تمر حركة حماس الآن وهي في ثوبها الجديد بمرحلة تقديم نفسها إلي العالم العربي والخارجي. من ناحية تريد أن تؤكد أنها مازالت قوة مقاومة، ومن ناحية أخري تحاول العثور علي خطاب انتقالي متدرج يساعدها في التعامل مع وضعها الجديد وما قد يُفرض عليها من حتمية التفاوض مع إسرائيل والجلوس مع أمريكا والعالم. تقدم حماس حتي الآن خطابا سياسيا معقدا يسمح بأكثر من تفسير، لكنها في نهاية الأمر سوف تكون مضطرة للإجابة عن أسئلة محددة أهمها عن حق إسرائيل في الوجود ونبذ حماس للمقاومة المسلحة، وهو السؤال الذي فرض نفسه من قبل علي الرئيس عبد الناصر والسادات والدول العربية التي أقرت في قمة بيروت أنها علي استعداد للاعتراف بإسرائيل إذا انسحبت من الأرض العربية التي احتلتها بعد حرب 1967. حماس تمر حاليا بنفس فترة التحول التي مرت بها فتح من قبل، عندما كانت ترفض التفاوض، وعندما قررت مقاطعة مصر بعد عقدها لاتفاقية سلام مع إسرائيل، إلي أن ذهبت إلي أوسلو في النهاية ودخلت في العملية السلمية بكل تعقيداتها المعروفة والتي لعبت حماس في إفشالها دورا كبيرا. لم تتسلم حماس مقاليد السلطة بعد منذ فوزها في الانتخابات، ولكنها برغم ذلك بدأت نشاطا سياسيا سريعا وجيدا علي المستويين العربي والدولي. والملاحظ أن الدول العربية استقبلتها بترحاب علي المستويين الشعبي والحكومي، وحرصت حماس من جانبها علي شرح وجهة نظرها في شئون المستقبل وتتلخص في رغبتها الاتفاق علي فترة هدنة طويلة ربما في مقابل الإفراج عن الفلسطينيين الموجودين في السجون والمعتقلات الإسرائيلية. ثم حققت حماس نجاحا آخر عندما تلقت دعوة من الرئيس بوتين لزيارة موسكو في النصف الثاني من هذا الشهر وسط تأييد من فرنسا لهذا التحرك ودرجة مقبولة من الرضا من الولاياتالمتحدة. هذا اللقاء سوف يتحقق بدون أن تدفع حماس ثمنا مقدما له، فلم تطلب موسكو من حماس شيئا كشرط للقاء مثل أن تعلن اعترافها بحق إسرائيل في الوجود وتركها للمقاومة المسلحة كما طالبت أمريكا والاتحاد الأوروبي بضغط من إسرائيل، ولكن من المتوقع أن يُقدم لحماس مثل هذا الطلب من الجانب الروسي خاصة أن موسكو _ كما تقول الأنباء - تفكر في إطلاق جولة جديدة من محادثات السلام، وربما تفكر أيضا في إطلاق مدريد ثانية أو "أوسلو" أخري. من الواضح حتي الآن أن حماس ليست حريصة علي حل سريع للقضية الفلسطينية من خلال مشاريع لها بداية ونهاية محددة كما حدث مع عرفات بصرف النظر عن النتائج المتواضعة التي تحققت من هذه المشاريع خلال أكثر من عقد بعد توقيع أوسلو. السبب أن مثل هذه المشاريع سوف تفرض علي حماس التسليم مبكرا ومن البداية بوجود إسرائيل والاعتراف الكامل بها. لكن ربما تميل حماس أكثر إلي وضع مؤقت بدون التزام بأوضاع نهائية حتي تتمكن من إحداث تحويل في خطابها القديم إلي خطاب آخر يسمح بمرونة أكبر في مواقفها من العملية السياسية، وهو وضع لن يكون مغريا للإسرائيليين الذين يتوقون إلي إنهاء النزاع بشكل نهائي وبشروطهم من زاوية الأمن والحدود والمستوطنات. موقف حماس يعكس بصورة عامة الرغبة في إعطاء الأولوية لبناء الدولة الإسلامية في فلسطين علي قضية التحرير من خلال وصولها لكرسي الحكم الذي تجنبت لفترة طويلة السعي للوصول إليه. وهو توجه مشابه لما حققته جماعة الإخوان المسلمين في مصر من زاوية الدخول إلي لعبة الحكم والتأثير فيها من الداخل من أجل تحقيق أهدافها الأيديولوجية في بناء دولة إسلامية. هذا الخط السياسي الذي يذهب إلي الهدف من خلال المشاركة في الحكم مرفوض من الفصائل الجهادية، وقد انتقدته حركة الجهاد الفلسطينية، كما هاجمه أيمن الظواهري في إحدي رسائله المسجلة. وتأتي نظرية التأثير من خلال الوصول إلي كرسي الحكومة متسقة مع المراحل السابقة التي تحقق فيها اختراق النقابات والأندية والتجمعات الشعبية ومحاولة تقديم خدمات اجتماعية وطبية ودينية مميزة للجماهير، والآن لم يعد باقيا إلا اتخاذ خطوة الوصول إلي الحكم من خلال المسار الديمقراطي المتاح وهو الثمن المدفوع مقدما لإرضاء القوي الخارجية أن العملية ديمقراطية وطبقا لرغبة الجماهير. وبالنسبة لحماس فقد واتتها الفرصة الآن لتحقيق هذا الهدف بوصولها إلي الحكم وامتلاكها لتفويض قوي من الشعب الفلسطيني لإعادة بناء مؤسساته بعد انهيارها بفعل الهدم الإسرائيلي المتصل لهذه المؤسسات وأيضا بسبب فساد سلطة فتح الفلسطينية. أمام حماس الآن فرصة لتحقيق ما لم يحققه عرفات من قبل لو نجحت في التعامل مع القوي الرئيسية في المجتمع الدولي ودخلت في تنسيق قوي مع الأطراف العربية الفاعلة مثل مصر والسعودية وسوريا والخليج. روسيا كما نعرف كانت شريكا للولايات المتحدة في مؤتمر مدريد، وعقد علي أرضها أول جلسات المفاوضات متعددة الأطراف التي كانت تهدف إلي خلق إطار للأمن الإقليمي يتعامل مع مشاكل الشرق الأوسط بصورة شاملة بما في ذلك المشكلة الفلسطينية. روسيا أيضا تتولي دورا مهما في معالجة مشكلة إيران النووية، ويبدو أنها سوف تحل محل الترويكا الأوروبية في التعامل مع طهران والوصول معها إلي حل وسط يرضي طموحات إيران النووية ويخفف من قلق الدول الغربية من احتمالات بناء إيران للقنبلة النووية. ولا يمكن في الحقيقة الفصل بين ما يحدث في فلسطين وما يجري حاليا في العراق. في العراق وفي نفس التوقيت تقريبا تتشكل حكومة جديدة جاءت بعد انتخابات ديمقراطية. وتتردد في نفس الوقت احتمالات قيام الدول العربية إرسال قوات إلي العراق لحفظ السلام هناك بعد مغادرة القوات الأمريكية والبريطانية للعراق، وهو ما تردد أيضا علي لسان عمرو موسي الأمين العام للجامعة العربية. هل نحن أمام مرحلة جديدة لترتيب الأوضاع في المنطقة ومن خلال مجموعة نظم الحكم وصلت إلي السلطة من خلال الطريق الديمقراطي؟ وهل نشهد مدريد أخري علي أسسس جديدة تؤدي إلي عودة الفكر الإقليمي مرة أخري إلي الشرق الأوسط؟