الخلافات الخليجية لم تعد خلافات رومانسية من نوع الاتفاق على التعرفة الجمركية أو العملة الموحدة أو التنقل ببطاقة الهوية. بحذر ممزوج بالرومانسية، يرحب الخليجيون، بانقشاع سحابة الصيف التي ظللت مسيرة مجلس التعاون، ويرون في عودة السفراء طياً لصفحة الخلاف، وبداية جديدة للعمل الخليجي المشترك. في ميزان الخلافات العربية العربية، لا تؤخذ الخلافات الخليجية مأخذ الجد، وينظر لها في العادة كمماحكات عابرة أقرب إلى الخلافات الشخصية منها للخلافات التقليدية بين الدول. وهذا صحيح إلى حد كبير فدول الخليج ليست مختلفة إيدولوجيا، كحال الدول العربية الأخرى التي عاشت خلافات إيديولوجية وصلت أحيانا حد المواجهات المسلحة. كما أن دول الخليج لا تعبر في خلافاتها عن تحالفات، و لا تنحاز إلى محاور، فهي ومهما كانت طبيعة الخلاف وحجمه تبحر في نفس القارب وتحمل نفس التوجهات، وهي أخيرا وبالرغم من بعض الخلافات الصغيرة هنا وهناك، لا تتنازع على الحدود، إلا في نطاق ضيق لا يتسع، وهي في تواصل دوؤب لا ينقطع. هذا المناخ الذي قام في ظله مجلس التعاون عام 1980، هو مناخ مختلف الآن.ففي العام الذي تأسس فيه المجلس كانت دول التعاون الست في أتون حرب ضروس بين العراق وإيران، وهي وإن لم تشارك مباشرة في تلك الحرب إلا أنها كانت معنية بها ووقودا لبعض تداعياتها،فكان الهم الأساسي لدول التعاون في ذلك الوقت الهم الخارجي، الإقليمي القريب، أو الدولي البعيد . في ذلك الوقت وفي ظل أجواء الحرب الباردة، التي ظللت العالم العربي وقسمته بين معسكرين، لم يكن بمقدور دول الخليج أن تفصح عن خياراتها السياسية وأولوياتها الأمنية، لم يكن بمقدورها مثلا أن تطلب من الولاياتالمتحدة – كما تفعل الآن – أن تساعدها في مواجهة بعض التهديدات. وكانت تضطر بسبب الخطاب العربي المتشنج السائد، في ذلك الوقت للتحايل على مثل هذا الطلب وتغليفه بأشكال وترتيبات سياسية وإعلامية، حتى لا تستفز أطرافا عربية كانت تعتبر الاستعانة بالغرب عموما والأمريكان خصوصا نوعا من الكفر أو الخروج من الملة. الكويت مثلا التي واجهت صادراتها النفطية تهديدا إبان الحرب العراقية الإيرانية والتي عرفت آنذاك بحرب الناقلات، اضطرت في سبيل حماية ناقلاتها من الهجمات الإيرانية إلى رفع أعلام سوفياتية على ناقلاتها، من أجل " تبيض" قرارها برفع أعلام أمريكية. اليوم يتغير الموقف فالتحالفات الخارجية لدول المجلس أصبحت خيارا وطنيا، لا يتأثر برأي دول الجوار مهما كانت طبيعة الروابط معها، أو شكل الحسابات بينها وبينهم، كما أن الدول الخليجية لم تعد تتحرج من أي ترتيبات عسكرية أو أمنية كما كان الحال في حقبة السبعينات والثمانيات عندما كانت تهم العمالة للأجنبي، تهما جاهزة والتشهير أمرا مباحا ومشروعا، ورأي الغير هام ومؤثر. في ظل هذا التغير في المناخ السياسي الذي يحيط بدول الخليج، فإن منظومة مجلس التعاون فقدت أحد أهم مبررات قيامها، فهي لم تعد كما في أدبيات البدايات، الخيار الأمثل، أو الوحيد للدول الأعضاء عندما يتعلق الأمر بأمنها الوطني، أو خياراتها وتحالفاتها السياسية. والهواجس الأمنية بشكلها السابق، لم تعد مرتبطة بالظروف السياسية والإقليمية كما في المرحلة التي شهدت قيام المجلس، ولذلك فإن الحماس الذي كنا نشهده في السنوات الأولى من عمر المجلس، والأدبيات التي لخصت الآمال التي علقت عليه لم تعد موجودة أو على الأقل فقدت حرارتها وبريقها. وأكثر من ذلك فإن التعاون الاقتصادي والتنسيق بين قطاعات العمل المختلفة في دول المجلس، يتعثر لا بسبب غياب الرغبة في التعاون والتنسيق بل لأن الأطر والتشريعات الخليجية المشتركة التي نجح مجلس التعاون في إبرامها، خلال مسيرة المجلس باتت أطرا ضيقة وغير قادرة على احتواء التطور الذي شهدته دول المجلس والتضخم في حجم اقتصاداتها والتمدد في شبكة علاقاتها الاقتصادية إقليميا ودوليا. ولهذا السبب فإن الخلافات بين دول المجلس ليست خلافات حول دور وفعالية المنظومة الخليجية ولا على الالتزامات الناشئة عنها، بل هي خلافات أخرى مختلفة، تعبر عن تضخم الطموحات وتنافس الأدوار بعد أن اصبحت الدول الأعضاء قادرة بذاتها على تحقيق مكانة خاصة لها في الساحة الدولية، دون استقواء بالتنسيق الخليجي أو الاعتماد عليه. تضخم الطموحات الوطنية، وتنافس الأدوار، هو ما سيضع دول المجلس باستمرار، أمام اختبارات سياسية. وقد لا يكون الخلاف الذي طويت صفحته بالرياض، هو الخلاف الأول والأخير . فالخلافات لم تعد خلافات رومانسية من نوع الاتفاق على التعرفة الجمركية أو العملة الموحدة أو التنقل ببطاقة الهوية بل هي خلافات أبعد كالعلاقة مع جماعات وتنظيمات متشددة وتباين حول الدور الذي تلعبه هذه الجماعات والتنظيمات لا على مستوى المنطقة بل على المستوى العربي أيضا. مثل هذا الخلاف لا يهدد الأمن الجماعي للدول الأعضاء بل الأمن الوطني لكل منها وهو ما يصعب قبوله أو السكوت عنه .