزب الوطني في البرلمان المصري عن دائرة الزيتون بالقاهرة، والذي لم يتورع عن توجيه الانتقادات الحادة والأسئلة المحرجة للوزراء وكبار المسئولين في الحكومة والحزب الوطني علي الملأ داخل مجلس الشعب، بما فيهم رئيس المجلس نفسه حينما وصف التقارير الدورية التي يرفعها مجلس الشعب للحكومة بغرض الاسترشاد بها، بالتفاهة وعدم الدقة، حول إهدار المال العام من خلال الانفاق البذخي غير المبرر، فضلا عن ارتفاع سعر الدولار وتدني معدل الصادرات والعجز في الميزان التجاري. وهو أيضا الذي أعلن أن الفساد داخل المحليات قد بلغ ذروته، كما سبق وأن صرح أثناء مؤتمر انتخابي له في دائرة الزيتون قبيل الانتخابات التشريعية الأخيرة، بأن سخط الشعب المصري علي النظام الحاكم إنما يرجع لوجود شخصيات مكروهة داخل الحكومة وعلي صعيد مواز، عمد نفر آخر من أولئك، الذين يمكن نعتهم مجازا بالمعارضين أوالإصلاحيين الجدد داخل الحكومة والحزب الوطني، إلي المجاهرة بإعلان الإنشقاق عن الحكومة وحزبها، بعد أن شنوا عليهما هجوما حادا كيلوا لسياساتهما خلاله الانتقادات، خصوصا فيما يتصل بعملية الإصلاح السياسي والديمقراطي، التي تملكت الشكوك كوادر حزبية عديدة داخل الحزب الحاكم بشأن صدق نوايا النظام وجدية الحزب الوطني حيال المضي قدما في تنفيذها. غير أن مساعي أولئك المعارضين أو الإصلاحيين المنبعثين من أحشاء الحزب الوطني الحاكم، إن انتقادا أو نشقاقا، باتجاه تدشين تيار سياسي إصلاحي جديد من شأنه أن يبدد الجمود القائم أو يملأ الفراغ السياسي اللذين أطبقا علي الحياة السياسية المصرية طيلة عقود ومن ثم يدفع بعجلة الإصلاح المتعطلة قدما نحو الأمام، إنما تصطدم بسلسلة من العثرات والعقبات. ذلك أن افتقاد رواد ورموز هذا التوجه لثقة وترحيب شطر عظيم من أبناء النخبتين الثقافية والسياسية، فضلا عن استقبال الشارع المصري له بالارتياب والتشكيك في مصداقية نواياهم وتوجهاتهم الإصلاحية لاسيما وأنهم ربائب نظام سياسي نشأوا وترعرعوا في رحابه فيما هم اليوم ينقلبون عليه، إلي جانب تربص الدولة المحتمل بهم ووقوفها غير المستبعد لتحركاتهم المرتقبة بالمرصاد، كلها تحديات يمكن أن تجهض مساعي هذا التيار الإصلاحي الجديد أوتقوضها في مهدها. الأمر الذي يجعل من مثل هذا التيار الإصلاحي الجديد بعد ترويضه واحتوائه من قبل الدولة مجرد مسخ يقوم بتمثيل دور معارضة هشة مستأنسة، ليهوي علي أثر ذلك النظام السياسي المصري مجددا في مستنقع الجمود السياسي ويرزح في براثن ما يمكن تسميته مجازا ب "الدوامة الإيرانية"، حيث تدورالقوي السياسية، بمختلف توجهاتها، في دوامة أو فلك نظام سياسي مغلق تهيمن عليه قوة سياسية بعينها قابعة في مركزه، بينما تضطلع بعض الحركات أو التنظيمات السياسية الورقية في محيط ذلك النظام بأدوار ثانوية ما بين المعارضة أو ادعاء العمل من أجل تحريك دفة الإصلاح. ففي نظام سياسي كذلك الإيراني، يصعب التمييز سياسيا وفكريا بين تياري المحافظين والإصلاحيين. وبالرغم من أنه قد يتيسر علي المرء التفريق بين بعض الشخصيات أو الحركات التي تطلق شعارات إصلاحية وتلك التي تعلن تمسكها بالمباديء الثورية الخمينية، إلا أنه يتعذر علي أي متابع للشأن الإيراني أن يلمس أو يرصد أي تغيير جوهري أو تباين حقيقي في سياسة الجمهورية الإسلامية علي الصعيدين الداخلي والخارجي إبان حكم الإصلاحيين مقارنة بفترات حكم المحافظين. وههنا، تتضح بجلاء إشكالية الإزدواجية المزعومة في النظام السياسي الإيراني حيث يبدو جليا أن ما يمكن أن يسمي بالتيار الإصلاحي إن هو إلا فئة منشقة أو متولدة من رحم التيار المحافظ، وما أولئك الذين ينعتون أنفسهم بالمحافظين الجدد أو المعتدلين سوي مجموعة من شباب التيار المحافظ يقودهم القيادي المحافظ المخضرم هاشمي رافسنجاني. ولم تكن تلك الدوامة بالأمر المستحدث علي الساحة السياسية الإيرانية، فرجال الدين المسيسين من ذوي العمامات كانوا قد رسخوا وجودهم في أرجائها قبل خمسة قرون وظلوا مهيمنين علي مقاليد الأمور في البلاد، حتي ظهر ذووا القبعات أو "المكلا" في منتصف القرن التاسع عشر وتمكنوا من بسط نفوذهم داخل أروقة النظام السياسي الإيراني منذ العقد الأول من القرن العشرين وحتي العام 1979، وهو العام الذي اندلعت فيه الثورة الإسلامية بقيادة آية الله الخميني،معلنة أفول عهد ذوي القبعات وعودة أمورالدولة وشئون الحكم مجدداً إلي راحة الملالاي من أصحاب العمائم، لتبدأ مسيرة توزيع الأدوار و تبديل المقاعد بين عدة أجنحة تحت مظلة واحدة هذه المرة، هي نظام ولاية الفقيه، حسبما تقتضي التطورات الدولية والمستجدات علي الساحة الداخلية . ذلك أن التيار المحافظ قد عمد إلي تحري السبل الكفيلة بإبقاء زمام الأمور في قبضته لأطول مدي ممكن، فحرص علي إحتكار مفاتيح السلطة والنفوذ في البلاد، في حين لم يترك للتيار الإصلاحي، الذي كان قد خرج من عباءته، سوي حيز محدود جدا ومحكوم من حرية الحركة بالقدر الذي يحول دون استحواذ الإصلاحيين علي ثقة الجماهير ويسمح في ذات الوقت بتوظيف وجود مثل هذا التيار الإصلاحي الهزيل علي المسرح الإيراني، داخليا وخارجيا بشكل يعزز من سطوة ونفوذ وشرعية حكم المحافظين تحت مظلة نظام ولاية الفقيه. وهو ما سبق وأن عبر عنه آية الله الخميني في العام 1985 مع بداية ظهور اليسار الإصلاحي والمتمثل في جماعة "روحانيومبارز"، حينما أكد علي أن المحافظين والإصلاحيين هما جناحا النظام السياسي. كما أكد عليه المرشد الحالي آية الله علي خامنئي، في خطبة الجمعة يوم 12 مايو من العام 2000 والتي أشار خلالها إلي أن تياري الإصلاحيين والمحافظين في إيران ضروريان للبلاد كالجناحين بالنسبة للطائر، وذلك من أجل استقرارالجمهورية الإسلامية وبقاء نظام ولاية الفقيه.