الكورس الشعبى 1948 حياة الفنان عبد الهادي الجزار حياة ثرية علي المستويين الشخصي والإبداعي . تترافق منعطفاتها مع ما مرت به مصر من ثورتها المستمرة للتحرر من الاستعمار البريطاني وسطوة الملكية ثم قيام ثورة يوليو ومحاولاتها لإعادة نهضة مصر وإقرار شخصيتها المستقلة المتفردة.حياته القصيرة مارس 1925 إلي مارس 1966 تسير إبداعه في خطوط متوازية مع مسيرة الوطن وكذلك مسيرة حياته الشخصية وكأنه مرآة عاكسة لأحلام وطموحات ومعتقدات مصر, بل وشخصية مصر في ثرائها وفي تنوعها. علي مدي واحد وأربعين عاماً هي فترة حياة الفنان عبد الهادي الجزار قدم ابداعات متفردة في مجالات ابداعية عديدة كلها جديرة بالاحترام والتقدير والإعجاب: مصورا، صانع جداريات، شاعرا وزجالا، ناقداً ومنظر في فلسفة الفنون، كاتبا للقصة القصيرة والمقال والمحاضرات، مطربا وقارئا للقرآن. لم يتوقف الجزار عند موهبته التي تنبه لها كبار النقاد الفنيين وهو في السادسة عشرة من عمره وما منحه من الدراسة المجانية في كلية الطب بل دأب طوال حياته علي التزود بما يفيده كإنسان مبدع مهموم بالشأن المصري فدرس الي جوار الطب الذي هجره الي دراسة الفنون الجميلة ثم دراسة الآثار الفرعونية بالقسم الحر ثم دراسة الهندسة ليستطيع رصد حركة بناء السد العالي بالإضافة لحصوله علي ما يوازي درجة الأستاذية في الفنون من أكاديمية روما . وتعد المسيرة الإبداعية للجزار بجلاء تعبيرا ابداعيا عن روح الشخصية المميزة لمصر بثرائها وبهمومها وبطموحاتها , فنجد أول لوحة حاز عنها الجائزة الأولي وهو في سن السادسة عشرة عن أهمية الاعتناء بالصحة والنظافة لدي عموم الشعب والتوعية بها وتلك اللوحة أهلته للحصول علي الدراسة المجانية في كلية الطب. أما لوحته الأولي التي عرضها في معرض مشترك مع أستاذه حسين أحمد أمين فكان اسمها الكورس الشعبي أو طابور الجوع وعنونها الجزار نفسه وهو مازال تحت العشرين من عمره باسم رعاياك يا مولاي مما عرضه للسجن لشهر كامل هو واستاذه المناضل الفنان حسين أحمد أمين مما دعا الفنان الرائد محمود سعيد بيك نسيب الملك فاروق لتوجيه استعطاف موجه للملك فاروق فتم الافراج عن الجزار وعن أستاذه دون تمام مدة السجن. ثراء عالم الجزار لم يتوقف عند البعد الاجتماعي أو التوعوي السياسي بل تجاوزه لآفاق جديدة جعلته في موقع الحلقة الوسيطة بين محاولات الرواد الذين سبقوه في عالم الفن التشكيلي وبين مجايليه ومن جاءوا بعده. فلم يقع الجزار في شرك النقل التصويري الفوتغرافي المتقن للأجواء الشعبية مثل الموالد الشعبية أو الزار أو رصد السلوكيات الشبيه المرتبطة بالمعتقدات الضاربة في عمق الشخصية المصرية مثل شخصيات قارئ الكف أو الأحجبة بل تجاوز حالة المشدوه المنبهر بالعوالم الشعبية لكونه واحد من تلك البيئة غائصاً فيها بل وأحياناً مؤمناً بمعتقداتها. وفي إحدي قصائده يقدم نفسه كواحد ممن يعتقدون في السحر الذي يتجاوز مفهومه كمصطلح محدود يرتبط بأعمال شريرة بل يتجاوزه الي إيمان بالخيال كحل وكقوة فاعلة في الحياة : دعني أعيش في السحر الذي أحبه فأني لا أريد أن أعرف ما هي الأشياء فإن الحياة مع المعرفة لا أستطيع احتمالها لأن المعرفة شيء لا يعرف إلا في اللاوعي وتلك المعرفة وعالم اللا وعي التبسا الجزار ذاته الذي عاش مشحوناً بما تشربه منذ مولده في حي القباري بالإسكندرية المتاخم لحي الجمرك ومشاهداته اليومية لعوالم شبحية لأناس يعيشون علي حافة الحياة حافة الفقر لكنهم أحياء, وكذلك ما كان يتلقاه من جرعات دينية من والده العالم الأزهري وتعمقت ثقافة الجزار الشعبية المصرية بعد انتقاله لمنزل متاخم لمقام السيدة زينب مما دفعه للالتحام بالعالم الشعبي كواحد منه وظل معتزاً بانتمائه للإسكندرية ولحي السيدة زينب حتي بعد انتقاله بعد الزواج لحي المنيل. ولم تنقطع زياراته ولا تأملاته للمكانين الأثيرين الي عقله وقلبه وابداعه. ولا يتوقف ابداع الجزار عند التصوير في حدود الرمز بل يستجمع كل مخزونه الشعبي والفلسفي والعلمي فنجده كما يستخدم الألوان الشعبية المصرية الزاهية والخطوط الرفيعة التي لا تحدد معالم الوجوه بقدر تقديم الحالة النفسية والمعنوية لشخوص اللوحة ويتعمق ذلك في اللوحة التوأم للوحة طابور الجوع أو الكورس الشعبي في لوحة الماضي والحاضر والمستقبل التي يحتفي فيها بثورة يوليو قبل قيامها بعام كامل ويتنبأ بها فيقول عن اللوحة : تاريخ هذه اللوحة يرجع الي عام 1951 وفي هذه الأثناء كانت عهود الإرهاب تدمي الذكريات وتضفي عليها لوناً قاتماُ رهيباً, ولكن هذا لم يمنع من أن تصمد العزمات وتهيئ نفسها للغد حيث تستطيع أن تتأثر جميع هوامل الماضي الكريه وكانت اللوحة الماضي والحاضر والمستقبل. أما الماضي فهو واضح من الجو الخلفي للوحة وهو بين أسوار السجن وقد أطل منه سجين علي جنازة تسير كما أطلت امرأة بيدها طفل , والسجين والمرأة والطفل يمثلون جميعاً الحياة الحبيسة المضطربة التي تلتصق بخيال الحاضر. أما الحاضر فهو الوجه الكبير الواضح وتبدو فيه عناصر القوة والعزم والإصرار وشرود الذهن في ماضِ كريه والتفكير في غد باسم جميل؟ وبدت شعبية الحاضر في الأحجبة والأقراط المدلاة من أذن الحاضر والمعلقة علي صدره. بقي المستقبل وهو واضح من المفتاح الموضوع أمام الحاضر ولعل المفتاح يعطي فكرة عن المستقبل وما فيه من أسرار وخبايا خفية ... هذه اللوحة لعلها لا تحتاج إلي رؤية قصتها فإن عهد كل مصري بالحياة المصرية 1951 قريب. لقد مرت البلاد بفترة من أحلك فترات حياتها فعاش عدد كبير من شبابها في السجون لأنهم رفعوا رأسهم في وجه الطغيان والفساد ولأنهم جرأوا علي ، يبدوا رأيا أو يقولوا حقا وكانت الأنفاس مكتومة والحريات مقيدة والخطوات مغلولة وكل شيء حبيس ارادة حكام لا يرعون الله في الشعب ولا يحسون بما تعانيه الجماعات ولقد أردت أن تنوب اللوحة في التعبير عن إحساسات الناس وقتها - ولعلها فعلت.