للفنان "أحمد صبري" (1889-1955) مكانته المرموقة, فهو من الرعيل الأول لفناني مصر الحديثين، وقد برع بتقنيته الرشيقة في رسم وجوه الطبقة الراقية الذين يعيشون في رفاهية ويتشبهون بالأرستقراطية الأوروبية، فيظهرها بألوان وضاءة ومتلألئة، وبمكملات زينة منمقة بالغة الإتقان، تثير مشاعر اللذة والراحة. إذ يخلق هذا الفنان من موديله نموذجاً مثاليا من الجمال الأرستقراطي, فيمنحه بريقاً وفخامة, وليصل إلى غايته ينأى بنفسه عن حقيقته، حتى لا ينجرف في تحليلات معقدة أو يواجه تساؤلات مقلقة، فلم يكن في أعماقه فناناً ثورياً, بل تقليدياً، مثلما ذكر أستاذه في باريس "ايمانويل فوجيرا" الذي كتب (1929) يقول: "... وصبري يستغل كل قدرته بأصول صناعة فنه في تنفيذ لوحات جميلة لا دخل للعبقرية فيها".
وذلك يفسر اختياراته لنموذجه من بين النماذج الجميلة في الطبيعة. ورغم شاعرية لوحته "بعد المطالعة "(1926) وتألق ألوانها الدافئة وجاذبيتها، فإن العين لا تخطئ الطابع الأكاديمي السكوني الذي يعجب الذوق الأرستقراطي، مما يلاحظ من جلسة السيدة بنظرتها الحالمة، وهي تأخذ قسطاً من الراحة بعد القراءة، ومن التفاتتها الرقيقة وجمالها الهادئ الذي لا ينقصه مسحة من الوقار.
والجو الذي تخلقه الألوان الدافئة-المتألقة، يغرى بالاستمتاع بلحظات من السعادة الوهمية تعوض عن واقع الحياة الغارق في الهموم. والفنان يقدر على تحويل الخيالي إلى حقيقة جميلة وجذابة. إن اللوحة تشبه جوهرة مصقولة، ألونها صافية والأزرق فيها دليل الذوق الرفيع والأناقة الفخمة، ويهيئ لجو هادئ ومريح، يناسب مع جلسة السيدة في لحظة سكون.أما الأسلوب فيستجيب لشروط وتبريرات ثقافية وسياسية، بل يظهر الولاء للأكاديمية، التي تتحيز لفئة الأغنياء، فيمنحها مظاهر خاصة لتمييزها عن الآخرين من فئة المهمشين المستلبة حقوقهم في العدالة الاجتماعية رغم معاناته في طفولته من الشقاء ومرارة اليتم، مما يعمق التناقض.
أما الاكتفاء في الفن بمراعاة التعاليم التي تحقق المشابهة مع الواقع المرئي، مثل إتباع قواعد المنظور والتظليل ودقة النسب التشريحية، فينبئ بنوع سطحي وزائف، يتقبل ما تراه العين فيدققه أو يحسنه مفتقداً للرؤية النقدية الخاصة؛ لأنه لا ينفذ للأعماق ولا ينشغل بالتفسيرات المفاهيمية.
والفنان "صبري" قد اختار الجمال المثالي المتأنق واتبع نموذجا معياره الدقة ونقاء الأسلوب، الذي يعزز مبدأ المحافظة التي من شأنها أن تطمس الخصائص الأنثوية الطبيعية للمرأة، وتصورها وفقاً لرؤية ذكورية متعالية تود أن تراها وديعة - سلبية فلا تهاجم ولا تنافس، رغم كونها في الأصل تمثل الطبيعة وتمثل الأحاسيس المتقلبة والغامضة. ومع ذلك عوضت قوة تدفق الألوان المشحونة بالطاقة عن الإحساس السكوني في الصور.
أما الطابع التصويري فيتجنب الخطوط المحددة, حتى يستعيد المكانة للعنصر الأنثوي وللمشاعر الدافئة التي تجسد فكرة الاحتواء.غير أن الجسد الذي حجبت معالمه تحت الثوب المنمق بفعل العقل المنغلق ينقصه الكثير مما يحقق اللذة الحسية. وهناك ما يجمع بين التعاليم الأكاديمية في الرسم والعقلية المحافظة التي ترى الجمال في النظام والوضوح والمثالية، وتريد تصور الواقع بلا أي تناقضات داخلية. بينما يرغب الفنان الثوري في التعبير بطريقة ذاتية، وفي مقاومة منطق التسلط أو الإذعان لتعاليم مسبقة تتقيد بقوالب محددة، قد تشل حركة التعبير الفني.
والتطور التالي للفن المصري الحديث سوف يكون في الاتجاه المعاكس، الذي ينظر إلى إتباع القواعد على أساس أنه يفقد الإحساس قوته الإبداعية. وباسم الإحساس نبذ الفريق الأكثر ثورية من الفنانين المصريين مثل "راغب عياد" (1893-1982) أو"عبد الهادي الجزار"(1925-1966) القواعد المقيدة لحرية التعبير الفني، انطلاقاً من فكرة الجمال القادر على إثارة الخيال وعلى تحريك المشاعر وإتباعاً لسلطان الذوق الشخصي وللإحساس الذاتي، تناول الفنانون التقدميون موضوعاتهم الفنية بالإسلوب الذي يناسب إحساسهم.
ويتمرد الفنان الثوري على دكتاتورية الأكاديمية وعلى نمط الذوق الأرستقراطي، ويدعو لديمقراطية الفن, بتوسيع نطاق الجمهور وبعدم الانصياع لشروط السوق التجارية, التي تعزز المؤسسات التسلطية، وهي تروج للثقافة الاتكالية ولإطاعة التعاليم السائدة، وإلى العجز عن التناقض مع النموذج المخطط له، دون السماح بحرية التعبير، ودون تقبل النقد أو تقبل ثقافة الاختلاف.
ومع الرضوخ لسلطة التعاليم تصاب الرؤية الفنية بالجمود وبالسطحية. ورغم زعم المؤسسات المهيمنة على حركة الفن بتدعيم الحرية وبإطلاقها العنان للطاقة الإبداعية للفنان, وبفسحها المجال لعرض الرؤية الفنية النقدية، إلا أن مثل هذه المؤسسات قد اتخذت موقفاً معطلاً للتغيير، بل وللثورة بالمعنى الثقافي. أما ارتباط الفن بالواقع فلا يعنى إعادة إنتاجه آلياً، وإنما يعني اتخاذ موقف تجاه متناقضاته, وصهر ذلك الموقف داخل نفس الفنان، حتى يتسرب عبر رؤيته الفنية الحرة. وللفن في كل الأحوال طبيعته الثورية التي لا تقبل الوصاية، أو التقيد بقوالب ونماذج جاهزة، وإلا افتقد أصالته. ويتعارض مفهوم الحرية في الفن مع اقتصار الإنتاج الفني على النخبة أو مع تحوله إلى مجرد وسيلة للتسلية، سطحية فتساهم في تشويه الوعي. ولكل فنان الحق في الإبداع بحرية وفقاً لتصوراته، من أجل تجديد الوعي الإنساني بالعالم، فلا يرضى بالتوجيهات الفوقية، التي من شأنها أن تهمش موقفه المتعارض مع تزمت الأكاديمية والمحفز للتغيير.
الآراء المنشورة في الموقع تعبر عن توجهات وآراء أصحابها فقط ، و لا تعبر بالضرورة عن الموقع أو القائمين عليه