خلال الأيام القليلة الماضية، تقدم عدد من المثقفين، بأكثر من مبادرة، لتسوية الأزمة الراهنة.. إحداها كان على رأسها المستشار طارق البشري، وأخرى طرحها الدكتور محمد سليم العوا. الأولى لم تحظ بموافقة الإسلاميين، فيما نالت الثانية رضاهم عنها، بما فيهم الإخوان المسلمون.. رغم أنها تقرر طي صفحة الرئيس السابق محمد مرسي، الذي تشترط الجماعة، عودته نظير قبولها التفاهم مع الجيش. غير أن القوى الثورية، رفضت مبادرة العوا.. وقالت لا مصالحة قبل المحاكمة، وطالبت أولا بالقصاص من مبارك، والمجلس العسكري السابق، ومن محمد مرسي حاليا.والحال أن مبادرة "البشري" كانت جيدة، وكذلك مبادرة "العوا".. غير أنهما لم ينالا الرضا العام.. ويبدو لي أن "الرفض" لا يتعلق بالفحوى، بقدر تعلقه ب"الرحم" الذي خرجت المبادرتان منه. الأولى كانت مشكلتها الأساسية في "التوقيت" حيث ظهرت في الوقت الذي كان رهان الإخوان على الخارج حاضرا بقوة.. والخسائر في الأرواح أقل، ما حملها على رفض مبادرة "البشري" أملا في أن تحصل على مكاسب أكبر، من "الخارج" الذي لا يزال عاجزا على إقناع الرأي العام الغربي، بأهمية تدخل الجيش في عزل رئيس "منتخب".. فيما رفضتها القوى الثورية، من جهة ، وسكت عنها الجيش من جهة أخرى.. لأن غالبية الموقعين عليها، من النخبة "المتعاطفة" مع الجماعة، واتخذت مواقف متشددة إزاء قرارات 3 يوليو، واعتبرتها "انقلابا عسكريا".. مثل طارق البشري وفهمي هويدي. مبادرة "العوا" رحب بها الإسلاميون على الفور ومن بينهم الإخوان، رغم أنها لا تحقق طموحات الجماعة، بذات قدر مبادرة "البشري".. إلا أن الظروف اللاحقة على الأخيرة، جعلت من الأولى، الأوفر حظا بين الإسلاميين "المتشددين" في رابعة.. حيث جاءت بعد جمعة التفويض، ومذبحة المنصة، وهما الحدثان، اللذان حملا رسالة تهديد واضحة وقوية للجماعة.. وهي الرسالة التي فهمت بأن الجيش قد نفذ صبره، وأن خيار "القوة" هو الأقرب من التسوية السلمية.. فيما جاء رد فعل الغرب على مذبحة المنصة مخيبا لتوقعات الجماعة، واعتبرته غير مشجع للاستمرار في التشدد ورفع سقف مطالبها وعلى رأسها عودة الرئيس المعزول. وفي حين قبل الإسلاميون مبادرة "العوا" لهذه الأسباب.. فإن القوى الثورية، رفضتها لأسباب أخرى.. منها ما يتعلق ب"المصدر" .. إذ يعتبر "العوا" وسيطا غير محايد، لأنه محسوب على التيار الإسلامي، وأقرب رحما من جماعة الإخوان المسلمين، فيما فهمت القوى الثورية، المبادرة، بوصفها "مصالحة" مع الجماعة.. وهي خطوة بحسب رأي الثوار تحرق المراحل، وتقفز على مطالبها بشأن "العدالة الانتقالية" والقصاص ومحاكمة الإخوان ومرسي ومبارك والمجلس العسكري الذي حكم البلاد قبل أن يسلم السلطة للإخوان في 30 يونيو من العام الماضي. ويبدو لي أن مبادرة "العوا" وكذلك مبادرة "البشري" اهتمت فقط بالخروج "المشرف" للإخوان، من الميادين.. وعودة الجيش منتصرا إلى ثكناته.. وهي الصيغة التي تعاطت مع المشهد مختصرا في طرفي أزمة ما بعد مرسي، ولم تراع تسوية "مرارات" المراحل الأربعة والتي لازالت تعتبر وقودا لعودة الجماهير إلى الميادين في أية لحظة، وعلى رأسها "القصاص" وملف شهداء منذ 25 يناير 2011 وإلى 26 يوليو 2013. الأزمة إذن لا تتعلق بالإخوان.. والجيش وحدهما وحسب.. وأي حل لا يراعي إلا رضا الطرفين فقط.. سيكون مآله الفشل لا محالة.