لدىَّ عمل مؤقت أحتاج فيه إلى «مساعد باحث»، ولهذا كتبت الإعلان التالي على الشبكات الاجتماعية : «مطلوب لمهمة بحث مؤقتة: جامعي، قارئ، يجيد اللغة العربية، لديه إلمام بالشعر والرواية، لا يشترط التفرغ، لكن يجب أن يكون متواصلاً دائمًا مع الإنترنت، مثابرًا ، يلتزم بمواعيد العمل .. الإخوان يمتنعون». لم يفاجئني أن يترك الجميع كل المواصفات وتستوقفهم عبارة «الإخوان يمتنعون» . هذا ليس شرطًا للوظيفة المؤقتة، وحتى لو كانت دائمة كنت سوف أحرص على الإشارة إليه، هو معيار تقييم، لا يعبر عن مهارة، ولكنه يشير إلى احتمالات إخلاص طالب العمل لما سوف يُكلف به .. كتبت لمن طلب التوضيح في تفسير ذلك : «مطلوب مساعد باحث يخلص لعمله لا لجماعته» ، إن رأيي الخاص هو أنه لا يُمكن للإخواني أن يجمع بين هذه وتلك .
المسألة ليست شخصية، إنما حقائق الأمور التي أعرفها، والتي صار يعرفها كثير من المصريين خلال العامين الماضيين تثبت أن كون الشخص إخوانيًا فإن هذا يعوقه عن أداء دوره والقيام بمهمته، ولا يُمكن لمتخصص محترف - مهما كان مستواه ومهما كان مجاله - أن يكون قادرًا على أداء عمله بدون أن يصطدم ذلك مع انتمائه السياسي وعقيدته الأيديولوجية .. وحين تحين لحظة الاختيار فإنه يختار الجماعة قبل نفسه .
عضو الجماعة ولاؤه لها، لا إلى بلده. لا تعنيه مصالح الدولة، بقدر ما تعنيه تعليمات وأوامر الجماعة. ومن ثم ليس من الغريب أبدًا أن تجده يقبل التنازل عن حدود وطنه، إذا ما كان التوجيه الذي صدر ل «الصف» - كما يسمون قواعد الإخوان هي أن مصلحة الجماعة في ترك تلك الحدود .. يستوي في هذا الإخواني المصري الذي يقبل التنازل عن حلايب وشلاتين مع الحمساوي الإخواني الفلسطيني الذي لا يرفض تفتيت أرض شعبه وهدم وحدته ..من أجل إمارة تخص تنظيمه في «اختناق» يطلق علىه جغرافيا اسم «غزة» .
لم يكن للجماعة أن تقوم وتستمر لولا أنها تتلقى الأموال الطائلة من خصومات ثابتة يدفعها كل عضو من دخله الشهري لصالحها ..هذا المال هو شريان حياتها .. ولكي يظل العضو راضخًا لهذه الضريبة الأبدية فإنه يتربى منذ اليوم الأول على أن يلغي عقله .. وأن يقنع نفسه بأن السمع والطاعة نوع من الالتزام وليس من التنميط .. وأن تقبيل الأيدي هو نوع من الاحترام لا أسوأ أنواع الرضوخ والعبودية.. وأن عليه أن يضع ثقافته ومهارته وقدرته فوق قضبان ذات اتجاه واحد لا يحيد عنه .. وإذا حاد انقلب .. وانتهى .. إذ لو فكر قليلاً سوف يتمرد .. وإذا تمرد هذا وذاك لن يتم دفع الضريبة للجماعة فتنتهي .
هنا يكمن جوهر الأمر، قبل أن يتحول إلى أسلوب تربية وتدريب. ولذا فإن أعضاء الجماعة يتحولون بمضي الوقت إلى صور شائهة للمخلوق البشري، تعرفهم من بعيد ، تضاف إلى ملامحهم مواصفات فسيولوجية لم يرثوها عن عائلاتهم عبر الجينات .. يضيق أفقهم وينسجن عقلهم وتسخر قدرتهم ليس من أجل ذاتهم أو من أجل انتماءاتهم الأوسع وإنما من أجل الجماعة.. فيصبح كل آخر عدو ولو كان من أبناء الوطن ..ويكون كل آخر خصم ولو كان جارًا أو رئيسًا أو مرؤسًا أو حتى شقيق .. فالأخوة في الجماعة أهم وأقوى وأعلى مرتبة من روابط الدم والوطنية.
هكذا إذا كذب الإخواني هو لا يرى ذلك كذبًا بل أداءً لمهمة ، وإذا أخفى طويته ونواياه فإنه يكون ممارسًا للتقية من أجل ما يعتقد أنه واجب التزم به، وإذا خالف قاعدة معروفة للأمانة فإن ذلك لا يعتبر لديه مخالفًا للأخلاق والقيم طالما كان يحقق هدفًا أو يُخفي سرًا أو يصون مصلحة ما تراها الجماعة غريبة الأطوار وعجيبة المسار .
فيما بعد 25 يناير ، اكتشف مئات من المصريين أن زملاء لهم وأقارب وجيرانًا كانوا «إخوان» دون أن يعلنوا ذلك .. ما اصطلح على تسميته ب «الخلايا النائمة» .. ذلك أن عددًا كبيرًا من البشر كان قد انخرط في هذا التنظيم السري وأبقى نفسه طي الكتمان ، بل واصطنع لذاته صفات واتجاهات لا يؤمن بها على سبيل الخداع والتضليل .. فلما كشف نفسه صار إنسانًا آخر وشخصًا مختلفًا وتبينت حقيقته المرة التي تتناقض تمامًا مع ما كان عليه . من هنا تساءل الآخرون كيف يؤمنون وكيف تطمئن لجانب هذا ؟
تعلمنا أن الصدق منجاه ، ولكن الإخواني يتعلم أن الخداع وسيلة مقبولة للمناورة وتحقيق المصلحة .. وتعلمنا أن التزام التعهد كلمة شرف لا يُمكن التراجع عنها، لكن الإخواني يعد ولا يفي وإذا واجهته بما وعد فإنه لا يخجل من أن يبرر وقد يؤكد أنك فقدت الذاكرة وأنه لم يعلن هذا ولم يقل ذاك .. حتى لو واجهته بتسجيل كلماته كما حدث قبل أيام حين أنكر المرشد السابق محمد مهدي عاكف تصريحاته . وتعلمنا أن المبادئ لا يُمكن التنازل عنها، لكن الإخواني يُمكن أن يتنازل عن المبدأ وعن حد الأرض وعن مصلحة البلد وعن نص القانون .. ولا يتورع أن يصف فوائد صندوق النقد الدولي بأنها مصروفات إدارية لا يمكن اعتبارها ربا !
كل هذه العوامل والصفات تجعل هناك تناقضًا رهيبًا بين «الاحتراف» وأن يكون المرء إخوانيًا ، بين الإخلاص وأن يكون المرء عضوًا في الجماعة .. ولهذا فإن الإخواني لا يمكنه أبدًا أن يحقق مستوى متقدمًا في أي عمل ولا تستطيع أن ترصد لهم مبدعًا أو كفاءة أو صاحب مكانة رفيعة .. هم متمكنون من أمر واحد فقط «الخداع والتضليل» .. ومن ثم عليهم أن يمتنعوا .
الآراء المنشورة في الموقع تعبر عن توجهات وآراء أصحابها فقط ، ولا تعبر بالضرورة عن الموقع أوالقائمين عليه