طلبت مؤخراً وزارة الثقافة الإيرانية، بصفتها هيئة رقابية، حذف فقرات من قصة الحب الأسطورية"خسرو وشيرين" للشاعر "نظامى" (1177)، واعتبرت أن أى إشارة إلى علاقات بين رجل وإمرأة بعد "الثورة الإسلامية" (1979) يعد أمراً محظوراً ومنافياً للأخلاق. غيرأن أعمال الفن لا توصف بالفسق لكونها تصور "الحب" بين الرجل والمرأة. وإذا كان جوهر فكرة "الحب" حرية الاختيار، فقطعاً سوف يصبح الفن ثمرته، وب"الحب" تكتمل "الذات" بتوحدها مع "الآخر". وليس ل"الحب" أن ينمو إلا في البيئة الحرة، التي لا تقمع"الخيال" ولا تقهر الحب. ويدرك المحب محبوبه بحدسه دون ضرورة لتعليل سبب حبه. وفي كل الأحوال لا يلبي الحب حاجات الجسد فقط؛ لأنه إذا ما اقتصر على إشباع الشهوات وحدها، فسوف يظل الشخصان غريبين مهما طال ارتباطهما؛ لأن الغاية من لقاء "الآخر" هي الخروج من دائرة العزلة والاغتراب، بالاندماج مع العالم الخارجي.
أما المنمنمة الشاعرية الأنيقة "شيرين تستحم" (1525ميلادية) من رسوم "سلطان محمد" فتمثل مشهداً من أسطورة العشق في كل زمان، التي كتبها الشاعر"نظامى" (1141-1209). إنها أسطورة رومانسية ونهايتها مفجعة، ولها فكرتها الفلسفية وأبعادها الرمزية. وتتمحور فكرة "الأسطورة" حول سر الجمال (الآسر- الغامض) وحول روعة الفن الذي أصبحت "تبريز" مركزاً له، بعد أن استقر بها الرسام "بهزاد" منذ سنة1510م.
ولم تكن "شيرين" مجرد إمرأة أحبت "خسرو" إذ رق قلبها عشقاً كذلك نحو النحات "فرهاد" تلميذ الرسام، مما زرع بذور الغيرة في قلب "خسرو". وكان "شابور" قد نحت تماثيل ل"شيرين" التي هام بها عشقاً. أما "شيرين" فتمتنع عن التقيد بنسق منغلق؛ لأنها تجمع بين سحر جمالها وغموضها الذي هو سر "الحب". وكذلك "الفن" الذي يولد بالحدس، فهوالسبيل لإزاحة الحجاب بين الذات والآخر، فتلتقى الثنائيات المتناقضة، مثل البراءة مع الأنانية، واللهفة مع الغيرة، والمغامرة مع الخوف، واللذة مع الألم. وقد عثرت تلك الفكرة على أفضل تجسيد لها في توزيع الألوان التي تشبه ترصيع الجواهر في فراغ ذهبي محايد، لتحل البراعة مكان البراءة، ويتقابل الخيالي مع الواقعي والطبيعة مع الصنعة.
إن وصف الرسام النابغة "شابور" جمال الأميرة "شيرين" ل"خسرو" كان فعالاً حتى جعل "الأمير" يراها في منامه، فيقع في عشقها، بل يخرج قاصداً أن يلقاها. أما الصورة الشخصية التي رسمها "شابور" ل"خسرو" وعلقها سراً على غصن شجرة تجلس تحتها "شيرين" فإنها جعلتها تهيم بعشقه بمجرد رؤيتها، فخرجت للصيد ممتطية جوادها وصادفت الأهوال حتى وصلت إلى مرج من الورود تتوسطه بحيرة، فنزلت تستحم وتستجم. ولمح "خسرو" بالصدفة، وهو في طريقه جواد "شيرين" فنظر خلسة من خلف الصخور، وشاهد جسماً فضياً يشع نوراً، يقابل اللون الداكن لمياه البركة، ولون شعرها المسكى الفاحم. وحينما وقع بصرها عليه اضطربت خجلاً، مثلما يضطرب انعكاس ضياء القمر على صفحة مياه البحيرة. والتقيا فغلبت عليهما لحظة صمت، رسمها الفنان بمساحات واسعة فارغة تفصل بين وحدات الصورة.
ولا تحول فكرة "شيرين" الغارقة في عشقها، دون إثبات فروسيتها، فهي ليست من "نساء الحريم" وإنما ظاهرها العاطفي الرقيق والعذري يتعايش مع باطنها العامر بإباء الفارس وشجاعته. وينتفي التناقض بين النزعات النفسية ورغبات الجسد، بينما تتحول صور الإنسان والحيوانات والطير والنبات إلى مفردات ثابتة في الرسم، تعود فتتجلى في حالة من الاشراق والتنميق، وهنا تذوب "الأنا" في "الآخر" على أساس شبكة متراكبة من"التوريق النباتي"؛ حيث ترمز "النباتية" لطبيعة المرأة التي تميل إلى الاستقرار، بينما تتميز طبيعة الرجل بالميل إلى الرحيل و"القنص". ويتردد جمال الأنوثة في جمال الطبيعة الأرمينية بجبالها ووديانها ومروجها وأشجارها، في مقابل المشاهد الصحراوية في بلاد الفرس.
ان العنف الذي تمارسه الثقافة الذكورية على "جسد المرأة" وهي تقيده بالموانع والمحرمات, يقضي على حريتها ويحط من إنسانيتها التي تختزل في "الجسد". ولم تكن "شيرين" بالنسبة للفنان مجرد صورة ل" جسد" وكذلك لم تكن رؤيته منغلقة حتى يحجبه، لاقتناعه بأن التعبير عن علاقة الإنسان بالعالم لا يتحقق إلا عبر الجسد، وليس من حق أحد أن يقيد حريته؛ لذا رسم الفنان "شيرين" في حضن الطبيعة ومتناغمة معها.
وفي الواقع أن مصدر النظرة الدونية للمرأة إنما هو التعسف الذكوري تجاه ذلك "الجسد" والتعامل معه كسلعة ضمن النسق الإستهلاكي للمجتمع. غير أن الفنان الذي رسم صورة "شيرين" لم يكن حاملاً أى فكرة عن"المرأة الحريم" التي ترسخت مؤخراً في العقلية المتحجرة -الرجعية، التي تنظر للمرأة كسلعة إغوائية فحسب. وعندما يتفشى العنف في المجتمع سوف ينعزل الرجل عن المرأة، وتصبح علاقتهما عدوانية، فلا تجمعهما عناصرالألفة والود، مهما تخفيا وراء الأقنعة الأنيقة، ببريقها المصطنع. وليس معقولاً أن تختزل المرأة في "الجسد "وحده، فيفرض عليه والحجاب، بحجة الحفاظ على العفة، ولا يكشف عن السبب الحقيقي وراء الأحجبة، إنه قطعاً الإضطهاد الذي تمارسه المجتمعات الذكورية تجاه االمرأة، بنظرتها المتعالية وفهمها لمعنى المحرم.
وبينما يتمثل هاجس التجديد والمغايرة في استعمال أساليب المجاز والاستعارة, يدمج الفنان ملامح "شيرين" (الأرمينية الأصل) في سمات صينية مستعارة من عبارة "قمر يضئ الليل". ولم يتقيد الفنان بمبدأ المحاكاة، فيتحدى الوصف البصري، حتى جعل المنظر رمزاً ل"الفردوس الأرضي". وأعطى شكلاً لمعنى "الفردوس" بنثره للعناصر "النباتية" حتى تطفو فوق تعقيدات الحياة، وفوق الأحداث الدرامية.
لقد رسم الفنان صورة للغبطة الروحية بمجموعة ألوان نورانية، وزعها على مساحات التكوين, ليس فيها ما يشير إلى الزمان (ليلاً أم نهاراً) أو يحدد المكان. ويتبع الشكل تخطيطاً لولبياً بيضاوياً, يشبه الأرابسك (التوريق العربي) الذي يبدأ وينتهي مثل الحلقة التي يلتقى طرفاها. إذ أن الفنان أعاد رسم الصورة بعد أن استوعبها في ذاكرته فيمرره عبر"عين الحدس" لينعم بنور التجلى والغبطة الصوفية الدائمة.
وتستدعى صورة البركة في المنمنمة فكرة "عين الحياة " التي تنبع من الظلمات, أما "الفراغ " فيرمز لرحابة الوجود الذي تتنفس فيه عناصر اللوحة. ويرجع سر جمال الصورة إلى الجمع بين "الثنائية" (العالم الممثل في الصورة والعالم المرسوم بأسلوب التوريق) تبعاً للتناسبات العددية، أو بين "الثنائية" (الواقع والحقيقة الباطنة). هكذا تمثل منمنمة "شيرين تستحم" نقطة فارقة تفصل بين الوقوع في دائرة التقاليد البالية والإنطلاق نحو حرية الإبداع الخلاق. أي أن هذه المنمنمة تجسد حرية الخيال كسبيل للإبداع.
الآراء المنشورة في الموقع تعبر عن توجهات وآراء أصحابها فقط ، و لا تعبر بالضرورة عن الموقع أالقائمين عليه