لايمكن أن أتخيل نفسي دون كتاب . لذلك لم اعد قادرا علي تفسير علاقتي بالكتاب . إذا قلت أنه خير جليس يبدو الأمر قديما . وربما هو أكبر من خير جليس .فكثير من الكتب باتت جواري علي السرير . وكثير من الكتب الآن ومنذ أول كتاب أصدرته أجد نفسي حين أتسلم النسخ الأولي من أي كتاب من تاليفي أضع الكتاب جواري فوق السرير وأظل اقلب فيه حتي أنام وكأنني طفل لا يتخلي عن لعبته الجديدة . وطبعا لا يستطيع أحد أن يطلب مني أن أترك الكتاب كما يطلب الأهل من الطفل . هناك كتب لا تزال رغم مرور سنوات طويلة علي قراءتها أتذكرها كأنها الأمس فقط . وأتذكر الليالي التي قرأتها فيها . وقراءاتي الحقيقية دائما في الشتاء . كما هي كتاباتي الابداعية . وفي الاسكندرية زمان أيام الصبا والشباب كنت أقرا بعض الكتب الصغيرة الحجم علي الشاطئ حين كان هناك شواطئ . أنا مثلا في كل شتاء تقوم أمامي مشاهد من روايات دستويفسكي واشتاق للمطر الذي حين قرأتها وأنا في العشرين من عمري أو أقل أو أكثر قليلا كنت أسمع المطر الساقط علي اسطح بيوت الاسكندرية وشوارعها حين كان هناك مطر وشتاء , واشتاق للمطر الذي لا يزور القاهرة التي أعيش فيها إلا قليلا . لا أستطيع أن أمشي علي شاطئ المكس بالإسكندرية حيث يحلو لي في الصيف زيارته أحيانا لاتناول وجبة سمك شهية دون أن أتذكر كيف جلست علي الشاطئ وقرأت رواية الغريب لالبير كامي منذ اكثر من اربعين سنة وكذلك رواية صحراء التتار لدينو بوتزاتي . كيف كان يتحرك الفضاء حولي ويهتز وانا أقرأ الغريب وكيف كنت أراه كل لحظة كأنما لم أره من قبل وأنا أقرأ صحراء التتار . قابلت مرة الشاعر الداغستاني رسول حمزاتوف منذ تقريبا عشرين سنة في القاهرة وكنت ابتسم وأنا اتحدث معه وهو كان يبتسم لكن ابتسامي لم يكن هشاشة ودماثة مثله فقط ,ولكن لأني وضعت كتابه" داغستان بلدي " تحت وسادتي لأسابيع طويلة أقرأ منه كل يوم ويتسع العالم من حولي . يصل التماهي بيني وبين الكتاب الي درجة أني أنساه بعد ذلك كمطبوع ,ويتحول لشيئ يمشي معي ,لذلك كنت أعير أصدقائي الكتب بسهولة ولا أتخيل أنها ابتعدت عني, وأقلعت عن هذه العادة متاخرا جدا حين اكتشفت أن أحدا لا يرد ما استعاره ! اشتريت بعضها من جديد ورايت بعضها ولم أشتريه لاني لم أشعر أني فقدته ! في عام 1972 قرأت علي غير العادة كتاب الوجود والعدم لسارتر بترجمة الدكتور العظيم عبد الرحمن بدوي بالنهار وليس بالليل . وبالذات في الفترات بعد الظهر . لا أنسي أنني لم أكن أسمع أي حركة في البيت حولي . لا صوت ابي ولا أمي ولا إخوتي, واذا دخل أحدهم الغرفة لا أراه .ومشيت اسابيع أشعر بالفخر في نفسي أني قرأت هذا الكتاب الصعب . كنت ادرس الفلسفة وكنت أري الكون أبيض مثل صفحات الكتب رغم صعوبة ما أدرسه او اقرأه ! حاولت مرة في سن السادسة عشروانا في الثانية الثانوية , أن اترجم قصيدة "سحابة في سروال" للشاعر الروسي العظيم ما ياكوفسكي ,وتزلزلت روحي بروح التمرد والثورة في القصيدة التي ترجمتها لنفسي بانجليزيتي البسيطة ذلك الوقت .وبعد لك بسنوات طويلة رأيت اكثر من ترجمة للقصيدة لكني لم أقرأ أي ترجمة منها مكتفيا بالنشوة القديمة التي سكنت روحي وأنا افعل ذلك بالليل في الاسكندرية تحت سوط المطر والريح وكأني والقصيدة تقلبنا السحب . واكتملت القصيدة بعد سنوات طويلة حين أتاحت لي الظروف الوقوف أمام تمثال ماياكوفسكي بالليل في موسكو ودرجة الحرارة أقل من الصفر ورحت أهز راسي وكدت أقول له إنني أحببتك مبكرا جدا أيها المتمرد العظيم . في أول معرض كتاب بالقاهرة واظنه كان عام 1966 حضرت من الاسكندرية واشتريت بما معي من نقود عددا كبيرا من الكتب , لكني والمعرض يعلن إغلاق أبوابه آخر النهار وجدت امامي رواية "القضية" لفرانز كافكا بترجمة العظيم ايضا دكتور مصطفي ماهر فاخنتها ونسيت كل ما اشتريت . كنت مشتاقا اليها كانها الأمل الذي ابحث عنه والأمل الوحيد .عدت إلي الأسكندرية في القطار أنظر إليها وحدها واقلبها في يدي وكلما قرأت صفحة أجّلت القراءة حتي لا أنصرف عنها بضجيج قطار الدرجة الثالثة ,ولا حظت أن الركاب ينظرون كثيرا إليّ أنا الذي أقلّب الكتاب الصغير بين يدي ,ولابد أنهم أشفقوا عليّ او اعتبروني مختلا . المهم أن الكتاب في يدي . الآن لم أعد قادرا علي قراءة كل ما يصلني أو اشتريه من كتب . وعلي عكس الكتّاب في الدنيا كلها اذا تقدم الكاتب في العمر وجد وقتا وراحة , تجري الأمور في بلادنا . فانا لا اجد الوقت ولا الراحة .والوقت يجري بإيقاع أسرع مما كان قديما, و متابعة الميديا والفيس بوك ومواقع الكترونية تأخذ من وقتي كثيرا . وكلما قررت اعتزال الدنيا انغمست فيها أكثر . لا اصدق أن الدنيا تقدمت بعكس ما كنت أريد ويريد جيلي . أحاول البقاء متماسكا في مجتمع يسجل انهيارا كل يوم . وبالذات في قيم الإخوّة والتسامح والعلاقات الاجتماعية التي فقدت روحها الجماعية . أجد نفسي مضطرا لكتابة المقالات التي تحتج بشكل أو بآخر, ويبدو لي أنه لا فائدة , ولا اقدر علي الاعتزال والتفرغ للقراءة فقط والإبداع . أحن لقراء أعمال قديمة مثل التراجيديا اليونانية والاساطير اليونانية وأمسك بعضها وأجد نفسي أتذكر كل شيئ فيها فلا أقرأها واغتبط ان النسيان لم يصل اليها . الي هذا العالم المسحور الذي قرأته في الوقت الذي كانت فيه الآمال في الدنيا أفضل . وهكذا أفعل مع بعض كتب التراث العربي العظيمة مثل الأغاني والبيان والتبيين والإمتاع والمؤانسة وغيرها مما غرمت به من كتب المتصوفة والفلاسفة العرب أيضا إلي جوار الادباء ,وأتحسر مما يحدث من تراجع فكري في الأمة كلها . تراجع لا يرقي الي هذه الكتب التي ابدعتها الأمة العربية يوما . أكره الإتجاهات الرجعية التي حولت حياتنا الي مظاهر يقال إنها إسلامية ولا ترقي أبدا إلي ما ابدعته الأمة الاسلامية . بسرعة أترك كتب التراث من يدي حتي لا ازداد يأسا من الحياة . أكره ما يتردد من ان الكتابة الالكترونية سوف تلغي الكتب الورقية وأري علي عكس الكثيرين أن الكتاب الورقي لن يترك مملكته في المكتبة او في البيت .تمسك بالكتاب الورقي يعني ان تعتزل العالم من حولك وتجلس الي الكومبيوتر يعني ان تدخل ضجيج العالم مهما بدا أنك مخلص لما تقرا . والآن ثورة عظيمة قامت كانت المواقع الالكترونية طريقها وأساسها, ولا تزال الثورة تحتد وتشتد . واخذتني بجد من الكتب إلي الميديا لكني لا استطيع ان اقرا عليها إلا ماهو مختصر علي الفي سبوك مما يكتبه الاصدقا ءاو علي تويتر . ولأن تويتريتداعي مثل شلال بالاخبار والافكار فقد سرق كثيرا من وقتي . أفكر في ذلك وأقرر كل يوم أن اعود إلي عالمي الجميل . الكتب , لكن لا استطيع . ربما أستطيع إذا انتصرت الثورة انتصارها الأخير . غهل سياتي هذا اليوم . أشعر به يقترب بعد ما رأينا في 30 يونيو الماضي الذ ي كان أجمل مافيه أن صفحة ورقية واحدة اسمها " تمرد " صارت كتابا للأمة فانتفضت .