تشهد الساحة السياسية الدولية والاقليمية تحركات دبلوماسية على كافة المستويات من أجل التحضير والاستعداد لعقد مؤتمر "جنيف 2" في مطلع يونيو المقبل للبحث في تسوية للأزمة السورية بمشاركة ممثلين عن النظام والمعارضة، حيث جرت محادثات في السابع من مايو الجاري بين كيري ولافروف وزيري خارجية أمريكا وروسيا على التوالي وكذلك مع الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، أثمرت عن الاتفاق على هذا الاجتماع الدولي. ونص الاتفاق علي أن تقوم حكومة انتقالية كاملة الصلاحيات بدون بشار الأسد علي أن تكون هذه الحكومة مقسمة إلي ثلاث حصص ، ثلث مقاعدها للنظام ، وثلث للمعارضة بجميع أطيافها ، وثلث لشخصيات وسطية غير محسوبة علي أي طرف ، وفيما يتعلق بمصير الأسد، وافقت الولاياتالمتحدةالأمريكية علي أن يبدأ التفاوض دون اشتراط رحيل الأسد وأن يكون ذلك من خلال هذا المؤتمر الدولي على أن ينتهي بقرار من مجلس الأمن تحت الفصل السادس، وقد رفضت واشنطن بقاء الأسد في منصبه إلي نهاية ولايته العام المقبل، وقبلت موسكو بهذا المقترح الأمريكي. وترجمة لهذه التحركات والجهود الدبلوماسية الدولية، تستضيف باريس اليوم وغداً اجتماعين على مستوى كبار الموظفين في وزارات الخارجية للمجموعة الثلاثية "الولاياتالمتحدة وبريطانيا وفرنسا" والمجموعة الخماسية للدول دائمة العضوية في مجلس الأمن للتحضير للمؤتمر فيما أكدت عمان أن اجتماعا للمجموعة المصغرة لأصدقاء الشعب السوري سيلتئم في العاصمة الأردنية أواسط الأسبوع القادم. لا مكان للاسد وكان وزراء خارجية السعودية والأردن وقطر وتركيا والإمارات ومصر قد عقدوا اجتماعاً طارئاً في أبو ظبي مؤخراً، وأصدروا بياناً أكدوا فيه أنه لا مكان للرئيس الأسد ونظامه في أي تسوية سلمية في سوريا، وحمّلوا هذا النظام مسؤولية التفجير في بلدة الريحانية التركية واستخدام أسلحة كيماوية، والمسؤولية عن القتلى السوريين وفي نفس الوقت، فإنه في حالة اعتراف الجمعية العامة للأمم المتحدة بائتلاف المعارضة السورية باعتباره المحاور والممثل الفعلي اللازم للانتقال السياسي وبالالتزام الذي أعلنه بمبدأ الانتقال السياسي إلى جمهورية عربية سورية مدنية ديمقراطية تعددية، يكون الطريق إلى نجاح عقد المؤتمر قد بات ممهداً. ومع إدانة الجمعية العامة للأمم المتحدة، قصف القوات السورية للبلدان المجاورة وإطلاق النار فيها مما يعد انتهاكاً للقانون الدولي، طلبت الجمعية العامة من الأمين العام للأمم المتحدة الشروع في التخطيط لتقديم الدعم والمساعدة للعملية الانتقالية بتنسيق مع المؤسسات المالية الدولية والمنظمات الإقليمية والدولية المعنية. ماهية الدوافع وجاءت حالة الحراك الدولي والجهود المبذولة لعقد مؤتمر "جنيف 2" لوضع حد للأزمة السورية بعد مرور أكثر من عامين على اندلاعها، لتثير الكثير من التساؤلات وعلامات الاستفهام بشأن ماهية الدوافع الواقعية والحقيقية التي حركت أمريكا وروسيا بالتحديد لكي تبحث في حل دولي الآن. ولماذا توافقت واشنطنوموسكو على انعقاده بهذه السرعة بعد كل هذا الجمود والمماطلة والمناورة التي حالت دون تنفيذ ما تم التوافق عليه في "جنيف 1". في حقيقة الأمر، ثمة دوافع عدة ملتبسة هي التي تحرك المجتمع الدولي الآن، فعلى الجانب الأمريكي، تسعى الإدارة الأمريكية لتحقيق أكثر من هدف، أولها إعفاء الرئيس باراك أوباما من اتخاذ قرار مفصلي من الأزمة السورية، بعد كل الضجة التي أثيرت عن تجاوز نظام الرئيس بشار الأسد باستخدام محدود للسلاح الكيماوي. وثانيها تخفيف الضغوط التي بدأت تمارسها قوى في الداخل الأمريكي والخارج من أجل التدخل وتوفير السلاح الفاعل لمجموعات معارضة. وعلى الجانب الروسي، أظهر مسارعة موسكو لقبول الفكرة رغبة مشتركة أمريكية روسية في كسب مزيد من الوقت، كأن الحوار الدائر بين الطرفين الأمريكي والروسي في كثير من الملفات لم ينضج بعد ويتطلب مزيداً من الوقت، لكن الملف السوري المتفجر شهد أخيراً تطورات أنذرت بتغيير قواعد اللعبة المستمرة من سنتين، ومن ثم شكلت دافعاً قوياً لتحرك سريع من أجل إعادة ترميم بعض ما تجاوزه أطراف الصراع السوري في الداخل واللاعبون الإقليميون. ولعل الدافع الأكثر وضوحاً للتحرك الأمريكي والروسي، هو انخراط إسرائيل ميدانياً في الحرب عبر سلسلة من الغارات استهدفت ليس مواقع سورية فحسب بقدر ما استهدفت مستلزمات انخراط إيران وحزب الله عدداً وعتاداً من صورايخ وأسلحة متطورة، ولم يقف هذا الانخراط عند هذه الحدود، إذ أعلنت طهران أنها ستشكل "حزب الله" السوري بعد إعلان دمشق فتح جبهة الجولان أمام المقاومة، ورحب الحزب اللبناني مبدياً الاستعداد لكل أشكال الدعم لهذه الجبهة. ومن الدوافع الأخرى، انخراط دول إقليمية أخرى في معترك الصراع، إذ دخلت العراق على الخط من خلال انضمام قوى وميليشات إلى ساحات المتقاتلين في دمشق وغيرها من المدن، أو قصف القوات العراقية لمعبر اليعربية الحدودي الذي يسيطر "الجيش السوري الحر" عليه، كما وجدت تركيا نفسها مضطرة لمنع وصول السيناريو السوري إلى أراضيها، وذلك بعد أن ثبت دور الاستخبارات السورية في التفجيرات الأخيرة التي ضربت بلدة الريحانية التركية، كما ورد في التحقيقات الأولية، وهنا ستجد حكومة رجب طيب أردوغان نفسها مضطرة إلى إعادة النظر في القواعد التي حكمت سياستها تجاه سوريا. إضافة إلى ما سبق، باتت الدول الكبرى على يقين تام من أن الخطر لم يعد يتهدد سوريا الدولة والمؤسسات والمكونات، بل بات يهدد أيضاً مصالحهم ودورهم في رسم مستقبل هذا البلد، لذلك استعجلت الولاياتالمتحدةوروسيا الدعوة إلى مؤتمر دولي لإعادة إحياء بنود "خطة جنيف 1" التي أقرتها الدول الكبرى والجامعة العربية وتركيا قبل نحو عام، وبالتأكيد ترغب الدولتان الكبيرتان في أن يكون لهما الدور الأساس في إدارة أزمة سوريا وفي إيجاد تسوية سياسية لها مطابقة لصورة المستقبل الذي تريدانه لهذا البلد، من أجل ضمان مصالحهما فيه وفي بلاد الشام عامة. أمام هذه الدوافع الملتبسة التي أيقظت المجتمع الدولي من سباته أكثر من عامين حيال تدهور الأحداث في سوريا، أصبح الحديث كذلك مركزاً على مستقبل ومآلات "جنيف 2" في حالة انعقاده، وإمكانية نجاحه في وقف نزيف الدم السوري. تحديات ثمة عقبات وتحديات أمام "جنيف 2"، يأتي في مقدمتها، محدودية القدرة الأمريكية والروسية على إقناع كل من أطياف المعارضة السورية والنظام الحاكم السوري على الجلوس معاً على مائدة حوار واحدة، وبالتالي إحداث نقلة نوعية في ملف الأزمة السورية، فلا قدرة للأمريكيين على دفع المعارضة إلى الحوار مع النظام، علماً أنهم قد لا يجدون سوى قلة تصغي إليهم، بعدما وضعوا "جبهة النصرة" على لائحة المنظمات الإرهابية، ويخشون من ترجيح كفة "الإخوان المسلمين" في تشكيلات المعارضة، من "المجلس الوطني" إلى الائتلاف القائم. ويعارضون مد "الجيش الحر" بما يحتاجه من سلاح لمواجهة آلة النظام وترساناته الأرضية والجوية والبحرية. ولا قدرة للروس على اقناع الرئيس الأسد ونظامه بالبقاء بعيداً عن الحكومة الانتقالية ، أو إقناعه بالتنحي لأن هذا النهج يعد تدخلاً خارجياً في شئون البلاد. ثاني العقبات والتحديات، تعدد أهداف القوى الإقليمية ، من إيران إلى إسرائيل، ومن العراق إلى تركيا ولبنان والأردن، والسعودية وقطر ومصر، وقد باتت هذه الدول جزءاً من الحرب القائمة، فلكل واحدة منها أسبابها الخاصة وأهدافها الجوهرية التي لا يمكنها التنازل عنها بيسر وسهولة، أياً كانت ضغوط الكبار، ففي الوقت الذي ترى فيه واشنطن ضرورة إبعاد إيران عن طاولة المفاوضات، تصر موسكو على حضورها وفق ما صرح به وزير الخارجية سيرجي لافروف. أما ثالث هذه العقبات، هي انتزاع الإشراف على القوات المسلحة والقوى الاستخباراتية والأمنية من أيدي الأسد، وإعلان دمشق رفضها أي "املاءات" في هذا المؤتمر وذلك بحسب نائب وزير الخارجية فيصل المقداد. في حين يمثل ارتباك موقف بعض الدول الكبرى بشأن عقد هذا المؤتمر رابع التحديات والعقبات،فإذا كانت روسيا قد اقترحت 5 أسماء لتمثيل النظام السوري في مؤتمر "جنيف 2"، إلا أن من بين هذه اللائحة ثمة أسماء "لا يمكن قبولها"، شكك وزير خارجية فرنسا لوران فابيوس في إمكانية عقد هذا المؤتمر الدولي بشأن سوريا في وقت قريب، قائلاً "إن جمع ممثلين عن حكومة دمشق والمعارضة سيكون صعباً"، وذلك على خلفية اجتماع الائتلاف الوطني السوري المعارض في 23 مايو الجاري بتركيا لمناقشة الاقتراح الروسي الأمريكي. وتأسيساً على ما سبق، يمكن القول أن ثمة شكوكاً قوية حول إمكانية عقد المؤتمر "جنيف 2"، وفي حالة تجييش المجتمع الدولي لعقده، باتت الشكوك قائمة حول تنفيذ ما تم التوصل إليه، في ظل تصارع المصالح الدولية والإقليمية على الأراضي السورية.