جرت محاولة أخرى لإحياء التعاليم الوهابية في منتصف الستينيات من القرن الماضي من قبل شباب يتحدّر بعضهم من «الإخوان النجديون» بتأسيس جماعة دعوية أطلقت على نفسها «الجماعة السلفية المحتسبة»، واختارت المفتي السابق للسعودية الشيخ عبد العزيز بن باز، مرشداً لها، وما لبث أن طوّر قادة الجماعة من أفكارها وأساليبها وراحوا يصوغون رؤية دينية وسياسية والانتقال من مرحلة الدعوة السلمية إلى مرحلة المواجهة المسلحة ، ليس من أجل إعادة وهبنة الدولة السعودية فحسب بل والانتقال إلى مرحلة متقدّمة في الصراع الكوني، والذي توّج باندلاع حركة تمرّد مهدويّة داخل الحرم المكي في نوفمبر 1979 بقيادة جهيمان العتيبي الذي قتل ورفاق دربه وفشلت الحركة في تحقيق أهدافها. وباليقين ، من يقرأ سيرة قيادات عصابات داعش يجد أن هؤلاء تشرّبوا حتى الثمالة بتعاليم الوهابية ، فنجد أن رسائل جهيمان باتت مكوّناً أساسياً في أدبيات السلفية الجهادية الممثلة حالياً في القاعدة وداعش . فقد حدّد جهيمان في «رسالة الإمارة والبيعة والطاعة وحكم تلبيس الحكام على طلبة العلم والعامة»، وظيفة الحاكم وقال بأن «واجب الخليفة هو تحكيم الشريعة»، و إلا «فقد ضل عن سبيل الله...». كان يعتقد جهيمان بأن واقع حال المملكة السعودية هو «تعطيل الحكم بكتاب الله». توارى جهيمان جسداً وبقيت أفكاره تتفاعل في طبقات المجتمع الوهابي، وبعد غزو نظام صدام حسين للكويت في أغسطس 1990، ولدت حركة اعتراضية من داخل المجتمع الوهابي عرفت لاحقاً بتيار الصحوة بقيادة مشايخ من الطبقة الثانية في المنظومة الوهابية في المملكة السعودية أمثال: سفر الحوالي وسلمان العودة وناصر العمر وعادل الكلباني وغيرهم، وزوّدوا الساحة المحلية بفيض هائل من الخطابات الاحتجاجية ضد المخالفات الشرعية للنظام السعودي في ضوء ما ورد في رسائل جهيمان. وكان إصدار «مذكرة النصيحة» في يوليو 1992 والتي حملت توقيعات 108 من المشايخ والقضاة والدعاة وأساتذة الجامعات الدينية والأكاديميين والأطباء والمهندسين المصنّفين على التيار الديني الوهابي، يعتبر ذروة النشاط الاحتجاجي الوهابي في المملكة، حيث طالب الموقّعون بإعادة أسلمة الدولة السعودية على منهج الشيخ محمد بن عبد الوهاب. وكان المطلب الرئيسي في «المذكرة»: «وجوب التحاكم إلى شرع الله وتحكيمه في جميع شؤون الفرد والأسرة والدولة وفي علاقة الأمة بالدولة، وفي علاقة الدولة والأمة بغيرهما من الدول والأمم...». وبالعودة إلى أدبيات القاعدة، سوف يظهر بأن التركة الصحوية الوهابية ، خصوصاً ما يتعلق منها بالسعودية، شكّلت الخلفية الفكرية والسياسية لتنظيمات السلفية الجهادية في الجزيرة العربية المرتبطة بالقاعدة، واندمجت بصورة تلقائية وسلسة في البنية الإيديولوجية لدى عصابات داعش . من الضروري لفت الانتباه إلى أن عقيدة «داعش» لا تختلف عن عقيدة أي تنظيم سلفي جهادي أو صحوي. وعودة سريعة إلى المكتبة العقدية المنتشرة على المواقع الالكترونية لتنظيم «داعش» تكشف عن الهوية العقدية لدى التنظيم. من نافل القول، إن مؤلفات محمد بن عبد الوهاب مثل «كتاب التوحيد» و«كشف الشبهات» و«نواقض الإسلام»، وغيرها يجرى توزيعها في المناطق الخاضعة لسيطرة «داعش»، ويتم تدريسها وشرحها في الدروس الدينية الخاصة التي يعقدها الجهاز التربوي في التنظيم. علاوة على ذلك، من يقرأ سيرة أفراد الطبقة القيادية في تنظيم «دولة العراق الإسلامية» وتالياً «الدولة الإسلامية في العراق والشام» أو «الدولة الإسلامية» سوف يجد وبسهولة متناهية أن هؤلاء تشرّبوا العقيدة الوهابية وأتقنوا العمل بكل تفاصيلها... بل يتعمَّد كتّاب سيرهم التشديد على عبارة «يسير على منهج السلف»، أي يعتنق المذهب الحنبلي الوهابي. هذا ما نقرأه في سيرة: ابو عمر البغدادي وخلفه أبو بكر البغدادي، ووزير الحرب السابق أبو حمزة المهاجر المصري، ووزير الأعلام والمتحدث الرسمي باسم الدولة أبو محمد العدناني الشامي وغيرهم. أبو عمر البغدادي، الموسوم أول أمير للمؤمنين في «دولة العراق الإسلامية» عام 2006، صاغ على سبيل المثال ثوابت دولته المأمولة فكانت سلفية وهابية، وهو من أعدّ الوثيقة التعريفية بعقيدة «الدولة» ومن بين أهدافها: أولاً: إقامة الدين ونشر التوحيد «الذي هو الغاية من خلق الناس وإيجادهم والدعوة إلى الإسلام...». وهو التعريف الذي يمكن العثور عليه في رسائل الشيخ محمد بن عبد الوهاب وشروحات كتاب التوحيد من مشايخ الوهابية. إذاً مشروع «داعش» ليس شيئاً آخر غير إعادة إحياء وهابية الجيل المؤسس الذي حاربتها الدولة السعودية الثالثة في السبلة .. وهو ما يبعث بلا ريب القلق لدى آل سعود، لأن التصحيح المزعوم في المشروع الوهابي يأتي هذه المرة من خارج الدولة السعودية، ويبطن تقويضاً لمشروعيتها. وشأن كل التنظيمات السلفية الوهابية، فإن تكفير الآخر، مسلماً كان أم كتابياً، بات سمة راسخة في عقيدتها، ببساطة لأن المواصفات الصارمة المطلوبة في الإنسان المسلم بحسب رؤية هذه التنظيمات لا تنطبق سوى على المنضوين تحت راية الوهابية. الطريف أن قيادة تنظيم «داعش» تلوذ بالمنطق ذاته لدى محمد بن عبد الوهاب حين وجّهت له تهمة التساهل في تكفير المخالفين. يقول أبو عمر البغدادي في بيان عقيدة «الدولة» في كلمته بعنوان: (قُلْ إِنِّي عَلَى بَيِّنَةٍ مِن رَبِّي) في 13 مارس 2007: وقد رمانا الناس بأكاذيب كثيرة لا أصل لها في عقيدتنا، فادَّعوا أننا نكفر عوام المسلمين ونستحل دماءهم وأموالهم . وحين رد التهمة لجأ البغدادي الأول لمنهجية محمد بن عبد الوهاب نفسها في تكفير الآخر ولكن بطريقة مواربة. وحين نعود إلى المصنّفات الوهابية في التكفير لا نجد البغدادي إلا مقلّداً ومردّداً لمقولات الوهابية في التفكير. وثوابت «الدولة» كما حدّدها أبو عمر البغدادي تكاد تكون منقولة حرفياً من المرجعيات الوهابية مثل «وجوب هدم وإزالة كل مظاهر الشرك، وتحريم وسائله...»، و« من نطق بالشهادتين وأظهر لنا الإسلام ولم يتلبس بناقض من نواقض الإسلام عاملناه معاملة المسلمين...»، وأن «الكفر كفران: أكبر وأصغر»، و»وجوب التحاكم إلى شرع الله من خلال الترافع إلى المحاكم الشرعية في الدولة الإسلامية، والبحث عنها في حالة عدم العلم بها، لكون التحاكم إلى الطاغوت من القوانين الوضعية والفصول العشائرية ونحوها من نواقض الإسلام...». والنقطة الأخيرة تبدو واضحة في أن من يتحاكم إلى غير محاكم «الدولة» يكون قد ارتكب ناقضاً من نواقض الإسلام وبذلك يصبح كافراً، وبالتالي فإن الغالبية الساحقة من المسلمين هم كفّار كونهم يتحاكموا في غير محاكم «الدولة» ! كخلاصة، فإن داعش وفق المعطيات سالفة الذكر يمثّل أشد الجماعات التكفيرية إسرافاً في إطلاق أحكام التكفير حتى لا تكاد تجد مسلماً خارج نطاق «داعش»، وفي ذلك التزام أمين بالتصوّر الوهابي الأول للعالم. وللحديث بقية بمشيئة الله تعالي ..