سوق الفن السنوي في بازل وأسئلة الوعي من سويسرا : يوسف ليمود جانب من المعارض رجع يونيو على مدينة بازل بسوقه السنوية "الآرت فير" التاسعة والثلاثين، الأكبر والأشهر في أوروبا، عام كامل كدائرة رُسمت بطباشير على أفق لاهث: "تولع حروب وتنطفي حروب"، حكومات تسقط "وامبراطوريات ترفع أعلامها في الوحل المعجون بالدم"، ومؤسسات فنٍ غامضة تنسج بذكاء في قميص العولمة، ومغازل فنّ تدور على قرون ثيران الحداثة، في كل لحظة وحدث، يمر عام طباشيري، قياسا على اللحظة نفسها أو الحدث في دورته الفلكية، فهل للزمن وجود؟ لكنها مناسَبة لتبييض كتاب الذاكرة وما كسبت يمينها في حوْل، فردية أكانت أم ما تسمّى بالذاكرة الجمعية.
وبما أنه يستحيل تغطية حدث ضخم كهذا، في تفاصيل محتوياته الفنية، فليكن التأمل العام، من منظار طائر، هو المحاولة والبديل، ولتكن الأسئلة بنكنوت هذا الحساب المفتوح ولو من دون فوائد. فالسؤال ينقذ صاحبه ولو ظل إلى النهاية بلا جواب، فكما تحتاج الحياة في كل مرحلة من سيرورتها إلى إعادة تقويم القيم "بحسب التعبير النيتشوي"، ففي سوق للفن أكثر بذخا من مروحة طاووس مفرودة، يكون الانسحاب إلى جنبات الجمجمة الذاتية ل"تفنيط" أوراقها واجباً لإنقاذ ما يمكن من خلاياها الخلاّقة والمحافظة على رقعة ذلك الممكن شفافة، ولو بين المرء ونفسه حالٌَ استحال على الآخر - أي الخارج، المستربِح حتى من ندى الفجر، أن يتفاعل معها بشفافية مثلها، فالقيمة هنا لا علاقة لها بالقيمة كما تفهمها الطبيعة الفنية، والحسابات هنا لا علاقة لها بالحسابات كما تعرفها لوغاريتمات الرياضة الفنية، والروح هنا لا علاقة لها بالروح التي وهبتها الطبيعةُ ذلك الكائنَ القوي الهش ذا البأس القابل للكسر الطيب الشرير الرقيق العنيف الرفيع المتواضع المتوحد المنقسم البلوري المعتم المبارك الملعون المدعو "فناناً" جانب من المعارض بورك في زناد سؤال يفتح استفهامات وعلامات تعجّب: عمّ يتفننون؟ ماذا يقول الخطاب المعاصر في خلاصته؟ ما علاقة الفن بالوعي، أو ما دور الوعي في الفن؟ والوعي بماذا، أو الوعي في أي اتجاه؟ وماذا أو من يتحكم في ذلك التوجّه؟ ما دور المؤسسة التي تستقطب، وما دور التاجر الوسيط، وما دور الذوق العام في أرجحة دفّة الفنان والحياد بمسارها عن مسؤوليته الوجودية التي ألقيت أمانةً على عنقه؟ ومن الذي في النهاية يحدد القيمة وتالياً الذوق؟ وما هو معيار القيمة، هل تقاس بالزمن المتاح أم باللازمن المتوجهة إليه الأشياء والخلائق في صيرورة غبارها؟ هل انتهى زمن الفنان النبي؟ وماذا يمكن أن يفعل ذلك النبي الذي أسقطت الحداثة عنه القداسة، إن وجد؟ هل استعاضت الحداثة، أو بالأحرى أساطين البورجوازية، من مؤسسةٍ إلى سمسار، ذلك الكبير بشمولية رؤيته وصفائها، بآخرين يُعمي لمعانهم الظاهري العينَ عن إدراك انطفاء أرواحهم وخوائها؟ من أين تخرج أشكالهم، ومَن يخاطبون، وفي أيّ مرمى يشوطون كراتِهم المنفوخة إلى حد الإنفجار؟ تأخذني الكلمة الأخيرة بالمصادفة الى السؤال: هل من علاقة بين الفن ونظرية البيغ بانغ؟ هل من أصداء غامضة وغائرة في أعماق الحركة والحدث وبين نشوء الحياة في فكرة ذلك الانفجار المفترض؟ هل يجب أن يكون الفن صراخا كي يسمع، أم أنه اهتزاز لا يكاد يرى في جدول ماء رائق؟ وما موقع هذا اللغط الجميل من التاريخ الكوني؟ لو أن جهازا عبّأ شحنة الحاضرين في اللحظة الغارقة المستغرقة وكبَسها في رأس سهم نطلقه من قوسه، ففي أيّ دائرة من دوائر القرص الكوني ينغرس السهم؟ أم تراه يحيد بمغناطيسية شحنته كسهم طائش بعيدا عن الهدف؟. حكى لي صديقي العائش في نيويورك عن عرض شاهده قبل أيام لفنان صيني شاب، وعن ضخامة التجهيزات التي يمكن أن تقيم مدينة في صحراء، فيها الممرات العلوية ومساقط الرؤية المحسوبة بدقة فوق كتل من الأسمنت مروعة الأحجام، رسم الصيني على مسطحاتها، برماد البخور المتنوع الدرجات والملمس، وجوهاً، بدقةٍ تفوق الفوتوغرافيا، وفي طقوسٍ لا تَخفى على ذي البصيرة تلحّسها واستحلابها أثداء روحانيات الشرق، منظر كهذا تفوح منه راوئح الاستعراض والقوة ومحاولة إشعار المتفرج بضآلته أكثر مما تفوح منه رائحة بخور الزهد والتقشف، فهل تُستخدم مساحات الازدواجية المتأصلة في الطبيعة لتقول خطابا بنقيضه، مثلما تروّج بعض الفلسفات الدينية المشبوهة لإطلاق الغريزة تحت مسميات الروحانية مثلا؟ فليفعل كلٌّ ما يرغب، في حدود المسميات الحقيقية لفعله. جانب من المعارض لقد تفنن آلهة الزمن القديم وملوكه في تضخيم أبعاد العمل الفني لإشعار الفرد بصغر حجمه وتالياً بعبوديته، فراعنة مصر نموذجا! لكني الآن ذهبت بعيداً، ولا ينبغي أن أضع على ورقتي علامات استفهام أكثر، يبدو منها، ويا لخشيتي، أني ضد المعاصر في حين أن انتقاد منظر ما لهو دليل الغيرة عليه لا الحنق، الاستغراق فيه لا النفور منه، إنها مسألة سياق وآليات استعمال في الأخير، لقد دخلت إلى الحدث وانسللت منه لأدخن كعادتي في الساحة الرئيسية في الميدان، ولي عودة في وقت تخفّ فيه الأرجل لارتشاف ما يلمسني من جمال أو فكر، أجلس على حافة مستطيل مائي طويل، أنتظر جارتي الصغيرة تأخذ وقتها في الفرجة في الداخل، الحوض تتوسطه جرّافة معدنية رقيقة التشكيل تدفع الماء بإحساس لاعب وحوار حب، وتعود لتنسحب ببطء، لتعاود فعل الزقّ وملاحقة المويجات والزبد. هو أحد الأعمال الفنية التي تغيّر الإحساس بمعنى النافورة المألوفة، أمام هذا مباشرة، وعلى أرض خشبية، زرعت فيها كتل لوجوهٍ من صلصال، كاريكاتورية الشكل والتعبير، كأنها تحويرات لكائنات سمكية لديها مشروع التحول إلى بشر "بسبب لوثةٍ أصابتها ربما"، وفي ركن ما هناك شجرة فضية متفرعة بغير أوراق، في أي فصل من فصولها المعدنية؟ وفي الجوار من محطة الترام، وردة بارتفاع خمسة أمتار تقريبا، وكما تعلمون فإن "الوردة هي وردة هي وردة"، بحسب جرترود شتاين. طافت عيني بسرعة على جسم أخضر كبير، من البوليستر بحسب ظني، تمددت خطوطه وزواياه الحادة في الاتجاهات كلها لتستحضر في الوهلة الأولى جوا حربيا غامضا قابضا، وفي الثانية تذكّر بمركبة فضاء غامضة كذلك ومقبضة، ربما لا فرق كبيراً بين الفكرتين إذ تحركهما الايديولوجيا نفسها والهدف: السيطرة، لكن الأكثر رقة بين تلك الأعمال التي يبللها الآن رذاذ منعش، هي تلك الدائرة الزجاجية المنصوبة، بقطر سبعة أمتار وارتفاع اثنين تقريبا، على ممشى خشبي، تحسبها فراغاً كامل الأبعاد في الداخل قبل أن تجتاز مدخلها الصغير، لتكتشف أنك مفصولا عن الآخر الذي دخل من المدخل نفسه من دون أن تشعر بالزجاج الفاصل، فإذا بينك وبينه في المركز حاجز غير مرئي لبلوريته، لا تراه إلا حين تصطدم به أو تكاد، كم الفكرة واقعية وبليغة! ولكن كيف لي أن أقنع جارتي التي لم تكمل عامها العشرين بعد، أن القبلة المعلقة في الهواء بيننا أجمل من كل ما رأته اليوم وما سوف تدرسه من كتب؟