صلاح طاهر خدعنا بما سماه تجريدا! سيد هويدي محيط - سيد هويدي كشف معرض صلاح طاهر الذي أقيم في قاعة أفق واحد، عن جوانب في حياته الفنية، ظلت غائبة لفترات طويلة، سوف نأتي علي ذكرها في السياق التالي، لكن أبرزها علي الإطلاق هو أن المعرض كشف عن مستويين، يمثلان إسهام واحد من أكثر الفنانين شهرة في النصف الثاني من القرن العشرين، المستوي الأول: والذي ظهر منه جزء كبير في معرض أفق، ممثلا في رسم المنظر الطبيعي والموديل العاري، علي نحو عادي وأقل من العادي، والذي قال عنه د.صبحي الشاروني في الكتالوج المصاحب للمعرض: عرف بأسلوبه المدرسي الذي يقترب من التصوير الفوتوغرافي، ويذهب الشاروني إلي فضاء ملتبس عندما يقول: "لم يكن صلاح طاهر ينفرد بهذا الاتجاه بين أبناء جيله، وإنما كان تصوير المنظر والأشخاص مع إبراز الحلاوة الشكلية، هو هدف معظم الرسامين في مصر حتى الحرب العالمية الثانية". ويبدو أن الشاروني تناسي نشاط فناني جماعة الفن والحرية، وفرسان الفن المعاصر، في سعيهم إلي ذائقة جديدة، تتجاوز الرغبات التزيينية للطبقة المخملية المترفة، التي كان يستهدفها صلاح طاهر، ويقول عنها الشاروني: كان الفن ومحبوه في ذلك الوقت، من ذوي الثقافة الفنية المتعاطفة مع أساليب القرن التاسع عشر في أوروبا، وكانت المكانة التي يحتلها الفنان تتوقف علي مدي قدرته علي تلبية احتياجات هذا الجمهور، الذي يبحث عن لوحات تصلح للبراويز المذهبة لتعلق بالصالونات الفخمة في القصور، ويري الشاروني أن الفنان الموهوب هو الذي يلبي طلبات هذه الطبقة!!. أما المرحلة الثانية، والتي ضمها المعرض أيضا، فهي المرحلة التي تحول فيها طاهر إلي تقنية جديدة، تتشابه مع اتجاه الأمريكي جاكسون بوللوك، في الفترة من 1947 الي1953 إلي تقنية تعتمد اعتمادا كليا علي الصدفة، والحدث العرضي، وإن كان بوللوك يهدف وقتها إلي البحث من خلال هذه التقنية عن الحرية والتمرد، علي طريقة السرياليين الكبار(أرنس لوحة لصلاح طاهر ت، ماسون، ومتي) فقد استبدل بوللوك الفرشاة بالمسطرين، مستخدما الرمل والزجاج المسحوق، فيما لجأ إلي صب الألوان السائلة علي المسطح علي طريقة أندريه ماسون. وكان صلاح طاهر قد طار إلي أمريكا في العام 1956، وبعد عودته من أمريكا مباشرة، انقلب علي طريقته التقليدية، التي كان يلبي فيها طلبات الطبقة المخملية، عندما لجأ إلي تقنية مشابهة، لتقنيات جاكسون بوللوك، وفرنتس كلين (19111962)، الذي استخدم الاسفنجة في التلوين، فيما استخدم صلاح طاهر آلة حادة (سكين الألوان)، أو قطعة كرتون، في توزيع اللون علي مسطح اللوحة. وفي الوقت الذي واجه الفن اللاشكلي، الذي كان يحاول بوللوك تمريره، اعتراضات وصلت إلي حد الرفض، في موطنه سواء أوروبا أو أمريكا، نشط صلاح طاهر، بحماس شديد في إنتاج لوحاته الجديدة، ودعا إليها، وظل ينتج آلاف اللوحات، بسبب سهولة التقنية التي توصل إليها وقال عنها الفنان صالح رضا نقيب الفنانين التشكيليين السابق، إن لوحاته تشبه طريقة صناعة "العجة"، ولا ترقي إلي مستوي طالب في سنة أولي بكلية الفنون. فيما يذكر الشاروني في كتالوج المعرض: ظهر التناقض في حياة الفنان مع بداية الخمسينيات، وظهور تحولات اجتماعية عميقة في المجتمع المصري، أدت إلي اختفاء طبقات اجتماعية بأكملها.. وأدي هذا التحول الاجتماعي إلي زيادة حدة التناقض الذاتي عند الفنان، وكان يتمثل في رسمه الأشكال بالأسلوب الوصفي، بينما قراءاته وتذوقه للموسيقي، يسيران في اتجاه رفض النقل الحرفي من الطبيعة. لوحة لصلاح طاهر ويضيف الشاروني، وهكذا تكاتفت العوامل الذاتية مع العوامل الاجتماعية مع العوامل الاقتصادية، لتدفع صلاح طاهر إلي تغيير حاسم في أسلوبه الفني، فتحول إلي التجريدية وهو في الرابعة والأربعين من عمره، وكان التحول مفاجئا بالنسبة لمتابعيه، خاصة وأنه اتخذ شكلا مسرحيا عندما وقف بين عدد من الفنانين وقال بأسلوب التحدي: "ما حكاية هؤلاء التجريديين؟ أيحسبون أنهم يفعلون شيئا خارقا؟ إنني أستطيع أن أتفوق عليهم". التفوق الذي أراده صلاح طاهر اعتمد علي إحداث تقنية تتيح له العمل والإنتاج، بدليل إنجازه هذا العدد الكبير من اللوحات، علي خلاف ما نراه في لوحات رمسيس يونان، بينما تجريدية منير كنعان (19192000) تعكس فكرا يتجاوز الشكل الظاهري العابر والسطحي، إلي العمق علي نحو يلتقي مع مقولة الفنان الروسي الأصل فاسيلي كاندانسكي، التجريد هو الضرورة الداخلية، بعد إنجازه أول لوحة تجريدية في العام 1910. أما التجريد كأهم الظواهر الفنية، في القرن العشرين، فتمتد جذوره إلي خربشات رسامي الكهوف، ويأتي نتيجة لتطور بطيء لا تبدل مفاجئ، نضج فيه الشكل علي نحو تراكمي علي مدار قرون، بعد أن فقد الشئ الممثل أهميته، وحلت الفكرة محل الصورة في مجال التعبير الفني، كنتيجة لتحرر الفنان إزاء الموضوع، وتبدل الرؤية الفنية، وليس التقنية، كما فعل صلاح طاهر، فإذا كان الفن في السابق يحاكي الطبيعة ويصور العالم المرئي كي ينقل إلينا نموذجا عنه مثاليا، بات الآن يتعامل مع الفكرة والشعور والحس، أو ما يسميه الروسي الأصل فاسيلي كاندانسكي (الضرورة الداخلية)، في محاولة لجعل اللامرئي مرئيا، حسب تعبير بول كلي. كما إن الحركة التي وجهت الفنون التشكيلية نحو التجريد، ليست في معزل عن واقع ظروف تاريخية واجتماعية لفترة زمنية محددة، كانعكاس لتبدل في الأعراف والأفكار نتيجة التطور العلمي والفلسفات الجديدة المرتبطة بمعطيات المجتمع الصناعي مع بدايات القرن العشرين.. وكان صلاح طاهر واحدا من فناني الجيل الثاني في الحركة التشكيلية المصرية، ورئيس جمعية محبي الفنون الجميلة السابق، قد ارتبط لفترات طويلة بالعمل العام، وهو واحد من أكثر الفنانين في تاريخ حركة التشكيل المصري المعاصر، غزارة في الإنتاج "18 ألف لوحة"، حيث يتراءى إلي البعض أنه لم يفارق لوحته، وحامل الرسم والألوان، طوال حياته، حتى ينجز هذا العدد من اللوحات، لكنها التقنية السهلة التي استخدمها في التلوين والتناول، فنفعته. من لوحات صلاح طاهر يعترف ابن حي العباسية الشرقية والذي ولد في 12 مايو عام 1912 ، بأنه كان تلميذا غير مجتهد، فقد كانت تطلعاته تتجاوز حدود أسوار المدرسة، حيث أصبح في سن السابعة عشرة بطل مصر في الملاكمة، ولمدة أربع سنوات متتالية، وفي وقت كانت المدارس تتيح لطلاب العلم الانضمام إلي مجموعات الرسم، والموسيقي، وفرص تكوين فرق للتمثيل والغناء والخطابة، تعرف "صلاح طاهر" علي زميل الدراسة نجيب محفوظ، بل إن الأخ الأكبر للأديب الكبير صاحب نوبل كان يقوم بمهمة التدريس للتلميذ، أما صديق الحي والشارع فكان الشاب الموسيقي "مدحت عاصم" الذي أصبح واحداً من أهم الموسيقيين في جيله، تلك هي البيئة التي نشأ فيها "صلاح طاهر"، بيئة حفزته علي ألا يكون واحدا في الصفوف الخلفية. درس "صلاح طاهر" في مدرسة الفنون العليا علي أيدي المصورين "أينوشنتي"، "بريفال"، في وقت كان فيه الفنانون الأوروبيون هم أصحاب مهمة تدريس الفنون، تخرج صلاح طاهر في مدرسة الفنون العليا، في الوقت الذي كانت فيه الأوساط الثقافية تترقب، وتنتظر عودة فناني الرعيل الأول الذي تخرج في المدرسة، التي أنشأها الأمير يوسف كمال عام 1908، من بعثاتهم الأوروبية لأول مرة، بينما كانت الثقافة المصرية في عشرينيات القرن العشرين تمر بحالة من الازدواجية، بين تيار يولي وجهه للغرب، وتيار يبحث عن سبل النهضة، من خلال دوافع الإبداع الذاتي المستمدة من التراث، وكان التياران قد ازداد بينهما الانفصال في تلك الفترة، مع تنامي الحركة الوطنية المطالبة بالاستقلال وتبلور الشخصية القومية، وكانت الأرستقراطية القادرة علي اقتناء الفن، تتبني البرجوازية الناشئة ممثلة في التيار الثاني، لكن ظهر تيار ثالث سرعان ما تسيد الحركة الثقافية، يدعو للثقافة الإنسانية الشاملة، وللتوفيق بين التيارين، وكان زعماؤه يستمدون ثقافتهم من ثقافة حوض البحر الأبيض المتوسط، ويبحثون عن أواصر تجمعها بثقافتنا القديمة، ما الذي ينبغي اقتباسه من أوروبا. لم تكن البدايات بأي حال من الأحوال سهلة، سواء بشكل عام، أو لدي فنان يتلمس طريقه، خاصة "صلاح طاهر" شاب يمتلك طاقة هائلة، فيما يشبه أبطال الملاحم الإغريقية، لدرجة أن إحدى وسائل تفريغ طاقته، هي لجوؤه إلي رياضة عنيفة كالملاكمة، وإن كان ظل طوال حياته الفنية يخجل من ذكر اختياره هذا، علي الرغم من حصوله في هذا المضمار علي جوائز كثيرة! وفي المنيا أقام أول معرض له في العام 1935، إلا أن معرضه الثاني جاء بالإسكندرية "1939"، والتي شد الرحال إليها، تأثر فيه بتعاليم أستاذه "أحمد صبري" (1889-1955). وحرص علي أقامة معرض سنوي، اختير صلاح طاهر كأول مشرف لمرسم الأقصر في عام 1943، حيث كان يحظي بعضوية المرسم المتفوقون من خريجي أقسام الفنون بكلية الفنون الجميلة لمدة لا تقل عن عامين، يقضونها في تفرغ تام للعمل الفني، شتاءً بالأقصر، بمعية الأجداد الفراعنة، وبين تراث مدينة طيبة، أولي المدائن في التاريخ، وصيفًا بحي الغورية بالقاهرة حيث التراث المعماري الإسلامي والحياة الشعبية في المدينة والأصالة. جاء معرضه الثالث بالنادي الثقافي بالقاهرة في عام 1953، تتويجا لعشر سنوات من المشاهدات والمعارف والخبرات سواء النظرية أو العملية وهو المعرض الذي قدمه للصفوف الأولي في الحركة الفنية المعاصرة، مع النصف الثاني من القرن العشرين، في وقت كانت مصر تبني قواعد نهضة حديثة، بعد انتصار الضباط الأحرار في العام 1952 ، في إرساء نظم جديدة سواء سياسية أو اقتصادية أو اجتماعية، حيث تولي "صلاح طاهر" إدارة متحف الفن الحديث بالقاهرة، والذي احتل قصر هدى شعراوي بشارع قصر النيل وسط المدينة، وذلك في عام 1954. كانت ثقافة "صلاح طاهر" قد اتجهت بوصلتها إلي فنون المعرفة، سواء الأدب أو الفلسفة أو الشعر والموسيقي باستثناء السياسة والاقتصاد اللذين يعلن في كل مناسبة أنه بعيد عنهما!!، وفي عام 1961 أصبح مديرا لإدارة الفنون الجميلة بوزارة الثقافة، فسعي لأن يصبح للفنانين مرسم يسمح بممارسة أنشطتهم الفنية في مناخ مناسب، وهو الاتجاه الذي شجعه وزير الثقافة الشعبية د. ثروت عكاشة، ووافق علي أن يتخذ الفنانون من وكالة الغوري مستقرا لهم، وملاذا بإقامة مراسم لهم فيها. مؤسسة الأهرام اعتبرته واحدا من أبنائها، فوفرت له جناحاً جاور فيه عمالقة عصره أمثال: توفيق الحكيم، نجيب محفوظ، إحسان عبد القدوس، فقد كان يحلو للكاتب توفيق الحكيم أن يطلق علي الجناح الذي خصصته الأهرام للفنانين والكتاب اسم (البرج العاجي)، وهو المكان الذي وفر للفنان التشكيلي صلاح طاهر مناخاً ثقافياً، نادراً ما يتوفر للفنانين التشكيليين، حيث كان المكان ملتقي للمفكرين والكتاب والشخصيات السياسية، والدبلوماسية، وأيضاً هيئة التحرير وعلي رأسهم "محمد حسنين هيكل". كما أنه أنجز لمبني مؤسسة الأهرام مجموعة كبيرة من اللوحات، يبلغ عددها قرابة 70 عملاً فنياً من الحجم الكبير "جداريات". وهو الجناح الذي أجريت معه فيه حوارا صحفيا، قبل عشرين عاما، وردا علي سؤال حول قضية الالتزام في الفن: جاء رده غاضبا، علي نحو صادم، حين قال: أنا لا أرسم للناس الذين يسيرون في الشارع، وأشار بيده علي شارع الجلاء، مضيفا أن هناك فنانين يرسمون لهم!! ويبقي أن صلاح طاهر صاحب سبق في وجود تقنية، وليس إضافة اتجاه فكري أو إبداع، بدليل عدم وجود امتداد، أصيل لما تناوله طوال حياته الفنية، وأفول نجم الجمعية محبي الفنون الجميلة التي رأسها رغم الدعم المالي الكبير من الدولة لها، إن ظل وجها إعلاميا، مناسبا تماما للمرحلة، مستفيدا من مناخ ثقافي ومتغيرات شائكة.