مرة رابعة، تواجه نظرية "الأمن القومي العربي" حالة مربكة تعجز معها عن تقديم إجابة واقعية "مشتركة" لأحد الأسئلة الكبري التي تفرزها تفاعلات المنطقة، وهو "السؤال الإيراني"، وهي ليست حالة جديدة، ففي عام 1977 وجد العرب أنفسهم أمام إحدي الحقائق القاسية المتصلة بالمسألة الإسرائيلية عندما قررت القيادة المصرية أن تتجه لإنهاء الصراع المسلح مع إسرائيل التي كانت تمثل حسب أكثر التعبيرات انضباطا "التهديد الرئيسي". وفي عام 1990 تلقي العرب صدمة أخري عندما قامت القوات العراقية باحتلال الكويت، لتنفجر مشكلة أخري اسمها "الصراعات العربية". وبعد سنوات طويلة جاء الغزو الأمريكي للعراق ليثير إشكالية بدت دائما ظاهريا وكأنها مجمع عليها هي "الوجود الأجنبي"، وتأتي مشكلة برنامج إيران النووي كإحدي تلك الإشكاليات النظرية التي لم تتعرض لاختبار فاصل علي الأرض وهي "دول الجوار". إن أحدا لايناقش كثيرا طبيعة الإجابات التي قدمتها الدول العربية في التعامل عبر سلوكها الفعلي مع التحديات السابقة بعيدا عن التوجهات النظرية المفترضة، ففي كل تلك الحالات شهدت السياسة العربية انقسامات حادة، جرت في ظلها ممارسة كل أشكال السلوك التي تم الاعتياد علي إدانتها عندما تمارس دوليا، لكن الملاحظ أنه في كل مرة كان شكل الانقسام العربي يرتبط بطبيعة تلك القواعد الافتراضية التي يوجد (أو لايوجد) توافق علي أنها تمثل ماينبغي أن يكون عليه السلوك العربي النموذجي وفقا للمعايير القومية المعروفة، لذا كانت نتيجة الاختبارات السابقة متباينة، فعندما تم الاقتراب من إسرائيل التي كانت هناك قاعدة صارمة بشأنها قوطعت مصر بشكل شبه جماعي، وعندما حدثت واقعة غزو العراق للكويت التي لم تكن هناك قاعدة بشأنها انقسمت الدول إلي معسكرين مثل الناتو ووارسو قديما، وعندما لاحت أزمة العراق قبل غزو 2003، تشتت العرب، فقد كانت المسألة أكبر من الجميع. إن الاختبار الحالي المتعلق بإيران يطرح تجربة جديدة، إذ إنه يرتبط بواحدة من الالتباسات الكبري في القواعد المتعلقة بنظرية الأمن القومي، أو مابقي في الأذهان والصحف والتيارات والمشاعر منها، فقد كان مايسمي في النظرية "دول الجوار" يمثل دائما مشكلة، إذ إن التقدير العربي لما تمثله تلك الدول التي هي في العادة إيران وتركيا وأحيانا إثيوبيا، يتراوح بين توجهين: الأول، يري أنها مصدر تهديد محتمل لأمن الدول العربية، ويرتبط هذا التوجه بمسألة مستقرة هي أن النظرية كانت دائما تميل إلي أن تكون صراعية، كما أنها تميل إلي معاداة الآخرين، أو علي الأقل اعتبارهم مشكلة يمكن أن تتفجر في أي وقت، وكثيرا ما انفجرت بأشكال عنيفة، والتاريخ موجود. الثاني، يري أن تلك الدول تحتل مقعدا محايدا فمن الممكن أن تكون عدوا محتملا أو صديقا محتملا، وفقا للظروف، وبالتالي فإنها من الممكن أن تمثل دعما للمصالح العربية، أو تهديدا للأمن العربي، وبالتالي لايوجد موقف محدد منها يتجاوز الشك العادي أوالاقتراب الحذر. كان هذا هو الإطار العام الذي يحكم التوجهات الموجودة في الهواء والتي تعبر عن نفسها في الكتابات والقنوات والندوات، أما علي الأرض فقد كانت المسألة مثيرة للغاية، فلم يكن هناك نمط واحد أبدا لعلاقات الدول العربية عموما مع دول الجوار، بل إن دول الجوار كانت جزءا من معادلة العلاقات العربية، فقد كان المسئول الأساسي عن فكرة أن إيران مصدر تهديد هو العراق، ولأن إيران دولة مقلقة بالفعل، فقد تبنت معظم دول الخليج هذا التوجه، واقتربت مصر أيضا منه بفعل استهداف إيران لها مرارا بسبب ودون سبب. لكن لأن إيران مقلقة للعراق (في عهد صدام حسين) كانت سوريا حليفة قوية لها، بل ودعمتها في حربها ضد العراق، كما أن دولا عربية أخري مثل السودان في ظل حكم الترابي قد ارتبطت بما سمي علاقة استراتيجية معها، أقلقت مصر أحيانا. علي الجانب الآخر، كان المسئول الرئيسي عن التوجه الخاص باعتبار تركيا مشكلة هو سوريا، وكانت هناك جولات من الجدل داخل الجامعة العربية خلال صياغة بعض الوثائق بهذا الشأن، وكانت هناك بالفعل مشكلات بينهما وصلت إلي حد التهديد بانفجار حرب، لكن كل الدول العربية تقريبا كانت تربطها علاقات وثيقة للغاية اقتصادية وسياسية وأحيانا عسكرية مع تركيا، إلا أن تركيا عادت لتدخل في "خانة التوجه الثاني" عندما بدأت تعمق علاقاتها العسكرية مع إسرائيل، علي نحو أثار ضجة في المنطقة، تجاوزت الحدود المعقولة، لكنها في النهاية جعلت تركيا في التفكير العام هي ذلك "الصديق أو التهديد المحتمل" في التفكير العربي. إن مشكلة "المحتمل" تلك هي التي أدت إلي ارتباك في التفكير العربي العام ، بشأن مشكلة البرنامج النووي الإيراني، الذي بدا أحيانا _ استنادا علي مؤشرات محددة _ أنه قد يتجه نحو التحول إلي سلاح نووي، فالدول العربية لم تتخذ أي موقف معلن لفترة طويلة جدا تجاه المسألة وكأن مايجري بشأنها يحدث في إقليم آخر تماما، أو أنها مشكلة إيرانية أمريكية لاتهم الدول العربية في شئ، أو كأن احتمالات ظهور سلاح نووي آخر في المنطقة مجرد تطور عادي، وعندما بدأت دول مجلس التعاون الخليجي تعرب عن قلقها مما يحدث بجوارها، كتب أحد مديري مركز الدراسات الخليجية المهمة مقالا بعنوان "وأخيرا نطق الخليجيون"، أو ماشابه، مؤكدا أن المركز كان يهتم، لكن الدول كانت فيما يبدو تفضل الصمت، وبعدها بدأت الدول تنطق، لكن بطريقة تستحق التحليل في حد ذاتها، علي الرغم من وجود ملابسات، والتفسير العاقل هنا هو أن إيران تقع ضمن "المحتمل". علي الجانب الأكثر ظهورا في التفكير العربي، عبرت فكرة المحتمل عن نفسها بتطرف شديد في بعض الأحوال، فهناك تيار من الكتابات ترك المشكلة تماما وكأنها لاتعنيه مركزا كل اهتمامه علي الطريقة التي تتعامل بها الولاياتالمتحدة مع المشكلة، مع طرح السؤال الشهير المشروع الخاص بإسرائيل، دون نقاش حقيقي لما يحيط بالموضوع هذه المرة، وهناك تيار آخر ظهر في كثير من صحف الخليج يناقش المسألة النووية الإيرانية بشكل مباشر من جوانبها التي تثير هواجس خليجية لانهاية لها بصرف النظر عن هموم الطرف الأول، وعندما تدخلت الجامعة العربية في الموضوع لتطرح رؤيتها التقليدية في ظل هذا النوع من التجاذبات، إنفجرت عدة قنابل صوتية في وجه السيد عمرو موسي الذي اضطر إلي توضيح الموقف، ثم ترك المسألة تسير، فاختبار "دول الجوار" يشير إلي وجود "فتنة" من الأفضل أن تظل نائمة إلي حين.