لماذا تحمل معظم الحروب والصراعات الدموية التي يعاني منها العالم اليوم طابعاً دينياً؟.. هل صدفة أن الدين يقف وراء معظم التوترات التي تعصف بالعلاقات بين الشعوب والأمم المختلفة؟.. ولماذا لم تنجح الحوارات الدينية في منع وقوع مثل هذه الحروب والصراعات والتوترات؟ هل لأن المشكلة دينية أم أن المشكلة تكمن في توظيف الدين في الأزمات السياسية؟. فرضت هذه الأسئلة نفسها علي المؤتمر العام لمجلس الكنائس العالمي الذي عُقد الأسبوع الماضي في مدينة "بورتو أليغرو" في البرازيل. والمجلس هو الأكبر في العالم إذ أنه يتألف من 348 كنيسة (إنجيلية وأرثوذكسية) من 120 دولة. توقف المجلس (الذي يعقد مؤتمره العام مرة كل أربع سنوات) أمام الصور الكاريكاتورية المسيئة التي نشرتها الصحيفة الدانمركية عن رسول الله محمد صلي الله عليه وآله وسلم. فاتخذت منها الموقفين التاليين: الأول هو إدانة هذه الرسوم واستنكارها باعتبارها انتهاكاً لقدسية نبي كبير، وباعتبارها إساءة إلي إيمان أكثر من مليار مسلم يجب أن يحظوا بكل الاحترام. أما الثاني فهو تأييد الموقف الإسلامي من إدانة التجاوزات التي رافقت الاحتجاجات المشروعة والمبررة علي نشر تلك الرسوم. تكمن أهمية هذا الموقف بشقّيه في أن عدداً كبيراً من الكنائس الأعضاء في المجلس هي كنائس أمريكية. والمنطق الذي اعتمده مجلس الكنائس العالمي لتبرير هذين الموقفين يقوم علي أساس التأكيد علي أن ثمة أسباباً أخري عديدة غير دينية حركت وتحرك ردّ الفعل الإسلامي. ومن هذه الأسباب الفشل في إيجاد حلّ عادل للقضية الفلسطينية، واحتلال العراق وأفغانستان، مما يعيد ربط الاستعمار الجديد بالحروب الصليبية. ومن هذه الأسباب أيضاً الحرمان الاقتصادي والتنموي الذي تعاني منه هذه المجتمعات، وشعورها بأن ثمة هجمة للسيطرة الثقافية والقيمية عليها. ومنها أيضاً فشل محاولات دمج الأقليات الإسلامية في الدول الغربية التي هاجرت إليها واستوطنت فيها. والخلاصة المهمة التي خرج بها المجلس في هذا الشأن هي أن الصراع في جوهره وفي أساسه ليس دينياً، ولكنه صراع مع التطرف الذي يلجأ إلي الدين لتبرير استخدام العنف. ولذلك دعا المجلس الدول والمجتمعات العلمانية (وليس المسيحية) إلي تفهم واحترام دور الدين وأهميته في عالم متعدد الثقافات، وباعتبار الدين (الإسلام أو المسيحية أو اليهودية أو سواها) عنصراً أساسياً في مكوّنات الهوية الإنسانية. وعلي هذا الأساس كانت دعوة المجلس إلي مد جسور مع المؤمنين بالأديان المختلفة من خلال الحوار البنّاء من أجل حلّ المشاكل التي تواجهها المجتمعات الإنسانية. غير أنه من المؤسف والمحزن معاً، أن موقف مجلس الكنائس العالمي كمعظم مواقفه وبياناته المتعاطفة مع القضية الفلسطينية، ومع القضية العراقية، لا يجد طريقه إلي المؤسسات الإسلامية الرسمية والأهلية علي حد سواء، الأمر الذي أدي إلي تعثر إقامة جسور الحوار المطلوبة، وحال دون ردم الهوة التي حفرتها الصور النمطية التي تكوّن ثقافة الاتهام الجماعي للآخر وتصنيفه عن بعد بأنه في خانة الأعداء!. بعد القرار الذي اتخذته الكنيسة المشيخية في الولاياتالمتحدة بسحب ودائعها واستثماراتها من إسرائيل احتجاجاً علي الانتهاك الإسرائيلي لحقوق الشعب الفلسطيني، أقرّ المجمع الكنسي الأنجليكاني في بريطانيا توصية مماثلة ودعا إلي العمل بموجبها علي الفور. الكنيسة المشيخية هي واحدة من كبريات الكنائس الإنجيلية الأمريكية. وهي تتمتع باحترام حتي لدي الكنائس الأخري. ثم إنها هي التي أنشأت الجامعات الثلاث الكبري في الشرق الأوسط: الجامعة الأمريكية في بيروت. والجامعة الأمريكية في القاهرة. والجامعة الأمريكية في أنقرة. لقد تعرّضت الكنيسة المشيخية بسبب قرارها الأخلاقي الجريء بسحب استثماراتها من إسرائيل إلي حملة تجريح وافتراء شنتها عليها المؤسسات الإعلامية الخاضعة للنفوذ الصهيوني في الولاياتالمتحدة. ومن المؤسف أنه لا الدول العربية منفردة ولا جامعة الدول العربية، ولا منظمة المؤتمر الإسلامي ولا حتي المؤسسات الإسلامية الدولية كالأزهر الشريف، ورابطة العالم الإسلامي وسواهما، وجهت إلي الكنيسة المشيخية كلمة شكر أو تشجيع. مع ذلك بادرت الكنيسة الأجليكانية إلي اتخاذ توصية بسحب الاستثمارات من إسرائيل. ونقول، مع ذلك، أولاً، لأن حملة التجريح والافتراء الصهيونية انطلقت علي الفور ضد هذه الكنيسة. وكان قائد الاوركسترا في هذه الحملة الحاخام الأكبر في بريطانيا السير جوناثان ساكس. وثانياً، لأن صورة العالم الإسلامي في بريطانيا مشوّهة إلي حد بعيد بسبب سلوك مجموعات من المتطرفين الذين ذهبوا في تطرفهم إلي حدّ ارتكاب أعمال إرهابية طالت شبكة المواصلات في العاصمة لندن. وثالثاً، لأن ثمة غياباً إسلامياً كاملاً عن متابعة هذا الموضوع عن كثب بما يستحقه من اهتمام. وإذا كانت الكنيسة المشيخية هي واحدة من مجموعة كبيرة من الكنائس الإنجيلية الأمريكية، فإن الكنيسة الأنجليكانية هي كنيسة الدولة البريطانية. إنها الكنيسة الرسمية. ثم إن لها أتباعاً في سائر الدول التي استعمرتها بريطانيا في السابق بما في ذلك كندا وأستراليا والولاياتالمتحدة. ولا تخلو دولة من دول الكومنولث في آسيا وإفريقيا من مؤمنين منخرطين في هذه الكنيسة. وقد برر رئيس الأساقفة الدكتور رامزي وليامز القرار الجديد الذي اتخذه المجمع الكنسي بأنه "يتماشي مع رفض السياسة العدوانية في الأراضي الفلسطينيةالمحتلة، بما في ذلك تدمير المنازل وبناء السور العازل". وهي الأسباب ذاتها التي اعتمدتها من قبل الكنيسة المشيخية الأمريكية. وقد تمثلت الترجمة العملية الأولي لتوصية المجلس الكنسي الأنجليكاني في سحب استثمارات الكنيسة التي تقدر بنحو 2.5 مليون جنيه إسترليني في شركة "كاتربيلر" لأن هذه الشركة تقدم لإسرائيل جرافات تستعمل في هدم المنازل وبناء السور العازل. أدركت الكنائس والمجامع الكنسية في العالم، أن المسيحيين في فلسطين يدفعون ثمناً غالياً جداً بسبب السياسة الإسرائيلية. وأن قراهم هي هدف للتهديم مثل القري الإسلامية الأخري. ولعل المثل الأوضح علي ذلك هو ما تتعرض له قرية عابور في الضفة الغربية (بين القدس والجليل) التي تعود الآثار المسيحية فيها إلي عهد المسيح عليه السلام أي إلي حوالي 2000 عام. ومن أهم وأبرز هذه الآثار "كنيسة المسيح" الأرثوذكسية وهي كنيسة قديمة جداً أقيمت فوق الموقع الذي كان السيد المسيح يلقي فيه مواعظه إلي الناس ليهديهم سواء السبيل. وتستعد الجرافات الإسرائيلية لإزالة هذا المعلم الديني التاريخي من أجل تكملة بناء الجدار العازل!. بل إن القرية بكل آثارها ومبانيها التاريخية تقع في خط هذا الجدار، الأمر الذي يعني هدم معظمها وتشريد سكانها الذين يزيد المسيحيون فيهم علي النصف تقريباً. من أجل ذلك دعا رئيس الكنيسة الكاثوليكية في الولاياتالمتحدة الكاردينال ثيودور مكاريك الرئيس الأمريكي جورج بوش إلي التدخل السريع مع إسرائيل لحملها علي إنقاذ القرية من هذا المصير الأسود. ويبدو أن الرئيس الأمريكي الذي هبطت شعبيته إلي الحد الأدني (حوالي 33 في المائة فقط)، أبدي تجاوباً مع طلب الكاردينال لاستعادة ولو بعض هذه الشعبية. فكلف مستشاره لشئون الأمن القومي ستيفن هادلي العمل علي إقناع إسرائيل بتحويل خط الجدار العازل بما ينقذ القرية من الدمار. ولكن تصرّف هادلي أكد مرة جديدة أنه عندما تتناقض مصالح إسرائيل مع مصالح ومقتضيات الحضور المسيحي في فلسطين، فإن الأولوية هي لإسرائيل. وبالتالي فإن الجدار العازل هو أهم من قرية عابور ومن "كنيسة المسيح"، ومن بساتين الزيتون التي يملكها سكان القرية ويعيشون علي إنتاجها! فقد صادرت إسرائيل حتي الآن 39 في المائة من مساحة هذه البساتين. من أجل ذلك بدأت الكنائس الإنجيلية بالتحرك بعد سلسلة بيانات التحذير التي أطلقها مجلس الكنائس العالمي في جنيف والكنائس العربية والمشرقية المتعددة. وفي هذا الإطار كان موقف الكنيسة المشيخية الأمريكية ثم الكنيسة الأنجليكانية البريطانية. هنا لابد من السؤال: هل يجوز في الوقت الذي تبادر فيه هذه الكنائس في الولاياتالمتحدة وبريطانيا تحديداً إلي اتخاذ هذا الموقف المشرف أن تعقد دول عربية وإسلامية اتفاقات تعاون اقتصادي وتجاري مع إسرائيل؟..