لاشك أننا نمر بأزمة سياسية صعبة في الوقت الراهن ، أو حتى مستقبلا . وربما السبب في ذلك يرجع إلى الخلاف حول تكييف ما حدث يوم 30 يونيو هل هو ثورة "revolution"" أم إنقلاب "coup " .. وربما زاد من تعقيد هذا الوصف أن العسكر قاموا بنقل السلطة -على الأقل ظاهريا -إلى حاكم مدني مؤقت " غير منتخب" . وهو ما دفع بعض المحللين إلى القول بأننا أمام حالة فريدة "خليط" بين الثورة والإنقلاب هي الانقلاب العسكري الديمقراطي" على اعتبار أن تدخل العسكر يعد انقلابا على السلطة المدنية ، وكانت العادة في معظم الانقلابات التي شهدتها دول العالم ، أن يقوم هؤلاء بحكم البلاد لفترة انتقالية تنتهي إما بتحول العسكر إلى الحكم المدني عبر الانتخابات بعد خلع الرداء العسكري، أو تسليم السلطة إلى مدنيين .. ومما زاد المشهد ارتباكا وحيرة طلب وزير الدفاع من الشعب تفويضه من أجل مواجهة العنف والإرهاب المحتمل، وضرورة النزول في نفس يوم وجود الطرف الأخر من أجل التعبير عن هذا التفويض ، علما بأن هناك مواد في قانون العقوبات للتعامل مع أعمال العنف والإرهاب ، وبالتالي لا حاجة لمثل هذه الدعوة ، أو إذا كان الأمر تطلب هذا ، فكان يفترض أن يوجهها رئيس الجمهورية الذي معه بالفعل صلاحيات تشريعية وتنفيذية وتفويض على بياض ممن خرجوا في 30 يونيو .. وبالتالي تم تفسير هذا التفويض بأحد أمرين ، الأول رغبة الفريق السيسي في استخدام العنف ضد المتظاهرين من مؤيدي الدكتور مرسي لاسيما في ميداني النهضة ورابعة لإنهاء اعتصامهم الذي سبب له حرجا كبيرا في الداخل والخارج، والأمر الثاني هو بالونة اختبار لمعرفة حجم التأييد الشعبي الذي يحظى به ، والذي ربما يمهد له لأن يكون الرئيس القادم للبلاد ، خاصة وأن تظاهرات الجمعة رفعت لافتات السيسي ولم تحمل لافتات أخرى للرئيس المؤقت عدلي منصور ، أو حتى رئيس الوزراء الببلاوي . وبالتالي صار المشهد مرتبكا بسبب التوصيف الحقيقي للأحداث ما بين كونها ثورة أم انقلاب ، أم انقلاب ديمقراطي ، كما صرنا أمام خلاف أخر بين الشرعية القانونية " de jure" التي ينادي بها أنصار الرئيس مرسي ويجعلونها في أول مطلب لهم ، وهو ضرورة عودة الرئيس ، وإلغاء خارطة الطريق وكل الآثار المترتبة عليها خاصة ما يتعلق بتعطيل الدستور ، وحل مجلس الشورى ، وربما يضاف لها الآن محاسبة المتورطين في مجازر النهضة والحرس الجمهوري ، والنصب التذكاري ، فضلا عن المنصورة ، والإسكندرية .. وفي المقابل هناك فريق أخر يستند إلى شرعية الأمر الواقع " de facto" التي كرستها مظاهرات 30 يونيو ، وبالتالي يرفضون –بداية- عودة الرئيس مرسي للحكم باعتبار أن هذا أمر مفروغ منه . وبالتالي يمكن انضمام الإخوان وحزب الحرية والعدالة إلى العملية السياسية –كما قال البرادعي- لكن بدون مرسي ، في حين ذهب فريق أخر ينتمي أيضا إلى نفس التيار إلى ضرورة محاسبة قادة الإخوان عما أسموه بأعمال العنف ، وكذا حل جماعة الإخوان ، وحزب الحربة والعدالة وسائر الأحزاب الإسلامية على اعتبار أنها أحزاب دينية ضد المواطنة ، ثم بعد ذلك الجلوس على مائدة التفاوض . وربما كان الفريق السيسي ، وكذلك المسلماني أكثر وضوحا في هذا الأمر عندما أشارا إلى أن خطة خريطة الطريق ماضية في طريقها ، وأن جلسات الحوار الوطني-بحسب المسلماني- هي جلسات لرأب الصدع النفسي والاجتماعي ..إذن نحن أمام وجود تباين حقيقي في المجتمع المصري ..وبالرغم من أن الاختلاف سنة كونية ، لكن المشكلة أنه بات لدينا خلافا ربما يؤدي إلى نزاع بسبب حالة الاحتقان الموجودة بين المصريين حتى داخل الأسرة الواحدة . وبالتالي فإن أي إقصاء أو تهميش لأي فصيل ربما قد يدفعه إلى العزلة السياسية ، أو حتى صدور بعض الانفعالات غير المحسوبة بسبب شعوره بأن الطرف الأخر افتأت عليه ، أو اغتصب حقه . وأخشى أن تصل هذه الخلافات إلى نزاعات قد تصل إلى العنف" المرفوض" على غرار ما يحدث بين بعض العائلات بسبب خلاف على الميراث ، أو شراكة تجارية ، لكن مع فارق بسيط هو أن النزاعات هذه المرة ستكون نزاعات سياسية ، وربما ما حدث مؤخرا في عزبة أبو حشيش خير مثال على ذلك . وهو مرشح للتصاعد في جميع أنحاء البلاد لاسيما في مدن الصعيد ، التي يمكن أن تشهد نزاعات ليست عائلية ، أو حتى سياسية ، وإنما نزاعات طائفية بسبب التجييش الطائفي الذي ظهر بصورة واضحة في الآونة الأخيرة خاصة من قبل الكنيسة التي ربما كانت تخفي مواقفها السياسية كما كان في كل الاستحقاقات الانتخابية السابقة ، أو حتى في أحداث الاتحادية في نوفمبر الماضيوبالتالي وإزاء هذا الانقسام السياسي والطائفي داخل المجتمع ، وإزاء تمسك كل طرف بموقفه ، يصبح السؤال عن كيفية الخروج من المأزق الراهن؟ نزاع أم صراع ؟قبل الحديث عن سبل الخروج من هذا المأزق ينبغي الإجابة عن سؤالين هامين ، الأول يتعلق بتكييف ما يحدث في مصر هل هو نزاع " dispute " أم صراع " conflict" . والثاني حول سبل تسوية النزاعات أو الصراعات.بداية النزاع يدور بالأساس حول أمر قانوني بمعنى هل من حق الطرف هذا الأمر أم لا . مثل هل من حق الرئيس مرسي البقاء أم لا في ظل وجود معارضة قوية له ..وكذلك هل من حق وزير الدفاع أن يصدر خارطة طريق حتى في ظل وجود شيخ الأزهر والكنيسة وبعض القوى السياسية الأخرى .. هل هذه تعبر عن كل جموع الشعب ..أما الصراع فيدور حول خلافات دينية ، اقتصادية ، سياسية،ثقافية ، أيدولوجية بين طوائف المجتمع الواحد . وبالتالي فالصراع أعقد من النزاعأما فيما يتعلق بطرق التسوية للنزاعات أو الصراعات فلدينا ثلاث طرق للتسوية : أولا :الطرق الدبلوماسية " السلمية " عن طريق الوساطة والجلوس لمائدة التفاوض . وربما تكون هذه الطرق هي الأكثر قبولا لاسيما في ظل تشبث كلا الطرفين بموقفه ، وهنا يتطلب الأمر وجود وسطاء يتمتعون بمصداقية وحيادية لدى طرفي الخلاف ، فضلا عن تمتعهم بمكانة كبيرة حتى لا يتم الإخلال بما يتم الاتفاق عليه . ويتم اللجوء لمثل هذه الطريقة في حالة الخلافات والصراعات . أي في الأمور التي لا تغلب عليها الصفة القانونية ، بل يستعان بها في النزاعات القانونية لأنها لا تكتف فقط بإنهاء النزاع ، وإنما الخصومة التي قد تترتب على تسويته. ثانيا : الطرق القانونية .وهذه تتم بالأساس عندما يكون النزاع قانوني .. وإن كان يفضل أيضا في هذه المنازعات أن يتم تسويتها بالطرق الدبلوماسية ، لأن الطرق القانونية غالبا ما تحسم النزاع ، لكن تبقى هناك حساسيات في النفوس بين طرفي الخلاف ربما تؤدي إلى حدوث مشكلات بينهم مستقبلا " مثل لجوء الزوج والزوجة إلى المحاكم لحل الخلاف حول المؤخر أو رؤية الأولاد، حيث يؤدي اللجوء الى المحاكم إلى تعقد العلاقة بينهما لا سيما فيما يتعلق برؤية الأولاد وتعليمهم وزواجهم ، على عكس لو تم تسوية الخلافات في إطار الوساطة والتفاوض الذي يغلفه مبدأ" ولا تنسوا الفضل بينكم "ثالثا" الطرق العنيفة القسرية عبر استخدام القوة .. وهذه إذا حققت أهدافها بهزيمة الطرف الأخر . لكنها لا تنه الخلاف أو الصراع ، لأنها ستؤدي إلى تولد شعور بالرغبة بالانتقام لدى الطرف المهزوم الذي ربما يتحين الفرصة للانقضاض مرة ثانية على الطرف الأول . وإذا كان توصيفنا لما حدث في مصر بأنه نزاع قانوني من ناحية ، فضلا عن وجود بعض مكامن الصراع مثل الخلافات وليس الاختلافات السياسية ، الأيدلوجية ، الطائفية التي تحتاج لوقت طويل لحلها من خلال مناهج التعليم ، الإعلام ، وغيرها . وبالتالي يصبح الحل الأمثل للخروج من المأزق الراهن بسبب حالة الانقسام الشديدة هذه ليس عبر الطرق القانونية لأننا أمام صراع وليس نزاع فقط حول شرعية الرئيس ، كما أن الحل الأمني لن يجدي كثيرا ، ومعظم التجارب التي استخدمت فيها القوة لحل الصراع أدت على تعقيده وليس حله.وبالتالي لم يعد أمامنا مفر سوى القبول بمنهج التسوية الذي لا يستخف فيه طرف بإمكانات ومطالب الطرف الأخر .. وهو ما يعني ضرورة القبول بمبدأ الحلول الوسط وأنصاف الحلول .. فالسياسة هي فن الممكن ، بدلا من المعادلة الصفرية التي تعني أن طرف يكسب كل شئ ويملي كل شروطه على الطرف الأخر الذي يخسر كل شئ، ولا يتم الالتفات لأي من مطالبه . مبادرة العوا نموذجاومن هنا بدأت تظهر العديد من المبادرات التي أتصور أن نجاحها يتمثل أولا في مدى معالجتها للإشكالية الخاصة بعودة الرئيس مرسي في ظل وجود مؤيدين ومعارضين له على حد السواء . وكذلك ما ترتب على خريطة الطريق من تعطيل للدستور وحل مجلس الشورى .لذا فإن المبادرة التي يمكن أن تكون أساسا للتفاوض هي تلك المبادرة التي تعمل على النظر في مطالب كلا الجانبين ومحاولة الوصول لحلول وسط بشأنها دون التحيز لطرف على حساب طرف أخر. وفي هذا الصدد قد تكون مبادرة دكتور العوا أحد الاجتهادات الطيبة في هذا الإطار، لا سيما وأنه حاولت الموائمة بين عدة أمور: - عودة الرئيس مرسي" طلب مؤيديه، مقابل التنازل عن صلاحياته لرئيس الحكومة، يعني يملك ولا يحكم على غرار ما هو متبع في النظم البريطانية ، وفي هذا إرضاء لمعارضيه أيضا - تشكيل حكومة توافقية حقيقية لا يرأسها قنديل إرضاء للمعارضة ، أو الببلاوي ، إرضاء لمؤيدي مرسي - البقاء على الدستور " مطلب المؤيدين" ، مقابل تشكيل لجنة للنظر في النقاط الخلافية لعرضها على مجلس الشعب المنتخب بموجب دستور 2012." مطلب المعارضين". - إجراء انتخابات برلمانية مبكرة " خلال شهرين وليس خلال ستة أشهر وفق الإعلان الدستوري" ، وكذا انتخابات رئاسية خلال ثلاثة أشهر ،وليست 9 أشهر حسب الاعلان الدستوري إذن هي مبادرة متوازنة إلى حد كبير بنودها قابلة للحذف والإضافة .. وإن كانت بعض القوى الليبرالية والعلمانية-كعادتها- رفضتها لأن مصدرها هو الدكتور العوا باعتباره ليس مفكرا إسلاميا ، ولكنه إخوانيا بالرغم من خلافه الكبير مع الإخوان . ونأمل أن يستجب لها السيسي باعتباره الحاكم الفعلي الآن ، لأن استخدام القوة في فض الاعتصام ربما يؤدي الى نتائج كارثية على الشعب المصري بكل طوائفه .. حفظ الله مصر والمصريين. كاتب ومحلل سياسي