توصلنا في سطور المقال السابق أن « داعش » على عكس « القاعدة » في نظرتها إلي فكرة إنشاء دولة ، فمسألة الدولة هي في صلب تطلعات وأحلام داعش ، و منذ سنوات الجهاد الأولى في العراق أطلق التنظيم على نفسه اسم « الدولة الإسلامية في العراق » ، وراح يراكم التجارب في إدارة المناطق التي سيطرعليها مستفيداً من الخبرات الكبيرة التي يملكها قادته الجدد من ضباط الجيش العراقي السابق . فتم تنظيم الدوائر والإدارات التي تشكل قوام الدولة وعصبها ، وتم صبغتها باللون الداعشي ، ف « إدارة التوحش » وضبط المناطق الجامحة والسيطرة على الفوضى، عبارات لطالما وردت في أدبيات الجماعة ، وجاء الوقت وبدأ التنظيم يمارسها بحسبانها وسيلة الحكم وطريقاً ل « تثبيت الخلافة » . وفي هذا السبيل وفر « داعش » نظاماً صارماً من العقوبات ومن الأمن ومن الخدمات ، لم يسبق أن طرحته أو فكرت فيه القاعدة أو جميع من خرجوا من رحم « السلفية الجهادية ». وفلسفة تنظيم داعش وهو يتعجل الوقت لإقامة دولته برجماتية واقعية لأبعد الحدود، فهو في حالة الاستعجال التي يلهث فيها وراء حلم الدولة المشئومة يضع نصب عينيه أنه لا يفترض حدوث انهيار كامل للدول التي سيقيم دولته الكبري عليها ، كما أنه لا ينتظر فراغاً تام في السلطة ، بل هو يشعل الفوضي .. يعمقها ليصل لإقامة الدولة في عالم نصف واقعي ونصف خيالي .. وعلي أمل أن يتحقق بضرباتهم الانهيار الكامل للدولة والفراغ التام ، هنا تظهر دولتهم كجبل الجليد الذي يطفو بأكمله فجاءه علي سطح الماء .. والطبيعة المتفردة للعمليات العسكرية للدواعش تتفق مع هدفهم في إنشاء دولة علي وجه السرعة ، فعمليات داعش وما تتسم به من وحشية غير مسبوقة في تاريخ السلفية الجهادية تتجاوز منطق وغرض استهداف الدول لمجرد هز أمنها في الحد الأدنى أو حتي ابتزازها في الحد الأقصى ، وكذا الخطاب الإعلامي والسياسي الذي يصدره الأبالسة للدول التي يعيثون فيها فساداً كالعراق وسوريا وليبيا أو التي يتحينون الفرصة لاستهدافها كمصر وتونس والسعودية يقول بكل غرور أننا لم نعد نكتفي بتفجير هنا أو تفجير هناك ، فهذا المنهج يعني أننا ضعفاء ولا نفعل سوي سرقة الأمن والإخلال بالاستقرار ، إن ما نريده ليس فقط تهديد سلم دولة وإنما أخذ الدولة بكاملها كغنيمة .. لذا نحن مع داعش في حالة حربية مختلفة .. مواجهة مختلفة .. منطق مختلف ؛ فكل شئ في هذه الدولة الشيطانية جد مختلف . حالة الرغبة المحمومة لدي البغدادي وأوباشه في تحقيق الحلم بكامله علي أرض الواقع يجعلهم يضربون بلا هوادة ، لكنهم يتوحشون في ضرباتهم ليس خوفاً من ضياع نصف الحلم المنتظر بل حتي لا يفقدون النصف الذي صافح الواقع .. ننظر إلي الموصل مثلاً ، أبتلعه الدواعش بسهولة قياسية تُميت القلب السليم كمداً وغيظاً ، والموصل في حقيقتها نصف الدولة العراقية في عالم الواقع ، أليست هي العاصمة الثانية بعد بغداد ، أليست الموصل هي تلك المحافظة الشاسعة التي إن سيطرت عليها تكون قد أطبقت علي ثلث جغرافية العراق وديموجرافيته .. الموصل نصف الدولة المحقق للدواعش ، وهي نفسها نصف الدولة المنتظر ؛ وتبسيط ذلك أن استمرارية وحدة العراق الحبيب متوقفة علي إعادة الموصل إلي كنف العراق ، في حين أن ولادة الدولة الإسلامية الكاملة يتطلب بقاء الموصل بيد داعش . ووسيلة داعش في الحفاظ علي مكتسباتها علي أرض الواقع يتمثل في قسوة القتل وشدة وطأة العنف الدموي المبتكر الذي ينزل الرعب بالقلوب والعقول .. لكن الرعب الأشد هو المجهول الذي وضع فيه تنظيم داعش جميع أعداءه ، فهذا المجهول حتى يتحول إلي معلوم يكون قد أقتلع السكينة من القلوب .. وهو المطلوب لمشروعهم الإجرامي . فالجديد في الرعب الذي تصنعه داعش لتوطيد أركان دولتها أن هذا الرعب يكمن في المجهول وغموضه ، رعب يترصد كل من يقف في وجه إقامة الخلافة ، فهذه الخلافة المُبشر بها يجب أن تمتد وفق الرؤية الشرعية لأبي بكر البغدادي إلي كل بلاد العرب والإسلام ، وبذا فكل من يدب علي هذه الجغرافيا بات مهدداً ، ومعادلة الرعب التي يبشر بها الطغاة تقوم علي ركيزة انه ما دام أن الخلافة قد أعلنها خليفتهم فإن التهديد بذلك وصل للجميع . فأنت مع داعش لا تحتاج إلي تهديد مسبق لتتأهب لوضعية أنك صرت هدف مستقبلي حتمي له . وفي الختام اللَّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ .. وبعونه تعالي عراقنا قادم ، وشامنا قادم ..