كشف تغيير الحكومة السودانية الجديدة على مدى عمق أزمة الحكم بالبلاد، فالأزمة الاقتصادية والسياسية العميقة التي عصفت السودان كانت تقتضي الوصول إلى اتفاق يجمع القوى السياسية المختلفة ومن ثم تشكيل الحكومة. فاستقالة نائب الرئيس علي عثمان محمد طه ربما تشكل العلامة الأبرز في هذا التغيير، فالرجل ظل يتحرك على مستويات مختلفة في قمة هرم السلطة التنفيذية منذ انقلاب البشير في العام 1989. وكانت مرحلة اتفاق السلام بين شمال وجنوب السودان، خاصة فترة التفاوض، قد شهدت سطوع نجم عثمان، إلا أن هذا الرصيد تآكل كثيرا عقب وفاة القائد الجنوبي جون غرنق وتراجع أجواء الثقة بين الشمال والجنوب خلال الفترة الانتقالية، وجاء الانفصال ليشكل ضربة كبيرة لنفوذه. ويأتي تعيين الفريق بكري حسن صالح نائباً للرئيس لكي يحمل دلالات مهمة، فبمقتضى هذا التعديل يصبح أهم منصبين في الدولة، أي الرئيس ونائبه الأول، حكرا على المؤسسة العسكرية، فيما بقي المنصبان الآخران أيضاً حكرا على حزب المؤتمر الوطني. وبالتالي فإن تشكيلة مؤسسة الرئاسة الحالية لا تعكس توازنا سياسيا أو جغرافياً، بل ربما تكرس لدور أقوى للمؤسسة العسكرية على حساب الحزب الحاكم نفسه. الحكومة الجديدة تضمن التغيير الذي أعتمده حزب المؤتمر الوطني الحزب الحاكم بالسودان أمس الأحد، تغيير طاقم رئاسة الجمهورية بخروج كل من النائب الأول لرئيس الجمهورية علي عثمان محمد طه والدكتور الحاج آدم يوسف ومساعد رئيس الجمهورية الدكتور نافع على نافع. وتم تعيين كل من الفريق أول ركن بكري حسن صالح نائبا أول لرئيس الجمهورية والدكتور حسبو محمد عبد الرحمن نائبا لرئيس الجمهورية وبروفيسور إبراهيم غندور مساعدا لرئيس الجمهورية، بينما تم تعيين الدكتور الفاتح عز الدين رئيسا للمجلس الوطني والدكتور عيسى بشرى نائبا له. وقال الدكتور نافع على نافع نائب رئيس المؤتمر الوطني لشئون الحزب في تصريحات صحفية عقب اجتماع المكتب القيادي الذي انتهى فجر الأحد، أن التغيير شمل بعضا من الوزراء كما تم الإبقاء على البعض الأخر. وأضاف نافع انه تم تعيين صلاح الدين ونسي وزيرا لرئاسة الجمهورية وعبد الواحد يوسف وزيرا للداخلية والمهندس إبراهيم محمود وزيرا للزراعة والمهندس مكاوي محمد عوض وزيرا للنفط وبدر الدين محمود وزيرا للمالية وسمية ابوكشوة وزيرة للتعليم العالي ومعتز يوسف وزيرا للكهرباء والسدود والسميح الصديق وزيرا للصناعة والطيب بدوى حسن وزيرا للثقافة و تهاني عبد الله وزيرة للاتصالات والتقنية. وأوضح نافع أن التشكيل بصفة عامة اشتمل على تغييرات كبيرة وكان الأساس فيها هو أن يقدم شباب خضعوا للتجربة والاختبار في المركز والولايات مضيفا أن وزارات الشركاء من الأحزاب لم يتم البت فيها وهى متروكة لاختيار هذه الأحزاب التي ستشارك في التشكيل الجديد، مشيرا إلى احتفاظ بعض الوزراء بمواقعهم من بينهم على كرتى وزير الخارجية وكمال عبد اللطيف وزير المعادن . تغيير وتجديد وفي أول تصريح صحفي له بعد تنحيه، قال النائب الأول للرئيس السوداني علي عثمان طه :"إن مغادرته القصر الرئاسي جاءت استجابة لدواعي التغيير والتجديد في الحزب والدولة، نافيا ما تردد بوجود خلافات في الحزب". وأضاف طه: "سنفتح الباب من أجل التغيير، ودخول وجوه جديد وما تم متفقون عليه"، وعن وجهته المقبلة، قال "لن نستبق الأحداث وسأترك كل شيء إلى حينه"، حسب قوله. وكان طه أكد في نوفمبر خلال لقاء مع برنامج "بلا حدود" على قناة الجزيرة أن الرئيس السوداني عمر البشير لا يرغب في الاستمرار في الحكم والترشح لولاية رئاسية جديدة، لكنه أوضح أن القرار النهائي بيد حزب المؤتمر الوطني الحاكم. ولفت طه إلى أن التعديل الوزاري بلغ مراحله النهائية، وأنه سيكون كبيرا بالنسبة للحزب الحاكم باعتباره يمثل الأغلبية، مضيفا أن هناك استعدادا لإشراك أكبر قدر من القوى السياسية، وأن الحكومة القادمة ستتولى ملفات السلام والانتخابات القادمة. وأضاف أن أي محاولة لإقصاء الإسلام عن الحياة العامة لن يكتب لها النجاح، مشيرا إلى أن الحكومة السودانية دفعت فاتورة سياسية واقتصادية ثقيلة خلال العقدين الماضيين بسبب توجهاتها الإسلامية. ومن جانبه، قال غازي صلاح الدين العتباني الذي انشق عن حزب المؤتمر الوطني الحاكم في السودان في منتصف نوفمبر الماضي، إن حزب "حركة الإصلاح الآن" يجتذب آلاف المناصرين. يشار إلى أن "المؤتمر الوطني" بزعامة البشير طرد في نوفمبر 3 شخصيات من الحزب، هم العتباني ووزير الرياضة السابق حسن عثمان رزق، وفضل الله أحمد عبد الله. وكان هؤلاء بين مجموعة من 30 شخصية "إصلاحية" في حزب المؤتمر الوطني، وجهوا رسالة إلى البشير اتهموا فيها الحكومة "بخيانة الأسس الإسلامية للنظام عبر قمعها تظاهرات ضد زيادة أسعار المحروقات". عسكرة الحكم أثار إعلان النظام السوداني عن تشكيل وزاري جديد غضب عدد من الأوساط السياسية السودانية، معتبرين ذلك تغييرا للوجوه، وليس تغيير للسياسات، وأنه عسكرة للحكم في الخرطوم. ومن جانبه أكد القيادي بالمؤتمر الشعبي السوداني المعارض بشير آدم رحمة، أن التشكيل الوزاري الجديد يهدف إلى عسكرة الحكم في الخرطوم. وأضاف رحمة في تصريحاته ل"راديو سوا" الأمريكي أمس، "أن التعديل مخيب للآمال؛ لأن المعارضة كانت تسعى إلى حكومة انتقالية، وبالتالي يكون الجيش هو الذي يقود الفترة الانتقالية، وليست الأحزاب كما ترغب المعارضة السودانية في ذلك". و أكد نصر الدين كوشيب، ممثل الحركه الشعبية السودانية بالشرق الأوسط أن التغيير شمل الأفراد، وليس تغيير سياسيات، لأن النظام الحاكم في السودان فشل تماما، وأن النظام إذا أراد التغيير فلابد من تغيير السياسات، معتبرا أنه ليس هناك جدوي من هذا التغيير، ولن يكون هناك أي انفراج للأزمة . واستبعد كوشيب، أن يكون تغيير الإسلاميين، واستبدالهم بالعسكريين أن يكون استشعار للحرج، أو استجابة لمطالب الشعب، معتبرا ذلك أن الجيش السوداني يخضع لتنظيم الإخوان وهو حماية للنظام وليس حماية للشعب . وأوضح كوشيب، أن النظام عمل على إفراغ الجيش من وطنيته من خلال إحالة 5000 عسكري للمعاش حتى يفسح الطريق أمام أنصار الإخوان من السيطرة على الجيش. تغير للوجوه من جانبه أكد د. حيدر إبراهيم، مدير مكتب الدراسات السودانية بالقاهرة، أنه ليس هناك ثمة تغيير حقيقي حدث، وإنما هو خوف واستشعار للقلق من جانب النظام من بعض أفرعه فعمل على إقصائهم حتى لا يكتسبوا نفوذا، ويكونوا خطرا على قيادات النظام الرئاسي . وأضاف، إبراهيم أن الدليل على أن التغيير هو تغيير للوجوه، وليس تغييرا للسياسيات هو أن الحكومة الجديدة لم تعلن عن برنامج جديد، وإنما استمرت في ظل برنامج الحكومة التي سبقتها، موضحا أنه ليس هناك مناص من أن يعلن النظام عن حكومة وطنية تضم كافة أطياف المعارضة . وفيما يخص استبدال العسكرين أكد إبراهيم أنه ليس تغيير أيضا لأن الجيش السوداني جيش أيدلوجي وقام بعمليات تطهير لحماية النظام، يختلف تماما عن الجيش المصري، الذي هو ملك للشعب وليس للأنظمة، بالإضافة إلى أن الجيش السوداني أيضا جيش مسيس يعمل لصالح النظام وليس شيئا أخر. ويرى مراقبون أن التغيير الوزاري يهدف على ما يبدو إلى استرضاء المحتجين، بعد أن أدى ارتفاع أسعار الوقود مثلين إلى اندلاع أسوأ موجة اضطرابات في البلاد منذ سنوات. الشعب الثائر كان الشعب السوداني خرج للشارع في سبتمبر الماضي لينادي بمطالبة التي طغى عليها الجانب الاقتصادي، وكانت الضريبة هي سقوط ضحايا ومصابين ، بالإضافة إلى المعتقلات التي أمتلئت بالمحتجين. ولم تعد هذه الاحتجاجات الأولى من نوعها فقد شهدت السودان احتجاجات مناهضة للنظام تزامنت مع المظاهرات في تونس ومصر بداية 2011 وأسس نشطاء حملة باسم "لقد سئمنا" على مواقع التواصل الاجتماعي مثل فيسبوك وتويتر، لكن لم تنطلق احتجاجات شعبية كبيرة إثر هذه الحملة على الرغم من اتسامها بالحماس وبالاستناد على مطالب الديمقراطية التي أطاح بها البشير عند قيادته، مع القيادي الإسلامي حسن الترابي، الانقلاب العسكري ضد حكومة الصادق المهدي المنتخبة في 30 يونيو 1989. وقبل أن تصل المظاهرات إلى ذروتها وعد البشير شعبة بأن ن العام القادم سيشهد نهاية الصراعات المسلحة في البلد الذي تجري فيه حرب في سبع ولايات من جملة ولاياته ال17. وأكد البشير وهو يتحدث إلى اجتماع اتحاد من الشباب "برنامجنا أن يكون العام 2014 نهاية لكل الصراعات القبلية والاثنية والتمرد".