ينهل الفنان من مخزون ذاكرته التخيلية، وكلما اتسع هذا المخزون اجتيازالحواجزالتي تفصل الواقع عن اللاواقع، أو المرئي عن المفاهيمي، حتى يطأ الفنان أرض الإبداع الحر، فتنطلق رؤيته الجمالية بلا قيود، فلا تخنع لأي إملاءات، غيرالإنصات لصوت الذات، وللقوى المختفية خلف الوعي. ولا يعنى ارتباط الفن بالخيال الانغماس في الأحلام؛ إذ أن "العمل الفني" الذي يجسد فكرة، يدعو المشاهد للتفكير بالرغم من أنه ليس شرطاً انتقال نفس الفكرة من الفنان إلى المشاهد؛ لأن ما يراه المشاهد ببصره يختلف عما يستبصره بخياله؛ إذ الخيال يزود المشاهد بما لا يسطيع البصرالتقاطه، مثلما يساهم في التوصل للمعنى. وفي كل الأحوال ليست مهمة الفنان تسجيل المرئي أو إعادة استنساخه، إنما مهمته التعبيرعما شعر به رمزياً أثناء رؤيته؛ إذ أن قيمة العمل الفني في مزجه بين ما هو موجود ويرى بالبصر من أشكال وألوان، وما يدركه الخيال الحر ويمثل العنصرالذاتي. ولم يكن الفنان"عبد الهادى الجزار" (1925-1966) يرسم لوحاته بغرض الترفيه أو ليستدرالمال من بيعها مثل سلعة تجارية، ولم يستغل فنه للدعاية لتوجه يخدم السلطة؛ إذ أن لفنه رؤية سياسية اجتماعية، تعبرعن أمل الجماهير في التغيير، وتنشد الفوز بالحرية والعدل والعيش بكرامة؛ فيرسم المهمشين من العمال والفلاحين والعاطلين، ممن طحنتهم حياة الفقر والشقاء. ويمكن تفسيرخلط الواقع بالخيال فىي لوحة "أبو أحمد الجبار"(1951) على أساس فكرة التعبيرعن ذلك الواقع بصورة فنية جمالية، حتى يسمح الحدس بصياغة المعنى المختبئ وراء تلك الصورة. وعندما يطلق الفنان العنان للتلقائية ليعمل الجزء البدائي من لاشعوره، فسوف يملأ مسطح لوحتة بحشوات سردية قلقة، وأجواء مشحونة بسحرأسود. وتمثل فكرة اللوحة الصراع الأسطوري بين الخيروالشر، وقد تناولها الفنان بأسلوب غير تقليدى، يعززموقفه الطليعي الذي ينحاز لمبادئ الحرية والعيش بكرامة، ويتعارض مع الأنماط الجاهزة والمستهلكة من الفن. ورغم إن عالم السيرك الشعبي مغلف بالأسراروالغموض، فإن السمة التي تميزه إنما هي حياة الحرية. فعادة كانت فرق "السيرك الشعبي" تجوب الشوارع والقرى، بعروضها الغنائية والموسيقية، فتقدم السعادة وهي تعيش على الهامش، وفي ظروف صعبة وفقيرة رغم الحب القوي للحياة والتعلق الشديد بها. وفي الغالب فإن مهنة السيرك قد احترفتها عائلات ترجع في أصولها إلى الغجر الذين لا يعرفون الاستقرار، وتجبرهم السلطات عادة على الترحال قسراً. ومع ذلك يعرض"السيرك الشعبي" المتجول ألواناً من الألعاب البهلوانية. إنه يعكس بموضوعاته البسيطة هوية الشخصية المصرية، وحساسية الإنسان المصرى. أما الوشم المرسوم على صندوق العربة بألوانها المشرقة التي تبعث على الأمل فيرمز إلى الفروسية، إلا أن ذلك الرمز يمكن أن ينهار أمام تفاقم مشاعرالخوف من البطالة، أو من تهميش المجتمع لأصحاب هذه المهنة. ومن الممكن النظر إلى عالم "السيرك الشعبي" على أنه يمثل صورة مصغرة من المجتمع بكل تبايناته وجوانبه سواء المشرقة أوالمظلمة. أما الحمار الذي خارت قواه، فإنه مع ذلك ما يزال يعمل. ولقد تميز فن "عبد الهادي الجزار"بنبرته النقدية العنيفة التي تعري مظاهر الفساد والتخلف فى المجتمع. وعندما عرض لوحته "الكورس الشعبى" (الجوع) سنة 1949 وكتب تحتها "رعاياك يا مولاي" أغلقت السلطات المعرض وسجن الفنان ولم يفرج عنه إلا بتدخل الفنانين الكبيرين في نفوذهما وقتذاك "محمد ناجى" و"محمود سعيد"، إذ صورالفنان مجموعة من الفقراء، وقد اصطفوا بجوار بعضهم البعض أمام صحون فارغة على الأرض، يمثلون أنواعاً مختلفة من المعاناة، مثل الفقروالجوع والضعف وإنهاك القوى والمرض والبطالة والعراء والتهميش.
وبقدر تحررالفن من الهيمنة الخارجية سوف يكتسب قوة أكثرعلى التأثير، وذلك هو السبب وراء قلق السلطات الرسمية وخوفها؛ إذ اعتبروا اللوحة رمزا ً ل"الثورة" وأرادوا منع عرض اللوحة للحيلولة دون وصول رسالتها، وتداولها على المستوى الشعبى. وتطلب السلطة بدلاً من هذه النوعية من الفن نوعاً آخر يجمل صورة السلطة. أما "الجزار" فقد اختار طريق الحرية للتعبير بصدق عن ضحايا السياسات الاقتصادية غير العادلة، والمستغلة للأغلبية من أجل الربح. وفي الواقع أن الفقر يزداد يوماً بعد يوم على نحو خطير. وكذلك سكان العشوائيات المحرومين من شرب مياه نظيفة يعانى أطفالهم من سوء التغذية والأنيميا. بينما الأغنياء الذين كل هدفهم أن يحققوا مزيداً من الربح، يزدادون غنى على حساب الفقراء، ثم يوهمونهم كذباً بالعمل على تخفيف أعبائهم. وفي الواقع أن الهجوم على سكان العشوائيات وتهميشهم بل وتشريدهم يجعلم بلا حيلة وتزداد حالتهم سوءاً.
إن المعركة قد نشبت بالفعل بين القلة المترفة التي تتحكم في كل شئ والأغلبية المحرومة والمقموعة. وكذلك نشبت بين الذين ينظرون إلى الفن كسلعة يقصد بها الربح مهما كان ضحلاً أورجعياً، فهو يخضع لتقلبات السوق ولشريعة المنافسة. والفنان الحر الذي لا يقبل الوصاية ينظرإلى الفن على أساس أنه يمثل شكلاً من أشكال الوعي، وله دوره المؤثر في الدفاع عن المبادئ الإنسانية بروح الحرية والإخاء. إن الثورة تلوح في أفق لوحة "الكورس الشعبي" ذات المغزى الاجتماعى والسياسي، وذلك ما دعى السلطة الرجعية التي تمارس طرقها من أجل تدجين الفنان، والتأكيد على مخاصمته للمجتمع، إلى منع عرضها في البداية على اعتبار أنها لوحة تحريضية؛ لأنها تركز على الهم الإنسانى وتصورالمعدمين ومآسيهم. وهناك أيضاً لوحة "آكل الحيات"(1951) التى رسم فيها "الجزار" صورة رجل يبدو خاملاً، ويشعر بخيبة أمل بعد الشقاء في عالم السيرك، أما الوشم والأحجبة والأقراط والمفاتيح والعقارب، فكلها رموز وعلامات سحرية شعبية، عن فعل الغيب في مصائر البشر. ويقصد بهذه الرموز أن تحمى من المرض وتقى من الحسد وتمنع الشر.غير أنها عندما انتقلت إلى سطح اللوحة أثارت تساؤلات عن الوقوع في دائرة أسرالوهن والهم والتشاؤم. وللرموز دلالاتها الغامضة التي تثيرالشغف نحو حل اللغز، مثلما لها صداها في الواقع الثقافي الشعبي؛ فالأفعى ترمز للأبدية وتمثل في نفس الوقت معنى التخفى، وكذلك ترمزلأسباب الشفاء. وللزواحف معان أسطورية استعارها الفنان، وكذلك للحلي ولقطع الأثاث والملابس مواقفها المترسبة في مخزون اللاوعي، ومعانيها المتعمقة في منابع الثقافة. وتعبير الفنان في لوحته عن موضوع الاستسلام للغيبيات يشبه الممارسة السحرية لطقس بغرض التخفف من القلق وإتقاء الأذى، الذي قد ينجم عن فعل قوى الشر .هكذا تبعث لوحات "عبد الهادى الجزار" برسائل ثوري، مضمونها كشف حال الفقراء والمهمشين والعاطلين الأشقياء في الحياة، والدعوة للثورة من أجل التغيير، وطلباً للعيش بكرامة في ظل مجتمع العدل والحرية.