أخطأ عضو مجلس الشيوخ الأميركى جون ماكين بحق مصر وبحق نفسه عندما ارتمى وألقى بالمرحلة الدقيقة من العملية الانتقالية المصرية فى أحضان الارتباك والتخبط والتناقضات . انتقاداته اللاذعة للرئيس الأميركى باراك أوباما لعدم وضع تصور واضح ومتكامل إزاء سورية ترتد عليه اليوم بسبب افتقاده الرؤية والإحساس بالحدث المصرى وتداعيات ذلك التقصير مصرياً وأميركياً. جون ماكين لم يذهب إلى القاهرة ومعه السيناتور ليندسى غراهام من أجل تلميع صورته أو لحاجة نرجسية فيه . إنه رجل عميق المعرفة بالشئون السياسية الخارجية وهو جرىء فى مصارحته الآخرين وانتقاداته . الخطأ الذى ارتكبه هو أنه لم يواكب اليقظة المصرية فى انتفاضتها الثانية ، ولم يقرأ بعمق إفرازات تصريحاته ومواقفه على الأمن القومى المصرى . جازف ماكين بهيبة الجيش المصرى ، وهو الذى ينتفض غضباً إذا خدش أحد ما سمعه القوات الأميركية. أضر بمعنويات الحكم المؤقت فى مصر دون أن يتنبه إلى خطورة التدخل فى عملية تفاوضية دقيقة بين الحكم و "الإخوان المسلمين" تجنباً لسفك الدماء . تحدث بلغة كان يفهم ويدرك تماماً أنها تنطوى على إنذار وتهديد للحكم المؤقت وللجيش ولمصر عندما استخدم كلمة "إنقلاب" التى يترتب عليها قطع المعونات الأميركية بقيمة 1.3 بليون دولار. والأسوأ أن جون ماكين سمح لنفسه أن يضع مصر على مسار الحديث عن حمام دم فيما كان من واجبه تجنب هذه التنبؤات المؤذية والتركيز بدلاً وحصراً على ضرورة عدم السماح بأن تنزلق مصر إلى الفوضى واللاأمان . أساء جون ماكين إلى مصر فى العمق ، وكان طبيعيا ان ترد له مصر الصاع صاعين ونزل عليه وعلي شركائه ومن يستقوون به "قفا" مطرقع .. ومن الضرورى له أن يستدرك ويعيد النظر ويقر بأخطائه ويعمل صدقاً على تصحيحها لأن مصر لا تتحمل اندلاع التخبط الأميركى السائب إليها وعلى حسابها. أول ما يجدر بالسيناتور ماكين أن يقوم به هو الكف عن الاستخفاف بردود الفعل الناقدة له لما فعله فى مصر أثناء زيارته إليها ، حيث مد إليه الحكم المؤقت كل ترحيب وفتح أمامه كل باب للاجتماع بمن يريد وكما يشاء – بما فى ذلك الاجتماع مع الرئيس المعزول محمد مرسى وأركان قيادته من "الإخوان المسلمين". القرار قرارنا فالرئاسة المصرية شكت من "ضغوط دولية تجاوزت الأعراف". وحركة "تمرد" رفضت دعوة ماكين إلى لقاء وقال الناطق باسمها: "مللنا من كثرة الزيارات الخارجية لمصر ، ونطالب المجتمع الدولى بترك الشعب المصرى وحيداً يقرر مصيره وخياراته". "جبهة الإنقاذ الوطنى" و "جبهة 30 يونيو" – وهما سوياً مع حركة "تمرد" جهات سياسية مدنية وليست عسكرية – أصدرت بياناً رفضت فيه "عقد صفقات سياسية بين الدولة وجماعة الإخوان الإرهابية" مؤكدة أن "جماهير الشعب المصرى الجليلة تقف جنباً إلى جنب مع السلطة المصرية والأجهزة الأمنية فى مواجهة الإرهاب والتطرف " موقف الرئاسة المصرية بأن "مصر قادرة على حماية الثورة والدولة" أتى بعدما تبنى ماكين وغراهام مواقف تجاوزت حقاً الأعراف أثناء مؤتمرهما الصحافى . ماكين قال إن عزل مرسى كان "انقلابا" فيما كان يعرف تماماً أن إطلاق وصف "الانقلاب" على ما حدث فى مصر هو مطلب بل حملة منظمة يقوم بها "الإخوان المسلمون" بدءاً من ساحة الاعتصام فى "رابعة العدوية" وانتهاء بإعلان رجل "القاعدة" القوى المصرى الجنسية أيمن الظواهرى ، أن ما حدث كان "انقلاباً" ضد مرسى و "الإخوان".مصر ياسيد ماكين لاتحفل بتهديداتك انت وحلفائك الذين اجرموا في حق اولادنا وقتلوهم.. إشعال الفتيل إن موقف ماكين ليس فقط دعماً لطرف من طرفي النزاع علي حساب الاخر ، وإنما أيضاً أتى ليتحدى ما عملت إدارة أوباما على صياغته بدقة توصلاً إلى إعلان وزير الخارجية جون كيرى بأن ما قام به الجيش المصرى كان إنقاذاً لمصر وليس انقلاباً على أيدى الجيش !! قوض ماكين ما كان يقوم به وليم بيرنز فى الفترة ذاتها بتزامن لزيارتيهما إلى القاهرة – وبيرنز كان مبعوث وزارة الخارجية الأميركية الرسمى فى مهمة هدفها نزع الفتيل وليس إشعاله بالنار. امر غريب ان يتوصل ماكين وغراهام إلى الاستنتاج بأن من حقهما المطالبة ب "الإفراج عن السجناء السياسيين فوراً لاستحالة الحوار مع السجناء". من دون التدقيق فى التهم الموجهة إلى السجناء والمبنية على لجوئهم إلى العنف والقتل أثناء التظاهرات. الأمين العام للأمم المتحدة بان كى مون ، ومعه جون ماكين وليندسى غراهام ، يجب أن يتوقفوا قليلاً عند مطالبتهم بالإفراج عن مرسى والمتهم بتهم تشابه تلك التى وجهت إلى الرئيس المعزول الآخر حسنى مبارك . فلقد صمتوا إزاء اعتقال مبارك فى الثورة الأولى ولم يجرؤ أحد على المطالبة بالإفراج عنه ، وها هم الآن يطالبون بصوت عال بالإفراج عن مرسى فى الثورة الثانية مع أن التهم متشابهة. المطالبة بإطلاق سراح السجناء والتحدث بلغة أن "استعادة الشرعية عن طريق العنف خطأ كبير ، وسيهمش الجماعة فى العالم كله" ، كما قال غراهام إضافة إلى وصف "الانقلاب" باوصاف موالية ل "الإخوان المسلمين" ، فإذا كان هذا هو هدف ماكين – غراهام ، هنيئاً لهما إذ أنهما حققاه.ما يجب التنبه له هو أن المواقف ساذجة أحياناً لكنها خطيرة جداً تكراراً. فهى تشجع على التعنت فى صفوف "الإخوان المسلمين" وترفع معنويات المعتصمين من "الإخوان" الذين يقطعون الطرقات ويهددون الأمن القومى. ماكين وغراهام ساهما – سهواً على الأرجح وليس عمداً – فى تعبئة "الإخوان" فى المواجهة الآتية عندما ينفذ الحكم المؤقت فى مصر تعهده بفك الاعتصام وانهائه. كان أجدى بهما الاستماع بدقة إلى ما قاله لهما نائب رئيس الجمهورية للشئون الدولية محمد البرادعى والقائد العام للقوات المسلحة الفريق أول عبد الفتاح السيسى. البرادعى قال إنه أكد لهما أن "أولويات مصر فى تأمين المواطنين ، والحفاظ على حياتهم وممتلكاتهم ، وحفظ الأمن والنظام والقانون ، مع مراعاة نبذ العنف وحقن الدماء ، والمضى قدماً فى إتمام المصالحة السياسية الشاملة ، وتنفيذ خريطة الطريق لوضع آفاق مستقبل ديموقراطى لمصر". السماح لجميع الوسطاء باللقاء مع مرسى والقيادات الأخرى كان مثالاً صادقاً على رغبة الحكم المؤقت فى إقناع قيادات "الإخوان المسلمين" بالكف عن التحريض والاستفزاز وقطع الطرق والاعتصام غير السلمى والتهديد واستدراج الأجهزة الأمنية لاستخدام القوة.قبل الوساطات والزيارات ، توصلت القيادات الإخوانية ضمناً إلى الاستنتاج بأن مرسى ليس عائداً إلى كرسى الرئاسة. وأن الوقت حان للتفكير بخطة "باء" بدلاً من استراتيجية توريط الجيش أو الرهان على نجدة أميركية – أوروبية لهم. اليوم .. يبدو أن زيارة ماكين وغراهام أعطت "الإخوان"جرعة من التعنت والاستقواء وقراءة رسالة الزيارة بأنها تمثل المواقف الأميركية الحقيقية. استقواء الإخوان هكذا أساءت الزيارة أيضاً إلى المصلحة الأميركية . ومرة أخرى ، من المستبعد جداً أن ذلك هو ما كان فى ذهن ماكين وغراهام . فهما بالتأكيد أخطآ لكنهما لم يتعمدا الإساءة . لم يتعمدا تشجيع "الإخوان" على استخدام النساء والأطفال دروعاً وموجة أولى فى صفوف الاعتصام كى يتلقى هؤلاء رد السلطات الأمنية على الاستفزاز والاستدراج. الإساءة الأخرى هو ما أفرزته الزيارة من إضعاف لموقف المؤسسة العسكرية . فالجيش لديه حساسية إزاء صورته لدى الشعب وفى الإعلام ليظهر بأنه جيش الاستقرار والرزانة والهدوء وعدم التدخل والحرص على حقوق المصريين أجمع . الزيارة أسفرت عن الطعن بالجيش المصرى وهيبته ، وهذا فى رأى الأكثرية الساحقة من الشعب المصرى اهدار لكرامه المصريين وهي احرص مايحافظون عليه..وبالقدر نفسه من السوء ، وبعدما فشلت الوساطة وتم هدر فرصة ثمينة للتأثير فى موقف "الإخوان المسلمين" ليفكوا الاعتصام والالتحاق بالعملية السياسية المعروضة عليهم ، ليس أمام الجيش سوى تنفيذ التعهد بفك الاعتصام . القرار هو أن يتم ذلك تدريجياً ، بكل الوسائل اللاعنفية المعهودة لفك الاعتصامات لمنع الصدام وعبر عملية استنزاف للقوى المعتصمة . أما الآن ، فإن خطر المواجهة أكبر من نتيجة قراءة "الإخوان المسلمين" لرسالة ماكين وغراهام وتحريفها لمصلحتهم . هكذا تكون انتهت الوساطات وكذلك الإتصالات مع الرئيس المعزول والقيادات المسجونة، على الأرجح . الإساءة الأكبر هى تلك التى يسببها "الإخوان المسلمين" لمصر إذا استقطبوا الجيش إلى استخدام العنف فى وجه عنف منظم . لذلك، إن أهم تحدِ للقوات الأمنية هو أن تمسك أعصابها وألا تستدرج إلى العنف والقمع الأمنى وأن تتحلى بالصبر وهى تنفذ الأوامر بفك الاعتصام بتدريجية وطاقة تحمل كبرى لكل وسائل الاستفزاز.أما الوفود الغربية والعربية إلى مصر الرامية لوساطة بين الحكم المؤقت وبين "الإخوان المسلمين" فإنها تسىء أكثر مما تفيد إذا أتت بارتباكها وأجنداتهم إلى مصر. عليها أولاً أن تميز بين الاعتصام المدنى وبين الاعتصام الأمنى والاعتصام الذى يستخدم النساء والأطفال لتلطيخ سمعة القوا ت الأمنية التابعة للدولة والمكلفة الحفاظ على الأمن . على هذه الوفود أن تتصارح مع "الإخوان المسلمين" وتقول لهم بكل بساطة أن لا عودة لمرسى إلى الرئاسة ، وأنه لا إخراج للسجناء الذين ارتكبوا جرائم ضد المدنيين ، وأن الوقت حان للاعتراف بالأخطاء التاريخية التى ارتكبها "الإخوان" فى الحكم باستفراد وإقصاء للآخرين ، وأنه من مصلحتهم الآن الالتحاق بالعملية السياسية التى ترحب بهم فى خريطة الطريق. ما عدا ذلك ليس سوى وقود للتعنت والمواجهة . فالجيش لا يستطيع أن يتعهد بألا يقتحم الاعتصام إذا أجبر على ذلك. والجيش لا يستطيع القبوع فى ظل استراتيجية الاعتصام ليفقد زخم تلك النافذة المهمة لبسط السلطة لحفظ الأمن . بالطبع من حق كل مصرى الاحتجاج سلمياً ، أما ذلك الاعتصام فى "رابعة العدوية" فإنه ساحة تحريض وليس ساحة للشراكة فى صنع مستقبل لمصر بنظام ديموقراطى جامع لا يتوقف ويختزل إلى محطة الانتخابات فقط – كما فعل "الإخوان المسلمون".