- صاحب المسجد أمير مملوكي مات مخنوقا على يد السلطان الناصر - أعمدة وبوائك وتيجان مزخرفة بثنائية بديعة تلف بالمكان - 17 عاما أغلق المسجد بسبب مياه الصرف إلى أن عاد لبهائه
كتب – السيد حامد
في شارع السيوفية، القريب من جامع السلطان حسن، يقع مسجد الأمير الماس الحاجب، أحد الأمراء المقربين من السلطان الناصر محمد بن قلاوون. تاريخ الإنشاء يعود إلى عام 729 هجريا/ 1329م. وكلمة "الماس" تتكون من مقطعين.. "أل" وتعني يموت و"ماس" وتعني لا .. فيكون اسم الأمير "لا يموت أو الخالد".. لكن الماس مات مخنوقا على يد سلطانه الناصر محمد عام 734 هجريا! .
لكي نلج المسجد لابد أن ننزل ثلاث درجات بعدما رفع الزمن الشارع عن أرضية المسجد.. والمدخل في البنيان الإسلامي له شأن عظيم.. فهو عنوان البناء.. وهو رسالة الترحيب.. وهو الذي يفصل بين عالمين.. الحاجز بين عالم الدنيا بضجيجها وصخبها وبين عالم الروح والسكنية والهدوء.. لهذا لابد للمدخل أن يكون رائعا بديعا.. ترتفع إليه الهامات.. وترنو له الأبصار بالإعجاب. وتفنن الصناع في تجميل أبواب المساجد.. وفي الماس الحاجب لابد أن تتوقف كثيرا وتتأمل.. المدخل غائر.. تعلوه مقرنصات.. الباب محلي بزخارف نحاسية مفرغة على شكل أطباق نجمية.. ويعلو الباب شباكان تزينهما أخشاب مثقوبة حلت محل الزخارف الجصية الملونة.
والماس بدأ حياته مثل غيره من المماليك عبدا يباع ويشتري في أسواق النخاسة.. بيد أن القدر تبسم له أولا وأعجب به السلطان الناصر محمد فرقاه إلى أن صار من كبار الأمراء , فكان الماس "جاشنكيرا" ، وهو منصب له حظوة لدي السلطان ، فهو الشخص الذي يتولي تذوق الطعام قبل السلطان ليتأكد من خلوه من السم.. فأجواء الريبة والتوجس والخوف من الاغتيال كانت تغيم دائما في سماء دولة المماليك.. والعرش بريقه يجذب كل الأمراء الأقوياء..والطامح والطامع في كرسي السلطنة تسول له نفسه أن يخترق ويدوس على كل القواعد الأخلاقية.
نعود إلى رحلة صعود الماس ، فنجده قد ترقي إلى وظيفة حاجب الحجاب. والحاجب هو الشخص المسئول عن تحديد من يدخل إلى السلطان ويقف بين يديه..بيد أن القدر كان يخبئ للماس نهاية بشعة على يد سيده.
في عام 732 هجريا قرر السلطان الناصر السفر إلى الحجاز ليؤدي شعيرة الحج ، فاستناب على مصر مملوكه الماس الحاجب ، دون أن يصدر قرارا بتعينه نائبا ، فقد كان الناصر وكما يصفه المقريزي عمدة مؤرخي مصر المملوكية " فيه من الدهاء والمكر لا يوصف"..لهذا نجده يتخذ إجراءات تضمن إلا يطمع أحد الأمراء في مملكته أثناء غيبته.. فيجعل الأمير آقبغا عبد الواحد داخل "باب القلة" بالقلعة لحفظ الدور السلطانية , وكان باب القلة يفصل بين قلعة الجبل أو المدينة العسكرية المحصنة في الشمال وبين القلعة والمدينة السلطانية في الجنوب أما حاليا فإنه يعرف باسم بوابة المتحف الحربي. وجعل الأمير جمال الدين آقوش ، نائب حصن الكرك بالأردن ، مقيما بالقلعة لا ينزل منها حتى يفرغ من حجه ، وأخرج كل الأمراء إلى أقطاعاتهم وأمرهم إلا يعودوا منها حتى يرجع من الحجاز.. فيما اصطحب معه بعض الأمراء.
بهذه الإجراءات اطمأن الناصر قليلا على عرشه في القاهرة..بيد أن رحلة الحج لم تكن أبدا هانئة للسلطان ومماليكه ، إذ ما إن بلغوا مدينة "أيلة" على خليج العقبة إلا وألقى الوشاة في أذنه أن الأمير بكتمر الساقي يريد الفتك به..هؤلاء الوشاة لم يراعوا أن بنت بكتمر هي زوجة الأمير آنوك بن السلطان.. وكانت حجة الوشاة أن الأموال والمتاع والخيل التي خرج بها بكتمر تتقارب مع متاع السلطان نفسه.. وما لهذا إلا لأن بكتمر يريد أن يظهر للسلطان مدي ثراءه!!..
وتحايل السلطان للتخلص من بكتمر ، ويقال أنه سقي أحمد بن بكتمر ماء باردا كانت فيه منيته ، وبعدها بثلاثة أيام سقي بكتمر مشروبا فلحق به!!
وعاد السلطان إلى مصر وعلت الزينات شوارعها , وصعد إلى كرسي السلطنة , الكرسي الذي من أجله قتل والد زوجة أبنه.. فوجد واشيا أخر يلق في أذنه بما ينفره من مملوكه ألماس الحاجب.. كان هذا الواشي الخبيث هو الأمير آقبغا بن عبد الواحد إذ أخذ يقلب السلطان عليه..ومنها ميله إلى الغلمان وكثرة أمواله وتنميته من وجوه منكره ، كتربية الخنازير وبيعها للتجار الفرنج ، حتى اتسعت أمواله وقال أكثر من مرة للأمراء "عندي الذهب والدرهم .. ومن فيكم مثلي ؟".. وأخذ آقبغا يسعي للسلطان مرات ومرات يريد الإيقاع بالماس الحاجب..لكن تلك الوشايات لم تكن قوية لكي يقتل السلطان مملوكه من أجلها حتى وقع في يد السلطان ما أصدر بسببه قرارا بقتله.
يقول المقريزي "يقال أن السلطان وجد كتابا عند بكتمر الساقي من ألماس يتضمن "إنني أحفظ لك القلعة حتى يرد على منك ما أعتمده" .. فلم يصبر السلطان على هذا".. فأمر الناصر محمد بالقبض على الماس ومصادرة أمواله.. ومنع عنه الطعام ثلاثة أيام.. ثم خنقه..وحُملت جثته ودفنت في مسجده القائم الآن في شارع السويفية.
المسجد تحفة معمارية .. لا يتشابه مع أي مسجد أخر .. بل كل المساجد في مصر لا تتشابه مع بعضها البعض.. كل واحد منها تحفة قائمة فريدة منفردة.. الماس الحاجب بُني على الطراز المملوكي الذي احتفظ بصحن تحيط به أربعة أروقة.. وتتكون بوائك الأروقة من صفوف من الأعمدة عدد كل منها أربعة بوائك يعلوها خمسة عقود مدببة يحيط بها زخارف نباتية تنتهي كل منها بشكل زهرة.
الأعمدة متعددة الألوان والأحجام..ويبدو أنها جلبت من أماكن شتي..ربما من معابد فرعونية وكنائس خربة.. فالمصري يصنع من الحجارة مكانا يتعبد فيه إلى الله.. وتنتقل تلك الأحجار والأعمدة من عصر لأخر.. فهي فرعونية ثم قبطية والآن إسلامية.. العبادة واحدة , والرموز فقط تختلف. المهندس المصري العبقري جعل توازنا في ألوان الأعمدة.. ولندخل إلى رواق القبلة ونري سويا.. الرواق يتكون من صفين من الأعمدة.. العمود الأول من ناحية اليمين من البازلت الأخضر..التالي من الجرانيت الأحمر.. الثالث من الرخام مضلع الشكل.. الرابع من الرخام لكنه أملس كبير الحجم. هذه التشكيلة من الأعمدة مختلفة الألوان والأحجام تتوازي مع أخواتها على الجانب الأخر وتبدأ بعمود رخام أملس يجاوره عمود رخام مضلع ثم عمود جرانيتي أحمر ثم تختتم السيمفونية بعمود من البازلت الأخضر.
الثنائية هي السر الكامن في الماس الحاجب.. ثنائية الألوان في رواق القبلة تتكرر في جميع الأروقة.. المدهش أن كل ألوان الأعمدة تتجمع وتتكثف في ألوان الرخام الكاسي للمحراب..المحراب عميق التجويف تعلوه زخارف جصية.. الأمر الأكثر دهشة تلك الفتحات التي توجد بين البوائك.. إذا نظرت إليها وأنت واقف على الأرض ستري ما يدهشك..شكل تاج المذهب الذي يزين أفريز السقف الخشبي!
والماس الحاجب تعرض للإغلاق مدة استطالت سبعة عشر عاما.. والسبب مياه المجاري التي انتهزت فرصه انخفاضه عن مستوي سطح الشارع فوجدت فيه متنفسا.. وحاول الأهالي التحايل عليها بإنشاء طبالي خشبية يصلون فوقها..بيد أن المياه كسبت المعركة حتى علت مترين.. وتوقفت الصلوات في الماس الحاجب.. وخيم الصمت على أرجائه.. وفي المكان الذي كان يركع فيه المصلين نبتت الحشائش والبوص.. إلى أن تنبه له المسئولين ونالته عين العناية..وقامت شركة مختار إبراهيم بأعمال الترميم التي استمرت 7 سنوات.. ليعود الماس الحاجب إلى سابق بهائه ورونقه.