يختار الفنان الثورى موضوعاته من واقع الحياة بتناقضاتها؛ لأن رسالة فنه أبعد من مجرد الترفيه والمتعة, وأبعد من مجرد الطاعة لشروط سماسرة وتجار الفن, بل أبعد من مجرد تلبية لرغبات الأثرياء الجدد ممن يقتنون اللوحات والتماثيل, تشبها بالطبقات الأرستقراطية في أوروبا, ويفضلون أعمالاً تقليدية تصورمناظرالريف أو مشاهد من مواقع أثرية بإسلوب تسجيلي, أوتصور النساء بملامح نمطية للأنوثة. وعندما يحصرالفنان اهتمامه في فئة محدودة من زمرة السماسرة, وينعزل عن اهتمامات الناس وعن العالم الذي يعيش فيه فسوف تنعدم قيمة فنه. أما "راغب عياد" (1892-1982) فلم يكن يتبع الكليشيهات النمطية في الرسم, بل تحرر فنه من التبعية ومن الإبتذال, بتعبيره عن الواقع بلهجة عامية أصيلة, تقترب أكثر من تدفق الحياة عندما تسيرعلى طبيعتها بعفوية وعنف, وبإيقاع متوترمدهش, دون المبالغة في تعقيد التقنيات الغريبة, ودون استخدام للغة تشكيل جاهزة, أو لقوالب فنية شائعة. وفي الحقيقة ليس هناك عمل فني مكتمل ونهائي, طالما يشتمل على تناقضات. أما النظرة التقليدية فتتناول العمل الفني كتركيب مغلق على ذاته. وكان باستطاعة "عياد" بقدر تمكنه من أساليب الرسم الأكاديمية, أن ينقل صورة تحاكي الواقع بصرياً بطريقة احترافية, متبعاً أصول التشريح والمنظور؛ لتحقيق التشابه؛ وليعجب الجمهور من العامة. غير أن وظيفة المحاكاة في رأي الفنان تتعلق بمسألة الفهم والاستدلال, وبإدراك الروابط بين الأشياء. أما الفن فلا يعتمد على التعليل مثل الفهم الذي موضوعه العلاقات المشتركة بين الأشياء والظواهر, بينما غاية الفن هي اكتشاف الطابع المتفرد ليشخصه في علاقته بذات الفنان وبشعوره, وبموقفه النقدي تجاه الحياة والواقع. وتستدعى صورة الواقع الذي رسمه "عياد" برؤية متحررة في لوحة "مقهى في أسوان" (1933) صورة أخرى فوق- واقعية؛ إذ استعمل الفنان الاستعارات التي تدعم فكرة عمله الفني وتقوى معنى شعوره تجاه ذلك الواقع بمتعة جمالية. لقد رسم "عياد" المقهى في جو يموج بالحركة وبرؤية نقدية, تلاءمت معها الخطوط الخشنة, والحساسية المشحونة بالعاطفة. ففي هذه اللوحة صورالفنان الراوي الشعبي وهو يحكي النوادر, ويصاحبه عزف الربابة وإيقاعات الطبول. كذلك ظهر مدخنو النرجيلة ولاعبو الدومينو, وأمامهم أكواب الشاي, ويتدلى من السقف مصباح كيروسين. والكل يجلس على الكراسي القش المتعبة, وسط جو صاخب ودخان كثيف, وبدت على الوجوه علامات التعب والشقاء. وكان المقهى ومايزال مرتبطاً بحياة الناس من كل الفئات, فهو متنفس للمثفقين أو للعمال والحرفيين, ووسيلة لتلاقيهم وتواصلهم. وكانت المقاهى الشعبية يوما ما ملتقى المبدعين من الشعراء والأدباتية والحكواتية, ومركزاً للمنشدين ولرواة الملاحم. كذلك يلجأ العاطلون واليائسون للمقاهى؛ حيث تجري أحاديثهم عن مشكلة البطالة التي استشرت, نتيجة لتناقض مصلحة العاملين مع مصلحة أصحاب العمل الذين طردوا الكثيرين منهم, بحجة تكاسلهم عن العمل, حتى تفجرت ثورتهم. لم يرسم "راغب عياد" الموضوعات التقليدية لمناظر الغروب أو لأزهار في الحدائق. وعندما حرر أسلوب فنه من التعاليم الأكاديمية, ومن الوظيفة الوصفية للفن, أو من التقيد بمبدأ المحاكاة الشائع بين فناني جيله, تعمق في النفس البشرية؛ ليعبرعن معاناتها برؤية نقدية. ذلك ما فعله حينما تناول موضوعاً دينياً, فلم يتعمد رسم قصة من النصوص الإنجيلية, وإنما عبر عن معنى الشفقة على مستوى الإنسانية و بلا تنميق. هكذا انطبعت على ملامح الوجوه سمات الورع, وشحنت الأجساد بالطاقات الكامنة, التي تجسد فكرة المكاشفة الروحية والاتصال بالمطلق. وقد تحول القديسون إلى فلاحين بسطاء وكادحين, كأنهم يعيشون في الريف. وذلك يفسرالجرأة في معالجة الرسوم بالخطوط القوية والخشنة, وهي تصور واقع الإنسان البسيط فى حياته الدارجة, بعيداً عن المبالغات الرومانسية. ان اللوحة تمثل الحضور لمشاعرالفنان في صميم العالم المحسوس. وإذ يرسم"عياد" موضوعاً يضمنه صوراً من الفلاحين, والناس البسطاء من طبقات الشعب الكادح, تظهر فيه الألوان متباينة والخطوط عريضة, وغير مألوفة في جرأتها وعنفوانها, مع التأكيد على الملامس الخشنة. أما البيوت الطينية وقطعان المواشي في لوحة "العمل والمرح" (1970) فتستدعى أفكاراً تكاد تصبح ملموسة عن معنى الإنسان/ الأرض,أو فكرة الطبيعة / المرأة أو البيت/ العمل. لقد رسم الفنان النبل المتمثل في الإنساني "غيرالمنمق ", كما تعمد ترديد الشكل في حالة صاخبة. والرسم الرمزي أنجزته خطوط شديدة البروز, حوطت أكثر التفاصيل طرافة, واختزلت الأشكال حتى بدت مثل وشم مدقوق على صدر أهل البلد. أما لوحة "كنيسة " (1946) فإن التعبير فيها مباشراً ومتجرداً من المبالغات الخيالية أوالتزيينية. وقد طبعت معاني التقوى والورع . وفي الحقيقة أن لوحات الفنان بمذهبها التعبيري, تمثل حضوراً لمشاعره, في صميم العالم المحسوس. ولم يكن"عياد" وهو يتناول موضوعاً دينياً, يتعمد رسم قصة من النصوص الإنجيلية, وإنما بحث في أعماق النفس الإنسانية عن معنى الشفقة بلا تنميق, وعن معنى الورع , وشحن الأجساد بالطاقات الكامنة. لقد إنحاز الفنان لنوع من الفن ثوري, يمثل موقفاً نقدياً من الحياة, وينفذ إلى أعماق النفس, حاملاً المعنى بلا تنميق أو تهويل.