سؤال يشغل الأنام ويختلف فيه أصحاب العقل وأرباب الإيمان .. هل الخطاب الديني حِكْرٌ ووقف على طائفة وجماعة محدّدة وهم علماء الدين المعممين ؟ أم يُتاح لجميع أتباع الدين أن يتكلّموا باسم الدين الذي وعظاً وإفتاءً، تأليفاً وتحقيقاً ؟ وما هي الضوابط أو الشروط التي يلزم توفّرها في القائمين على الخطاب الديني ليكون منسجماً وسليماً وهادفاً؟ غير خفيّ علينا أنَّ الخطاب الديني تتجاذبه في الواقع أطراف متعدّدة ومدارس متنوّعة في ثقافتها وأسلوبها ومنطلقاتها وأهدافها، والذي أعتقده أنّ أحد سُبُل مواجهة الموجات التكفيريّة التي تجتاح عالمنا العربي والإسلامي تفرض وتحتّم توافر مجموعة من الضوابط والمواصفات في الناطقين باسم الدين إفتاءً أو وعظاً، تعليماً وتدريساً، وأولى هذه الضوابط هي أن يكون المتحدِّث باسم الدين مزوّداً ومسلَّحاً من العلم والمعرفة بما يؤهّله للحديث عن الدين، وقد قال الله سبحانه: {وَلاَ تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْؤُولاً}[الإسراء: 36]. وقال تعالى: {هَاأَنتُمْ هَؤُلاء حَاجَجْتُمْ فِيمَا لَكُم بِهِ عِلمٌ فَلِمَ تُحَآجُّونَ فِيمَا لَيْسَ لَكُم بِهِ عِلْمٌ}[آل عمران: 66] . وإذا أخذنا بعين الاعتبار سِعة وعمق المعارف الدينية الإسلامية، باعتبار أنّ الإسلام هو عقيدةٌ وشريعةٌ ومنهج حياة متكامل، يكون من البديهي لزوم توفير وإعداد جماعة معيّنة تتخصّص في المعارف المذكورة وتكون مرجعاً للأُمة في هذا الشأن، وذلك في ظل عدم تمكّن جميع الناس من التخصّص والاجتهاد في القضايا الدينية، بل عدم منطقية ذلك، لأنّ من اللازم أن تُوزِّع الأُمة جهودها وطاقاتها في شتى الميادين والتخصصات التي يحتاج له الاجتماع الإنساني في عملية نهوضه وتطوّره وتكامله، وهذا ما أشارت له الآية الكريمة: {وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنفِرُواْ كَآفَّةً فَلَوْلاَ نَفَرَ مِن كُلِّ فِرْقَةٍ مِّنْهُمْ طَآئِفَةٌ لِّيَتَفَقَّهُواْ فِي الدِّينِ وَلِيُنذِرُواْ قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُواْ إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ}[التوبة: 122]، وقال سبحانه: {وَلْتَكُن مِّنكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ}[آل عمران: 104]. ومن الطبيعي بعد هذا أن يؤخذ الدين في عقيدته وشريعته ومفاهيمه من أهل الاختصاص، عملاً بالقاعدة العقلانية الجارية على رجوع الجاهل إلى العالم، والتي أرشد إليها القرآن بقوله تعالى: {فَاسْأَلُواْ أَهْلَ الذِّكْرِ إِن كُنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ} [الأنبياء: 7]. إلاّ أنّ واقع الأُمّة مغاير لذلك تماماً، حيث نشهد فوضوية شاملة في هذا المجال، فالكل يتكلم باسم الدين، سواءً مَن كان أهلاً لذلك أو مَن ليس أهلاً له، وهكذا يكثر المفتون والناطقون باسم الإسلام، وأخطر ما نواجهه في هذا المجال تصدّي جماعة من المراهقين أو أنصاف المتعلمين للعلوم الإسلامية لاسيّما من ذوي النزعات التكفيرية للإفتاء في صغار الأمور وكبارها، فتراهم يُحلّلون ويُحرّمون ويكفرون ويضلّلون ويهدرون دماء الأعداء والأصدقاء، المجرمين والأبرياء متجاوزين بذلك أكابر الفقهاء وذوي الحلّ والعقد، وبذلك أدخلوا الأُمة في نفق مظلم لا يعلم منتهاه إلا الله. إنّنا نلاحظ أنّ كلّ العلوم والتخصّصات قد تُخترق وينتحلها المتطفّلون، ففي مجال الطبّ- مثلاً- نجد أطباء ومتطبّبين ودعاة طبّ وهكذا في سائر العلوم، ولكن رغم ذلك، لا يصل الأمر إلى درجة الظاهرة المخيفة، لاسيّما في ظلِّ وجود رقابة وضوابط قانونية تجرم وتَحُول دون استفحال المشكلة، أما في المعارف الدينية فالأمر مختلف تماماً، فالمتطفّلون كثر، و"انتحال الصفة" يصل إلى درجة الظاهرة، ويعزّز ذلك غياب أجهزة الرقابة والمحاسبة في ظلّ عدم الالتزام بضوابط محدّدة ودقيقة في عملية الانتساب إلى طائفة الدعاة ، وهو ما سهّل الطريق وفتح الباب أمام الكثير من المخادعين والكسالى الذين يعتاشون باسم الدين وأمور الغيب، وكانت نتيجة ذلك كلّه ما نراه من كثرة الدكاكين المفتوحة باسم الدين و"العلم الروحاني" وقراءة الأكفّ والفناجين .. وتصل الفوضى في هذا المجال إلى مستوى أن يصبح الحقل الديني شرعة لكلّ وارد، ومرتعاً لكلّ شارد، فلا يتورّع حتى البقّال أو الجزار أو راعي الماعز والأبقار- مع احترامنا لأشخاصهم- من أن يُدلي كلّ بدلوه في مختلف القضايا الدينية، مع أنّه قد لا يملك ألف باء من علوم الإسلام. ولهذا، يكون لزاماً على كلّ الحريصين على الإسلام السعي لوضع حدٍّ لهذا الفلتان وهذه الفوضى، والعمل على تثقيف الأُمّة على احترام التخصّصات، لأنّ الأُمّة التي لا تحترم التخصّصات العلمية هي أُمّة لا تحترم نفسها، ولن توفّق في عملية النهوض، وكيف تنهض أُمّة يغدو كلّ فرد من أفرادها فقيهاً وطبيباً ومهندساً وفلكياً .. في آنٍ واحد، على الرّغم من اتجاه العالم إلى التخصّص حتى في فروع محدّدة من كلِّ علم من العلوم المذكورة، لصعوبة الإلمام بجوانب كلّ هذا العلم! وللحديث بقية بمشيئة الله تعالي ...