هناك سؤال يلح علي الفنان المصري المعاصر. هو البحث عن الشخصية المصرية في الفن باعتبارها القضية الأولي التي يثور حولها الجدل. لكن الإجابة العملية علي هذا السؤال من خلال الابداع الفني تتطلب أن نأخذ في الاعتبار حقائق الواقع.. فلكل مقام مقال. إذ لابد أن عجلة التطور كانت ستسحب المجتمع المصري بكل معتقداته وتقاليده إلي نمط جديد من الحياة.. وأن الواقع سيفرض نفسه علي سلوك الناس وفنونهم.. بدليل هذه الثقافات التي وفدت علي مصر من الخارج بعد عصر الأسرات أيام مصر القديمة.. وهذه الغزوات التي عمقت جذورها في الأرض. وغيرت وجه مصر تماماً.. ديناً ولغة وفناً.. فبدلت ثوبها الحضاري مرتين. مرة عندما اعتنقت المسيحية. ومرة أخري عندما انتشر بين سكانها الإسلام. وهكذا أخذت فنوننا طابعاً وطرازاً مختلفاً أملاه الواقع السياسي الجديد.. فتحول المعبد إلي كنيسة ثم إلي مسجد.. إلا أن الطابع المعماري الذي تولد من التقاليد المعمارية القديمة ظل محتفظاً بصفات جوهرية تميزه عن التقاليد المعمارية في البلاد الأخري. ومع أن وحدة الشعوب تظهر في بعض المظاهر الحضارية. إلا أنها تقترن في البعض الآخر ولم يحدث أن ذابت الحضارات في بعضها تماماً. ففي مصر خضعت الفنون لما تنادي به تقاليد الحكام. إلا أن الفنانين المعاصرين يبحثون اليوم عن جذورهم القديمة وكيف يحولونها إلي أشكال معاصرة. غير أنه حدث تطور خطير في المجتمع الإنساني في العصر الحديث إذ تفشت الفردية كسلوك أخلاقي. وانتقلت الفردية بالتالي إلي الفنون وأصبح كل فنان يمثل مدرسة مستقلة بذاتها. وأصبح التفكير كله زمانياً منفصلاً عن المكان. وانفصل الفنان عن بيئته وأصبح يدور في فلك الزمان وحده.. وذابت الفنون وتلاشت شخصيتها تماماً. ولكن كيف يمكن تعميق الصلة بين الفنان وبيئته رغم انكماش سطح الأرض وتقارب الشعوب لدرجة الاندماج؟؟ وكذلك الحال في البيئة. فهناك سمات مادية تري بالعين وتدرك الحواس مثل مشاهد الطبيعة وصور الحياة. والفنان يكون صادقاً. إذ تعلق بإحدي هذه الظواهر مادام يستلهم واقعاً بيئياً حقيقياً.. فالفنان و"محمود مختار" مثلاً. نظر إلي التراث الفرعوني. واستعار منه خطوطه وجلاله وبساطته ورشاقته.. و"محمود سعيد" اختلط بالطبقة الكادحة من بناء الشعب وصور الحياة اليومية بدون رتوش.. ولا تنميق.. والفنان "راغب عياد" صور حياة الرهبان داخل الأديرة فسجل انطباعاته لهذا المناخ الديني مهتدياً بسمات التراث القبطي.. والفنان "يوسف كامل" استهوته الطبيعة المصرية والضوء الساطع الذي يغمر الحقول والدروب في الأحياء الشعبية فكان يغمس فرشاته في الضوء ويسكبه فوق لوحاته.. "وعبدالهادي الجزار". غاص في أعماق المعتقدات الشعبية التي تسيطر عليها الشعوذة والتعاويذ والسحر وأخرج ما في أعماق الشعب المقهور من رمزيات يواجه بها قدرة الغامض.. وهناك فنانون كثيرون استلهموا التراث الشعبي كرسوم الوشم وعروسة المولد وخيال الظل. ومنهم لم يكتف بهذا بل استخدم نفس الأصباغ والأكاسيد التي كان يستخدمها المصريون القدماء وهذه جميعها محاولات مخلصة تؤكد انتماء الفنان إلي مجتمعه وأرضه. ولا يجوز المفاضلة بينها.. فجمال الحديقة بتعدد أزهارها.. والعبرة تحتويه من جودة وقيمة فنية.