أن تكون مصر كلها علي صفيح ساخن والغضب مشتعل في كل مكان ، وهناك من يتجه بأنظاره صوب اليهود فينتج فيلماً تسجيلياً طويلاً يدافع فيه عن حقوقهم التاريخية ، فهذا لا يعني سوى التفريط في قضايانا الوطنية ومحاولة الإصطياد في الماء العكر ، فبدلاً من الإنشغال بما ستسفر عنه المواجهات الدامية في الإسكندرية وبورسعيد والسويس والدقهلية يتم التحول 360 درجة لنعود لنبش الماضي بحثاً عن الضائع والمفقود علنا نصيب من الرضا ما يسهل علينا المُضي قُدماً نحو " أولاد العم " فنعترف بهم دولة ذات سيادة وريادة وشعب له ما لنا من الحقوق والواجبات فنُقصر طريق التطبيع ونحقق حُلماً يراودهم منذ سنوات ! لقد انشغل كل خصوم ثورة يوليو بقضية اليهود في مصر والهجرة الإجبارية المزعومة التي أعقبت حرب 56 بقرار من الرئيس جمال عبد الناصر ورأوا أن الوقت مناسباً لتصفية الحسابات القديمة ، حيث الفرصة سانحة تماماً لرد الإعتبار لمن طُردوا وشُردوا بغير ذنب أو جريرة ، لا سيما أن المثقفون المناهضون للفكرة مشغولون بما هو أهم ، ومن ثم فإن تنفيذ المخطط التاريخي أمرٌ عاجل لا يحتمل التأجيل فربما لا تتكرر الفرصة مرة أخرى لو هدأت الأوضاع السياسية واستفاقت الجماهير علي كارثة تمكين اليهود وانتقال مشروع بناء المستوطنات من غزة إلي القاهرة كحل إستراتيجي للأزمة وضمان وجود وطن آمن مستقر للجيران المضطهدين علي أرض مصر .
الإرهاصات المشبوهة للمشروعات السينمائية الممولة بدأت بتباشير من هذا النوع قبل قيام ثورة 25 يناير ببعض الأفلام كان أولها فيلم "سلطة بلدي" للمخرجة نادية كامل ، وهو ما أثار وقت عرضه ضجة إعتبرها أصحاب الفيلم مجرد زوبعة في فنجان واستمروا علي قناعتهم غير مبالين بردود الأفعال الرافضة ، بل استفادوا من الحملة المضادة كدعاية مجانية ساهمت في العمل الفني الفذ وفتحت له أبواب المهرجانات الدولية والعالمية فتحقق الهدف والمراد وباتت القضية المرفوضة أمراً واقعاً شأنها شأن الإحتلال الإسرائيلي لفلسطين والجولان .
الخطوه السينمائية الثانية في إطار تثبيت الفكرة تمثلت في الفيلم الروائي الطويل " هوليوبوليس " ، الذي دارت أحداثه أيضاً حول ذات المفهوم .. الشكل الحضاري الغائب عن حي مصر الجديدة جراء ما فعلته ثورة يوليو وضباطها من تشوهات لم يشر إليها صُناع الفيلم كدليل إدانة ، واكتفوا فقط بكلام مُرسل عن اليهود الذين كانوا يقطنون الحي ورقيهم وسماحتهم واختلافهم الجذري عن من حلوا محلهم من الوافدين الجدد ، أثرياء الإنفتاح الإقتصادي أو أغنياء الحرب .
الفيلمان المذكوران وتجارب أخرى لم يكن لها نفس الإعتبار أُنفقت عليها ملايين الجنيهات لتصبح نواة لإعادة طرح المشكلة اليهودية من جديد ، ويالا العجب تأتي الشهادات التاريخية الداعمة للهدف من صفوة المفكرين وعقول مصر السياسة النابهة فيتحدثون بيقين الأستاذة عن مساوئ الهجرة الجماعية أو ما أسموه بقرار الطرد معتبرين إياه سقطه ما كان لعبد الناصر أن يقع فيها ، علماً أن من بين هؤلاء من كتب عن " فضيحة لافون " وملابساتها وتفاصيلها فهي الحادثة الأشهر التي دعت للقبض علي عصابات التخريب اليهودية والعناصر المشتبه فيها ، وليس صحيحاً أن قرار الطرد شمل كل اليهود المصريين ، والدليل أنه كما ذكرنا في مقال سابق إختيار عدد كبير من النجوم والشخصيات العامة البقاء علي أرض المحروسة ورفضهم العودة لإسرائيل .
إن أصحاب القلوب الرحيمة والمشاعر المرهفة الباحثين عن حقوق اليهود في وطننا أولى بهم فتح ملف الأسرى المصريين في حربي 48 ، 67 وهم من تم تكبيلهم بالحديد وأطلق عليهم الرصاص ودُهست جثامينهم الطاهرة بالدبابات ثم أشعلت فيها النيران .. أليست هذه الجريمة المركبة أبشع وأشنع مليون مرة من التهجير والطرد ؟!
أظن أن المشاعر لا تتجزأ وأن من يطلبون العدل لليهود الذين خرجوا من مصر أحياءاً خليق بهم أن يطلبوه للشهداء المصريين .. أشقاؤنا في الدم والوطن .
الآراء المنشورة في الموقع تعبر عن توجهات وآراء أصحابها فقط ، و لا تعبر بالضرورة عن الموقع أوالقائمين عليه