صدر حديثا عن دار " اكتب " المجموعة القصصية " طريق النعناع " للمؤلف محمد عبد القوي مصيلحي ، و يقص مصيلحى قائلا : أخبرتنا الست أم هناء بأنه لم يكن هكذا منذ البداية .. بل كان شامخًا قويًا يحترمه الجميع ويحبونه ويخافون من فرط محبتهم وتبجيلهم له أن يراهم على خطأ أو جريمة أو وضع مشين .. قالت إن زوجها السيد عرفة الشوادفي، والذي كان حتى بداية الشتاء الماضي يعمل ناظرًا بإحدى محطات وزارة النقل والمواصلات، اعتاد أن يستيقظ يوميًا في الرابعة صباحًا،ليغتسل ويصلي العشاء في انتظار آذان الفجر. كانت تخبره إنه يؤخر العشاء أكثر من اللازم، فيزجرها قائلاً إن الرسول عليه أفضل الصلاة والسلام لولا أن يشق على أمته -التي هي نحن - لأمرنا بتأخير العشاء .. كانت تخافه كثيرًا برغم أنه لا يضربها ولا يسبّها، كما يفعل الهمج من أمثال عبد التواب العربجي القائم بيته على قمة الشارع، والذي نادرًا ما شوهدت امرأته المسكينة سلوى إلا باكية، أو متورمة العين، أو كلاهما معًا. لكنها كذلك كانت تخاف عليه.. سألت أباها الشيخ منصور، إمام الزاوية، عن هذه المسألة، فقال لها مداعبًا : "أنت أدرى ..!!" وعندما عادت محتارة لزوجها السيد عرفة، لتخبره مرتجفة بما دار بينها وأبيها، وجدته يبتسم على غير توقع منها، ويقربها إليه ليلثم وجنتها .. كان يتعامل معها كما يتعامل مع صغيرته هناء سواءً بسواء .. وهي التي كانت تخشى غضبته على سبيل إنه قد يعتبرها أخرجت أسرار بيته.. فيما بعد قالت لها الصغيرة هناء .. "جدو الشيخ منصور عنده حق ..!" .. ثم أخبرتها بأن معنى تأخير العشاء الوارد في النص النبوي، هو أن تلي قيام الليل، وليس أن نؤخرها لحين استيقاظنا قبيل الفجر.. لكنه لو صلاها كل ليلة قبل النوم، لما رأت وجه زوجها إلا على مائدة العشاء، ولما نابها منه شيئًا ..! وأطلقت ضحكتها الطفولية الجذابة، لتفوح من فيها وملابسها وشعرها تلك الرائحة المدهشة، قبل أن تنطلق بحذر، لتلعب مع أطفال البيت في مدخل البناية، وقد نسيت - في الغالب- محتوى الحوار ومعناه كعادة الأطفال .. صعقت أم هناء من الدهشة، لكنها اعتادت ألا تسأل صغيرتها من أين لها بالعلم .. ثم تورد وجهها محرجة من أبيها، وزوجها، ومن عسر فهمها ..! *** لم يكن لديهما سوى هناء .. بريئة عمياء كالقطة الوليدة من فورها.. عمرها أربع سنوات .. كان قدَرها أكبر من حجم جسدها الضئيل .. لكن روحها الصغيرة المرحة كان تقدر على استيعاب الدنيا كلها.. كانت قد حفظت كل ثنايا البيت وطرقاته وحجراته، فلم تعد تتخبط وتسقط كثيرًا أثناء سيرها إلى الحمام أو إلى غرفة الطعام .. كانت تقف على باب المطبخ هامسة في رقة الملائكة .. " ماما .. هل أنت هنا ؟" فتهرع إليها أم هناء، لتحملها وتلهب وجنتيها تقبيلاً.. " أنا هنا يا ست الحسن .. تآكلي ؟" فتكتفي بكوب من عصير الطماطم، وتطلب من أمها في خجل أن تكثر من السكر، فتقلب بعضه وتترك البعض دون تقليب حتى تستمتع بطحنه بين أسنانها كالحلوى في نهاية الكوب. أحيانًا كانت تجبرها الأم إجبارًا على التهام الطعام كي لا تموت جوعًا .. تعودت أن تنهض يوميًا من مجلسها في خطوات أقرب للزحف متلمسة طريقها نحو باب البيت، لتقف وكأنها تنتظر شيئًا .. "مالك يا هناء ؟" .. ثم تلقي ببصرها نحو الساعة الكبيرة المعلقة على الحائط، لتجد أن عقاربها تعلن عن تمام الثانية ظهرًا بالدقيقة .. تجيب الصغيرة وهي تشب على أطراف قدميها، محاولة بلوغ مقبض الباب دون جدوى .. "افتحي الباب يا ماما .. بابا ع الباب يا ماما ..!" بعدها بأقل من دقيقة، تجد الباب وقد فتح تلقائيًا، بينما زوجها السيد عرفة يدخل وهو يدس المفتاح بجيبه .. "سلام عليكم .. واقفة كده ليه يا بندقة؟!" فتجيب الصغيرة وهي تواصل محاولاتها للوقوف على أطراف أصابعها لتطال وجنة أبيها .. "كنت عايزة أفتح لك بس ما عرفتش .." كان السيد عرفة الشوادفي كثيرًا ما يقول للشيخ منصور إن الله قد رزقه بطفلتين في رقة الورد ونضرة التفاح ورائحة النعناع .. فيضحك الشيخ منصور ويخبره أن ابنته لا تحمل رائحة النعناع .. "أما بقى بنتك ف أنت حر فيها..!!" .. فيؤكد عرفة أن كلتاهما تحمل رائحة النعناع، وبالذات هناء الصغيرة.. تأكد الشيخ منصور بنفسه من هذه الحقيقة عندما ضم إليه حفيدته بقوة ذات مرة.. وأكد أن أم هناء حملت الرائحة لكثرة التصاقها بالطفلة.. لكنه همس لهما بأن الرائحة ليست نعناعًا خالصًا؛ بل هي تشبهها إلى حد كبير .. إنها رائحة تشبه رائحة الجنة كما يصفها الأولياء والمقرّبون إن لم تكن هي بالفعل !