تأمل مظاهرالطبيعة المصرية تلاحظ.. كيف ينمو الزرع مجدداً بعد حصاده.. كيف تفيض مياه النيل فتغمر الحقول بعد الجفاف.. كيف تشرق الشمس من جديد بعد غروب. إنها الطبيعة التى ألهمت خيال المصريين.. ونسج حول ظواهرها العديد من الأساطير، وتجسدت الكثير من الصور ترى ملونة أو بارزة على الجدران ويحس بمعناها القلب والشعور. هؤلاء المصريون منذ عيشهم الأول على ضفة النيل فطنوا بحدسهم وبداهتهم تلك القدرة التي للقوى الغيبية، كيف تفوق قدرته. ولأن المصرى فنان أفصح عما يجول بأعماق نفسه برسومه ومنحوتاته التي تصورالحقائق المجهولة. وإذ امتزجت تلك الصور مع رغباته المكبوتة منحت صفتها الإنسانية. وبالحدس كذلك أدرك المصريون أن لكل ظاهرة وجهان (متناقضان- متكاملان) يشكلان معا ثنائية في وحدة مثل: الخير/الشر.. الجسد /الروح.. الحنو/الشراسة. ويتكامل "أوزيريس" (جسد النهر) مع "ست" (الصحراء) في ثنائية (الإله/الإنسان) لأنه الحقيقة والأسطورة معاً، مثلما أن "الموت "هو السبيل للحياة الخالدة في ثنائية (الموت/الحياة). وعندما يحلق الخيال لأفاق أبعد من حدود الإدراك العقلى، يصيغ الأفكار والمشاعر بأشياء محسوسة، فيصبح الشئ بعد اندماجه مع الشعور والأفكارأكثر قدرة وبلاغة على الإيحاء بالمعنى. ولتقوية التأثير بالفكرة، يستوجب الأمر تجاوز الفروق التي تميز بين مجالات الحس المختلفة، حتى يمكن للألوان والخطوط أن يعبرا عن الأفكار. أما "البقرة" فقد اتخذها المصريون رمزا ل "حتحور" (البيت والصدرالعظيم) منذ عصور ما قبل التاريخ، حين عثروا في صفاتها على معنى أمومة الطبيعة والخصوبة، ليس فحسب لأنها تجر المحراث وتدورالساقية والطاحونة، ويؤكل لحمها ويشرب حليبها، وإنما كذلك لاتقاء شراستها. وفي الحقيقة لم تكن الحيوانات تعبد لذاتها، وإنما لكونها تمثل رموزا أرضية لقوىً خفية. والدليل على ذلك أن "البقرة" كانت تذبح ويؤكل لحمها.
وفي التمثال الذي عثرعليه في معبد الديرالبحري (بالأقصر -الأسرة 18) يصور"تحتمس الثالث" واقفاً أسفل رأس "بقرة " مغطى جسمها ببقع ملونة، ويظهر مرة أخرى مرسوماً أسفلها وهو يرضع من ضرعها؛ ليستمد الحياة من "حتحور" رمزالأمومة ومربّية ملك مصر. ولكثير من الرموز معان عديدة، بل يصادف معنيين متعارضين- متكاملين لنفس الرمز، مثل "حتحور" رمزالأمومة والعطاء وكذلك الوحشية والشراسة. وفي كثير من الرسوم الفرعونية يصور"حورس" ابن "إيزيس" ترضعه "حتحور" فكانت أمًا له وللطبيعة كافة. وفي التمثال ترضع" حتحور" "تحتمس الثالث" مثلما أرضعت "حورس" لتمنحه الحياة والخلود. ومهما بدت رموزالثنائيات المزدوجة في ثقافة المصريين بدلالتها المتعلقة بوحدة الوجود غامضة المعنى، إلا أنها تستحضر جوانبا مهمة من الواقع. إذ ل"حتحور" مثلا صورة تمثلها بديعة هي "زهرة اللوتس" التي ترمز للبعث. وتحكي الأسطورة أن "لوتس" عملاقة خرجت من المحيط البدئي؛ ولذلك تشبه بزوغ الشمس لأنها تغلق بتلاتها ليلاً، وهي غائصة تحت الماء في أعماق المستنقعات، وعند الفجر تطفو فوق سطح الماء الموحلة وتتفتح. وكذلك "حتحور" هي البقرة المنتقمة (عين "رع") إذ أثناء حكم"رع " لمصر كفرعون بدأ يشيخ وتمرد الناس عليه، فأطلق عينه (حتحور المنتقمة) لتعيد النظام للعالم، فصبت غضبها على المارقين، وكادت أن تفتك بالجميع لولا حيلة أنقذتهم من الفناء ومنعتها من إتمام مهمتها، إذ خلطت لها الجعة بالمغرة الحمراء التي لونتها بلون الدم وغمرت بها الحقول، فلما شربت منها ثملت تماماً ونسيت مهمتها وكفت عن سفك الدماء. وأصبحت "البقرة الوحشية" (سخمت القوية ) تمثل الوجه الآخرل " حتحور" ربة الحب والموسيقى. والصفة الثنائية (المنعمة / المنتقمة، الحامية / المهاجمة) يكمل كل شق فيها الشق الآخر. والحقيقة أن للطبيعة الأنثوية ازدواجية متناقضة. وتلك الأسطورة" (البقرة- حتحور) التي دونت على جدران مقبرة "سيتي الأول" هي بمثابة صياغة ميثيولوجية للإضطرابات التي واكبت فترة حكم "أخناتون" حينما أعلن عبادة أتون بدلاً من عبادة أمون، كما أن للأسطورة جذورها متمثلة في الصراعات الدينية التي واكبت إنهيار الدولة القديمة. من هنا رمزت البقرة كذلك للمنتقمة وهي تسدد ضرباتها دون توخى الحرص بسبب ضراوتها وشراستها. و"البقرة النطاحة " سرق الحرامية لبنها، لكنها لم تخف، فانطلقت بشراسة في وجه الديابة، تقاوم بضراوة المغتصبين حتى هربوا. وكذلك الثورة البكر تقاوم في الميادين دعاة الظلام، ممن سرقوها وأرهبوها بمحاولات الإغتصاب، وما تزال تقف ضد الهجمات الممنهجة التي لم تهدأ. وقد أقسم االثوار على ألا يتركوا الميدان. وكلما اشتد الصراع قوى صمود الثوار مع إصرار الفوضيين على اغتصاب الثورة. وتتعمد الاعتداءات ترهيب الأهالي وإذلالهم لمنعهم من النزول للميادين، حتى تجهض الثورة وتناهض المطالبة بالحرية. وسوف لا يلجأ المعتدي عليهم إلى من لا يقتنع بمشروعية الثورة، بل ويشكك في سمعة المعتدى عليهم، ويروج للإدعاء بأن الطريق نحو الديمقراطية محفوف بالعقبات. لكن الخيار البديل عن صمود الثوار هو المضي نحو مستقبل مظلم بالاستبداد والقمع.