ازدادت مؤخرًا سخونة ملف العمالة الأجنبية في العالم العربي، وبخاصة في دول مجلس التعاون الخليجي، حيث باتت من بين العناوين الأكثر إثارة في العديد من الصحافة العربية والعالمية، واحتدم هذا الاهتمام خاصة بعد عمليات إعادة الهيكلة العمالية التي اتبعتها وما زالت تتبعها المملكة العربية السعودية. والحقيقة أن هذا الملف انقسم تحليله على جانبين متناقضين، الأول وهو نابع من فكر وطني رافض يرى أن زيادة عدد العمالة الأجنبية في دول الخليج له العديد من المساوئ الخطيرة على المستوى السياسي والاقتصادي والأمني، بينما يدافع الجانب الثاني عن هذا الموضوع ويقدم الدعم والمساندة للعمالة الأجنبية في الخليج، سواء على مستوى الدول المصدرة للعمالة، أو المنظمات الدولية المعنية بالدفاع عن شئون العمال، ويرى أن محاولة دول الخليج طرد العمالة الأجنبية إنما تعبر عن تعدي تلك الدول على حقوق العمال، الذي ينص عليها القانون الدولي، بما يمثل فشلها في إصلاح نظام العمل القائم على الاستغلال. يأتي ذلك في خضم الأنباء عن عزم السلطات في الإمارات طرد عدد من العمال معظمهم من الأسيويين ممن أضربوا عن العمل، من أجل تحسين ظروف عملهم، الأمر الذي دفع منظمة "هيومان رايتس واتش" المعنية بحقوق الإنسان في بيان صدر يوم السبت الموافق 25 مايو، تحذير السلطات من مثل هذا العمل الذي يتعارض مع حقوق العمال في كافة المواثيق الدولية التي وقعت عليها كافة دول الخليج. ونحاول من خلال فتح هذا الملف طرح العديد من الأسئلة على الجانبين المتناقضين، حول مدى أحقية حكومات الدول الخليجية فرض تشريعات تنظم العمالة الوافدة حسب مقتضيات مصالح هذه الدول وظروفها، وهل بالفعل تحولت العمالة الأجنبية وخاصة غير العربية من أداة للتنمية في الخليج منذ السبعينيات إلى معول هدم الهوية الوطنية لتلك الدول، فضلاً عن التداعيات الأخرى لوجود هذه العمالة بعد انتشار معدل الجرائم المنسوبة إلى الوافدين في الفترة الأخيرة؟ أسباب الاعتماد تعتبر هجرة العمالة الوافدة، وبخاصة الأسيوية إلى منطقة الخليج العربي، واحدة من أكبر وأخطر الهجرات للعمل في العصر الحديث، مقارنة بالهجرات الحديثة الأخرى، حيث شهدت - منذ منتصف السبعينيات - موجة كبيرة من العمالة وفدت إليها إثر الطفرة التي شهدتها عوائدها النفطية، تجاوزت في أعدادها وآثارها العديد من أنواع العمالة الأخرى كتلك التي انتقلت من حوض البحر المتوسط إلى أوروبا وغيرها من الهجرات، وكان واضحاً منذ البداية أن تدفق العمالة الوافدة إلى منطقة الخليج العربي يرتبط بشكل أساسي بالثروة النفطية التي أضحت مركزاً لجذب العمالة من الدول الفقيرة ذات الأوضاع الاقتصادية البائسة، وشروع دول المنطقة في تبني برامج ومشروعات تنموية ضخمة، كان تنفيذها يتطلب أعداداً كبيرة من العمالة، لا سيما في ظل قلة عدد السكان ورخص العمالة الأجنبية. وبالتالي استدعت الفترة الأولى لمراحل نمو الخليج العربي منذ سبعينيات القرن الماضي واستخدام عوائد الصادرات النفطية في إرساء البنية التحتية اللازمة لتحقيق الخطط التنموية، وتنفيذ المشروعات الاقتصادية العملاقة. معول هدم وعلى الرغم من هذا الدور التنموي المناط بهذه الموارد البشرية، إلا أن دول الخليج العربي يبدو أنها أصبحت اليوم تنظر إلى هذه العمالة باعتبارها معول هدم يضر بمقدرات هذه الدول التي عملت على حظر الإضراب عن العمل تمامًا، كما أنه لا توجد نقابات تتولى الدفاع عن حقوق هذه العمالة التي تشكل في بعض الدول نسبة (81.5%) من إجمالي عدد السكان. وعليه فإن التوسع في استقدام العمالة الأجنبية يعدّ خطرًا كبيرًا يهدد الهوية العربية، والتركيبة الديموغرافية لدول الخليج العربي، والأمن والاستقرار في المنطقة، كما يعتبره العديد من مفكري الخليج العربي، وعليه يمكن الدخول في باب تداعيات وجود العمالة الخارجية في دول الخليج العربي من ثلاث جوانب هما الجانب السياسي والاقتصادي والأمني، فلا يستبعد أن يأتي اليوم الذي تتدخل خلاله المنظمات الدولية في هذا الشأن بذريعة حماية حقوق الإنسان. فعلى الجانب الأول على الصعيد السياسي، أصبحت هناك إمكانية لتدويل قضايا العمالة في الخليج، بل وتسييسها في إطار العولمة واتفاقيات العمل الدولية، التي تتجه نحو توطين العمالة الأجنبية الوافدة ومساواتها مع العمالة الوطنية في كافة الحقوق، الأمر الذي يحمل معه مخاطر بالغة على دول الخليج. وعلى مستوى أكثر خطورة، يتصاعد القلق من تحول تلك العمالة إلى قوى سياسية ضاغطة في المستقبل، بل إن كثيرًا من المراقبين الخليجيين بدءوا في التحذير مما سموه "تهنيد الخليج" خلال العقود المقبلة، والدليل على ذلك أن بعض الحكومات الأسيوية طالبت أكثر من مرة الحكومات الخليجية بمراجعة اتفاقيات التوظيف، بزعم عدم وجود إجراءات سلامة مناسبة في أماكن العمل بدول الخليج، وتثار المخاوف كذلك من احتمال أن تطالب العمالة الأسيوية في المستقبل بالجنسية حسب قوانين العمل الدولية الجديدة، ليس هذا فقط، بل ويذهب البعض إلى إمكانية أن تطالب بحق تقرير المصير، حيث يمكن أن تفرز أجيالاً من المهاجرين، قد يتحولون بمرور الوقت من مستوطنين إلى متوطنين، لهم أوضاعهم الاجتماعية الخاصة بهم، فضلاً عن الضغوط التي قد تتعرض لها دول المجلس من قبل بعض الدول والمنظمات الدولية المعنية بحقوق الإنسان، بزعم عدم التزامها باتفاقيات العمل الدولية وانتهاكها لحقوق العمال الأجانب، وبرز هذا بوضوح في تقرير منظمة "هيومان رايتس ووتش" الذي صدر في 25 مايو الجاري وانتقاده لمحاولة "الإمارات" طرد عمال أسيويين بما يمثل انتهاكاً لحقوق العمال الأجانب في دول مجلس التعاون، وهو الأمر الذي رفضته دولة "الإمارات" معتبرة إياه تقريراً مبالغاً فيه، ولا يمكن الاستناد إليه في الإدعاء بأن أغلبية العمال الأجانب يتعرضون لانتهاكات. وعلى المستوى الثاني من الإفرازات الاقتصادية لتلك الظاهرة زيادة حجم العمالة الأجنبية في الخليج وتعديها للاحتياجات الحقيقية للاقتصاد الوطني لدول الخليج العربي، بما يشكل عائقًا أمام حصول العمالة الوطنية على الوظائف، فضلاً عن التزايد في التحويلات المالية من قبل العمالة الوافدة للخارج، وعلى سبيل المثال بلغت تحويلات العمالة في "السعودية" حوالي (30.3) مليار ريال في الربع الثاني من عام 2010م. كما تشمل التداعيات الاقتصادية أيضاً، مزاحمة العمالة الوافدة لمواطني دول المجلس على فرص العمل المتاحة، وانخفاض مستوى الكفاءة الإنتاجية للعمالة الوافدة مما يؤثر على جودة المنتج المحلي. وعلى الجانب الأخطر في هذه التداعيات على الصعيد الأمني، ما تمثله العمالة الوافدة من تهديد حقيقي لأمن واستقرار دول المجلس، في أكثر من زاوية أبرزها المظاهرات والوقفات الاحتجاجية التي قد تتحول إلى قلق أمني إذا تعدت أهدافها السلمية بما يخل بدواعي الاستقرار الداخلي في دول الخليج. وبالإضافة لتلك التهديدات الأمنية فقد زادت حدتها مع تورط عناصر من العمالة الأسيوية في الجريمة المنظمة كالتهريب بأشكاله المختلفة، والاتجار في المخدرات وغيرها من الجرائم كغسل الأموال وتزييف العملات. سبل المواجهة وفي محطة الحلول لمواجهة هذه الظاهرة التي تناولنا آثارها وتداعياتها، هناك مجموعة من السبل أمام الدول العربية وبخاصة دول مجلس التعاون الخليجي، تتمثل في إدراج الخطط التنموية الخليجية ضمن التكامل العربي، ومنح الأفضلية للموارد البشرية المحلية أولاً والعربية ثانياً من خلال تفعيل اتفاقيات انتقال العمالة العربية البينية، وتمهيد الطريق أمامها في ذلك؛ لأن ذلك يساعد على عدم الإضرار بالهوية لدول الخليج لاختفاء خلل التوازن في التركيب السكاني بين المواطن والوافد (العربي)، وإن ظهر على شكل خلل جزئي نتيجة الاختلاف في الجنسية فقط ليس أكثر، بينما كان يشترك المواطن مع الوافد العربي في كل الخصائص والسمات الفردية والاجتماعية عدا الجنسية. ومن بين المعالجات التي اتخذتها دول مجلس التعاون الخليجي لتقليل الاعتماد على العمالة الأجنبية، مجموعة من المعالجات الهيكلية على المدى القريب، تتمثل في وضع الحد الأدنى للأجر، وزيادة الرسوم المفروضة على استقدام العامل الأجنبي، وفرض رسوم على أجور العمالة الأجنبية، ودعم أجر العامل المواطن، وسياسة التدرج النسبي في القطاع الخاص. وعلى المدى المتوسط والبعيد فإن ثمة سياسات الاستغلال الأمثل للثروات بتأهيل الكوادر الوطنية، وإدخال النساء بقوة في سوق العمل من أجل الدفع بجهود التنمية الذاتية والاهتمام بتنمية الموارد البشرية، والاقتصاديات الجديدة التي لاقت نجاحها في نماذج أسيوية متعددة مثل الاقتصاد المعرفي والتكنولوجي، فضلاً عن بناء قاعدة إنتاجية وصناعية تهتم بالصناعات التحويلية والصناعات البترولية والتكريرية بدلاً من التصدير الخام.