بدأت قلعة «نظام الكفيل» فى الخليج تهتز، بعد أن قامت مملكة البحرين بإلغائه اعتبارا من أغسطس المقبل. وفى الواقع إن التفكير فى إلغاء «نظام الكفيل» وراءه عدة أهداف؛ يأتى فى مقدمتها وضع نهاية لنظام سىء السمعة (سبق لمنظمة الهجرة الدولية أن وصفته فى تقريرها عام 2005، فضلا عن جمعيات حقوق الإنسان، بأنه أقرب للاستعباد والسخرة)، يلى ذلك السعى لإحداث التوازن فى خلل التركيبة السكانية بشكل متدرج. فقد استغل بعض الكفلاء هذا النظام فى جلب أعداد ضخمة من العمالة الهامشية دون حاجة أسواق العمل إليها، أما الهدف البعيد المدى فهو إعادة التوازن لهيكل سوق العمل الخليجى. وجاء اتباع نظام «الكفيل» بدول مجلس التعاون الخليجى منذ بداية السبعينيات ضمن وسائط أخرى، لجلب العمالة الوافدة لسد جانب من الفجوة فى سوق العمل الخاص. وكان فى البداية يستند إلى اعتبارات تنظيمية وأمنية، ثم انحرف مساره فيما بعد. فبموجب هذا النظام يتم تقييد حرية تنقل «المكفول» داخل وخارج البلاد بالاحتفاظ بجواز سفره، ولا يستطيع القيام بأى معاملات عادية كفتح حساب فى البنوك أو شراء سيارة، أو استقدام أفراد عائلته، ولا تغيير صاحب العمل، فالكفيل وحده هو صاحب الحق فى التنازل عن المكفول لكفيل آخر...الخ. ويتقاضى الكفيل نسبة أو مبلغ مقطوع من راتب المكفول شهريا أو سنويا. وفى الواقع لا يوجد نظام محدد فى دول مجلس التعاون الخليجى لنظام «الكفيل»، وإنما جاء ضمن القواعد المحددة للإقامة واستخدام الأجانب، ومن ضمنها بنود تتعلق «بالكفيل»، وقد يكون هيئة حكومية أو شركة أو فرد. وعبر هذه القواعد فوضت دول مجلس التعاون بعض مواطنيها، بجانب من صلاحياتها الأمنية والإدارية. وعندما تطالب أى جهة خارجية بإعادة النظر فى نظام «الكفيل»، ترد دول الخليج بأنه شأن داخلى لا يجوز التدخل فيه، دون إدراك أن الشأن الداخلى لم يعد شأنا مطلقا. وقد أدى نظام «الكفيل» السائد فى دول مجلس التعاون الخليجى إلى نشوء أوضاع غير نظامية وممارسات متجاوزة، منها قيام بعض الكفلاء بالمشاركة فى عمليات تهريب واستدراج العمالة الهامشية دون حاجة سوق العمل لهم والاتجار بهم، تحت ستار «الفيزا الحرة» وتجارة «الإقامات»، وأدى ذلك إلى المنافسة الخشنة بين مختلف فئات العمالة الوافدة، والمزيد من تدهور أوضاعها، والزج بهؤلاء العمال فى مأزق المديونية والقبول بأجور متدنية، واستبدال عقودهم بأخرى ذات أجور منخفضة. وقد شهدت بعض دول الخليج مظاهرات واعتصامات للعمالة الوافدة احتجاجا على هذه الأوضاع. وقد ذكرتنى ممارسات الكفلاء وتجاوزاتهم بأوضاع عايشتها فى الكويت، من بينها ما عُرف ب«أحداث عشوائية خيطان» فى 30/10/1999، ووقع خلالها شجار بين مجموعة من العمال البنجال وأخرى من المصريين، حول طبق مكسور، وتحولت إلى أحداث شغب ومصادمات عنيفة مع رجال الأمن الكويتيين، وتم احتواؤها فى الوقت المناسب. وكان فى خلفياتها أن الكثيرين منهم وقعوا ضحايا لتجار التأشيرات والكفالات. وما زلت أتذكر موقف الشيخ صباح الأحمد الصباح – أمير دولة الكويت (وقت أن كان نائبا لرئيس الوزراء ووزيرا للخارجية) - من هذه الأحداث، حينما طالب فى جلسة مجلس الأمة الكويتى يوم 2/11/1999، بوضع حد لما سماه بحق «تجارة الرقيق الجديدة»، ومضيفا أن «ثمة مجرمين فى الكويت يمارسون تجارة الرقيق، ويأتون بالعمال دون أن يكون لهم عمل حقيقى، ويرمونهم فى الشوارع». وسلطت هذه الأحداث وغيرها الضوء على نظام «الكفيل» واستغلاله للعمالة الوافدة، وتصاعدت المطالبات بإلغائه. وقد قيل وقتها أن الكويت ستكون أول من يلغيه فى المنطقة. وتجدر الإشارة إلى أن أعضاء مجلس الأمة الكويتى السابق قبل حله، عقدوا عدة جلسات خاصة فى عام 2008 لمناقشة مشكلات نظام الكفيل، وأبرزوا كشفا بأسماء الشركات والأفراد الذين ثبتت بحقهم تهم الاتجار بتأشيرات الدخول إلى البلاد. إلا أن استغراق هذا المجلس فى الدائرة المفرغة لعمليات استجواب السلطة التنفيذية، شغلت قادة الكويت مرحليا عن مثل هذه القضايا الأساسية، إلى أن فاجأت مملكة البحرين الجميع بأن تكون هى المبادرة باتخاذ هذا القرار الذى طال انتظاره. والدعوة لإلغاء نظام الكفيل ترددت فى أروقة دول مجلس التعاون الخليجى طوال السنوات الماضية، وإن بشكل متقطع. فقد سبق أن طالب الملك عبد الله بن عبد العزيز عاهل السعودية، وقت أن كان وليا للعهد، بتعديل نظام الكفيل، وكذلك دعا الأمير طلال بن عبد العزيز إلى استبداله بنظام آخر، إضافة لمطالبة جمعيات أهلية سعودية وكويتية بإلغائه لانتهاكه لحقوق الإنسان. وقامت وزارة العدل الإماراتية عام 2007، بالاستجابة لبعض الانتقادات لنظام الكفيل، بمنح العامل الأجنبى حق الانتقال إلى كفيل آخر، إذا ثبت أن كفيله الأصلى تعنت معه ولم يوفه حقه. وبالمقابل قاوم بعض رجال الأعمال والتجار والمستفيدين من نظام الكفيل جهود إلغائه، بعد أن أصبح بزنيس كبير يدر دخلا أساسيا ومصدرا للثراء على حساب الغير. وأبرز النقاش الذى دار فى هذا الشأن تعارض المصالح الخاصة مع المصالح الوطنية العامة. ويبقى سؤالان مهمان.. السؤال الأول: ماذا يستفيد العمال الوافدون من إلغاء نظام الكفيل؟ والإجابة.. يكفى أنه سيلغى معه إحدى دوائر استغلالها، بما تفرضه من إتاوات واستقطاعات مالية من دخولهم، والأهم من ذلك استرداد كرامتهم الإنسانية. (وسبق للمنظمة المصرية لحقوق الإنسان أن أصدرت عدة تقارير تطالب فيها بإلغاء «نظام الكفيل» من بينها تقرير عام 1995 معنون: «المصريون بالخليج أسرى نظام الكفيل». وتقرير عام 2002 بعنوان «العمالة المصرية فى الخليج مسافرون للمجهول»، وآخر عام 2008 معنون «المصريون فى الخارج بين براثن نظام الكفيل ولقمة العيش»). والسؤال الثانى ما هى البدائل المطروحة لهذا النظام. فى الواقع ترددت عدة آراء فى هذا الشأن، من ذلك مثلا اقتراح إنشاء وزارة أو هيئة تابعة لمجلس الوزراء تتولى مهام العمالة الوافدة بشكل مباشر، أو تكوين شركات حكومية للعمالة الوافدة بالتعاون والتنسيق مع القطاع الخاص، أو إنشاء مكاتب استقدام للعمالة فى الدول المصدرة لها، وغير ذلك من مقترحات تنظيمية وإدارية بديلة. وفى كل الأحوال ستستعيد أجهزة الدولة الصلاحيات التى سبق وأن فوضتها للكفلاء. وعلى صعيد آخر، أصبحت العمالة الآسيوية تشكل مع الوقت قرابة ٪70 من العمالة الوافدة، والتى يُقدر إجمالى عددها بقرابة 12 مليون عامل (فى السبعينيات كانت العمالة العربية تُشكل ٪75 من العمالة الوافدة). ومن الطبيعى أن يثير تزايد حجم العمالة الوافدة غير العربية فى دول المجلس الكثير من التساؤلات والقلق المبرر. فقد بلغت نسبة العمالة الوافدة مقارنة بإجمالى عدد السكان ٪31.1 فى السعودية، و31.3 فى سلطنة عمان، و٪40.7 فى البحرين، و٪58.5 فى الكويت، و٪47.3 فى الإمارات، و٪79.4 فى قطر. ومن مصادر القلق والخشية من الخلل فى التركيبة السكانية على هذا النحو، أنها أدت إلى تدهور المركز النسبى للمواطنين فى الهرم السكانى، وإلى تدهور أخلاقيات العمل والتحيز ضد العمل اليدوى والمنتج، أصبح يعرض هوية المنطقة إلى الخطر ويجعلها عرضة لتغيرات سكانية جذرية، كما يهدد لغتها وقيمها العربية والطابع الثقافى المميز لمجتمعات دول مجلس التعاون الخليجى، لاسيما بعد مطالبة بعض الجاليات الآسيوية مدعومة بالمنظمات الدولية المعنية، بالمطالبة بحق الجنسية للأفراد الذين انقضى على إقامتهم ست سنوات. وكحل انتقالى وقائى أصدر وزراء العمل الخليجيون قرارا عام 2005 بألا تتجاوز مدة الإقامة للوافد خمس سنوات، تحسبا لهذه المطالبة، إلا أن هذا القرار ما زال متعسرا فى التنفيذ. واستشعارا لخطورة الخلل فى التركيبة السكانية ذهب بعض المسئولين الخليجيين، الفريق «ضاحى خلفان» قائد شرطة دبى، إلى حد القول فى ملتقى الهوية الوطنية (2008): «أخشى أننا نبنى عمارات ونفقد إمارات.. وأن ما تشهده البلاد هو هجرة العواصف.. وهل يكون كوتى (اسم هندى شائع) مرشحا للرئاسة فى دولة الإمارات؟». ومن هنا بدأت تتردد آراء تطالب بإعطاء الأولوية للعمال العرب. وأخيرا، فإن التوسع فى سياسة استجلاب العمالة الوافدة أدى إلى تفتيت سوق العمل الخليجى، أى وجود أكثر من نظام للأجور فيها. فأجور القطاع العام مثلا فى دول مجلس التعاون الخليجى تفوق القطاع الخاص. ونتيجة لذلك يفضل المواطنون البقاء عاطلين عن العمل على أن يقبلوا بوظائف متدنية الأجور فى القطاع الخاص، وهو ما جعل خلق وظائف للعمال من المواطنين مسألة أكثر صعوبة. ومن هنا جاء التفكير فى التحكم فى حجم العمالة الوافدة وفق احتياج السوق، عبر إلغاء نظام الكفيل. إن مبادرة البحرين الجريئة قد تشجع دول مجلس التعاون الخليجى على الإسراع فى تبنى خطوات مماثلة وفق ظروف ومعطيات كل دولة. فالأفكار الجديدة أصبحت قوة محركة فى مجالات التقدم الإنسانى. والعالم أصبح فى سباق مع الزمن والتطور وكذلك منطقة الخليج.