لم يعد التدافع الحضاري عسكريا فحسب، وإنما أصبح أكثر خطورة وأعمق أثرا، بحيث تتم عمليات دقيقة التخطيط، عبر مراحل قريبة ومتوسطة وبعيدة المدى، ويسهر على تنفيذها جيش من الخبراء والباحثين في مجالات الأمن والحضارة، حيث يمتزج السياسي بالعسكري بالديني بالإقتصادي بالحضاري، من أجل تحقيق الأهداف الإستراتيجية للقوى المهيمنة في العالم.
قد يحصر السكان الأصليون لمنطقة الخليج العربي وحكوماتها الرسمية مشاكل العمالة الوافدة في كونها تأخذ مناصب عمل المواطنين، وقد يتحدثون عن بعض المشاكل الإجتماعية والثقافية، إلا أن ارتفاع نسب الوافدين مقارنة بالسكان الأصليين، والتغيرات السياسية السريعة التي يعرفها العالم، والهيمنة الأمريكية والإسرائيلية والغربية عموما، وحدّة المنافسة على الطاقة، ودخول قوى جديدة إلى حلبة الصراع الدولي، ومنها الهند والصين، كلها عوامل أعطت العمالة الآسيوية في دول الخليج بعدا إستراتيجيا خطيرا.
إن المتفحص لواقع الدول الإسلامية والعربية يجد أن الخطر محدق بها من كلّ مكان، ومن كل الجوانب والجهات. ذلك أننا نعيش اليوم حركة احتلال من نوع جديد، يتم من خلالها الغزو الثقافي والإحتلال التربوي وإغراق العدد القليل من المواطنين، كما هو الحال في مجلس التعاون الخليجي، بعدد كبير من الوافدين، من شبه الجزيرة الهندية وأوروبا وأمريكا، وقد وصلت نسبة الوافدين إلى المواطنين حوالي 90 في المائة في بعض الدول الخليجية.
وهكذا بنيت مدن كبيرة على الطريقة العصرية بحيث يسكنها أجانب من مختلف أصقاع العالم، بثقافاتهم وقيمهم وعاداتهم وتقاليدهم، وخاصة الغربيين منهم، والذين بإمكانهم العيش في دول الخليج. حيث تقدّم لهم كلّ التسهيلات، بدءا من التأشيرة والسماح لهم بالإقامة الدائمة وتملك العقارات، نهاية بالإحترام والتقدير. كما تمنح لهم مختلف الإمتيازات والأولوية في التشغيل، ومرتبات أعلى مما يمنح للعرب، حتى ولو تخرجوا من نفس الجامعات ولهم نفس الخبرات.
لقد تزايد عدد الأوروبيين والأمريكيين، وضمنهم عدد كبير من اليهود، ومن كلّ الطبقات، منهم التقنيون والخبراء، ومنهم التجار والصناعيون، ومنهم أعضاء المافيا العالمية، الذين يعملون على تبييض أموالهم، كما نجد عناصر الإستخبارات لمختلف الدول، بما في ذلك الموساد الإسرائيلي.
وقد وصل الأمر بالدكتور مجيد العلوي، وزير العمل البحريني السابق، في حديث له مع صحيفة 'الشرق الأوسط'، إلى اتهام رجال الأعمال في دول مجلس التعاون الخليجي ب'الجشع' والبحث عن مصالحهم الخاصة من دون النظر ل'الخطر' الذي ينتظر المنطقة من جراء 'قنبلة' العمالة الوافدة.
كما أكّد أن المنطقة متجهة نحو 'مصير مخيف إذا لم تلتفت الحكومات الخليجية لهذا المدّ 'التسونامي' للعمالة الوافدة (..) وهو بحق جريمة نكراء بحق دول الخليج'.
وهكذا، وفي ظل الضغط السكاني الأجنبي، أصبح من الصعب استعمال اللغة العربية للتفاهم في دول الخليج العربي، والإتصال والحوار بين أفراد المجتمع. بل طغت اللغة الإنكليزية، إلى جانب اللغات الهندية والأوردية والبنغالية والفارسية، ولا يتحدّث العربية إلا القليل. بل أن السكان الأصليين من العرب اضطروا إلى التكيف مع الأوضاع الجديدة، وأصبحوا يتعاملون باللغات الأجنبية لقضاء حاجاتهم اليومية.
وبالتالي بدأت الهوية العربية الإسلامية في الذوبان بدول الخليج العربي. وقد بدأت الكنائس تفتح أبوابها، إلى جانب أماكن العبادة بالنسبة لأتباع بعض المعتقدات الآسيوية، غير الديانات السماوية الكبرى، من بوذية وسيخ... وهكذا بدأت مظاهر الهوية العربية الإسلامية في الإختفاء، بدءا باللغة العربية لتزحف إلى الفنّ والآداب وغيرها من المظاهر الثقافية والحضارية.
كما أن انتشار ظاهرة المربيات الآسيويات، من الفلبين وسريلانكا...اللواتي لا يتقن اللغة العربية ولا يدينن بالإسلام، مما يؤثر دون شك على أطفال الأسر الخليجية وقيمهم وعاداتهم وثقافتهم وعقائدهم، مما يحرم الأطفال مناعة عربية إسلامية ضد الغزو الغربي وفوضى الثقافة في المجتمع.
وما زاد صعوبة الأوضاع انشغال الأولياء بأعمالهم وأمورهم الخاصة، وانتشار الألعاب الإلكترونية، ومختلف استعمالات الشبكات العنكبوتية، وتوسع استعمال وسائل الإعلام والإتصال، التي تبعد الأطفال عن العامل مع أوليائهم، وتعزز الثقافة الأجنبية الغريبة على حساب القيم الأصيلة للمجتمعات الخليجية.
وما زاد الطين بلّة، انتشار المدارس الأهلية والأجنبية، بما في ذلك الجامعات، مما أدى إلى تنوع المناهج الدراسية، وهجرة التربية الإسلامية 'باعتبارها مادّة دراسية تؤدي إلى التطرّف والإرهاب (كما يرى المنظرون الغربيون)' مما سيؤدي بالشباب الخليجي على المديين المتوسط والبعيد، إلى الإغتراب الثقافي.
وقد بدأت نتائج تبني النمط الغربي في الحياة في الظهور، في صورة انتشار تناول الخمور والإدمان على المخدرات والإختلاط الجنسي، وهي أمراض اجتماعية لا يمكن تجنبها في خضم السعي إلى تشجيع السياحة الغربية في دول الخليج العربي.
حقوق الوافدين
وقد وصل الأمر إلى مرحلة خطيرة، على المستوى السياسي، حيث بدأ الكلام عن مطالبة الوافدين بحقوق لهم في الدول التي ساهموا في بنائها، كحقهم في الإقامة الدائمة وما يترتب عن ذلك من حقوق المواطنة والترشح والإنتخاب في مختلف هياكل الدولة، بما في ذلك البرلمانات ومجالس الشورى. بحيث يكون تمثيلهم في مستوى حجمهم، علما أنهم الأغلبية في الدول التي يقيمون بها.
ولن يكون غريبا، إذا استمرّ الأمر على حاله لسنوات أخرى، أن نجد برلمانيين ووزراء، بل وأمراء من السيخ والهندوس والأمريكيين أو الأوروبيين، على رأس بعض المشايخ أو الإمارات بل حتى المملكات الخليجية. وبذلك تضيع الهوية ويضيع الوطن وتضيع الأمة.
أما العمالة الوافدة من الدول العربية في مجملها فهي ضعيفة نسبيا، إذ أنها لا تتجاوز 25 في المائة، من مجموع الوافدين. كما توضع في وجهها صعوبات وعوائق، وقد يطرد بعض أعضائها عند حدوث مشاكل مع حكوماتهم الأصلية، كما حدث من قبل مع الفلسطينيين والمصريين واليمنيين، رغم الإقامة الطويلة لبعضهم في دول خليج.
لهذا يجب أن يكون حلّ مشكلة نقص العمالة في دول مجلس التعاون الخليجي هو استقدام عمالة عربية للقيام بجلّ الأعمال التي يؤديها الوافدون، مما يسمح بالحفاظ على الهوية من لغة وثقافة. كما أن العمالة العربية، وحتى في حالة توطينها فلن يكون هناك خوف منها، وهي جزء من هذه الأمة والثقافة، فهي تحمل نفس التطلعات والطموحات وتعاني من نفس المشاكل والهواجس.
ليست المرحلة التي وصلت إليها دول مجلس التعاون الخليجي عفوية، وإنما تمّ دفعهم إليها بطريقة أو بأخرى، لإيصالهم إلى هذه الوضعية. وفي حالة عدم استفاقة الدول الخليجية من غفلتها، فسوف تفيق يوما على إعلان الوافدين غير العرب عن إسقاط الحكومات القائمة.
وتشكيل حكومات أخرى من الأغلبية المقيمة بتلك الدول، والمسيطرة على مقاليد الأمور الإقتصادية بها. عندئذ لا يكون في وسع الأممالمتحدة وجمعيات حقوق الإنسان إلا مباركة هذه الخطوات، والتي ستعتبرها تطبيقا للديمقراطية وحقوق الإنسان، عندئذ تنكشف خيوط المؤامرة، ويظهر الأمر الواقع، حيث لا ينفع الندم.
ولا يغترن العرب بصداقة أمريكا، والعلاقات العريقة معها، فقد كان صدام حسين صديقا لأمريكا وبريطانيا وفرنسا، وأن ذلك لم يشفع له للإنقضاض عليه، وفي ذلك عبرة لمن يعتبر.
من هنا يتبين لنا وجوب أخذ الحيطة ومواجهة عدوّ شرس، لا تحكمه القيم الأخلاقية والإنسانية، وهو مستعدّ للقيام بأي شيء من أجل السيطرة والهيمنة على العالم، بما في ذلك التصفية العرقية والتحويل البشري لتغيير الطبيعة البشرية والثقافية للشعوب والدول. وهو ما مارسه منذ عقود في فلسطين، وهو ما يخطط للقيام به في أي منطقة من العالم لتحقيق مآربه في السيطرة على العالم.