مر عامان علي ثورة الخامس و العشرين من يناير، المجتمع يفور و يمور ولا يريد ان يهدأ. بعد خمول دام قرابة الثلاثين عام، فجأة اكتشف المصريون مافاتهم وما ارتضوا له ان ُيسلب منهم سابقأً، الوطن اصبح هو الشغل الشاغل لغالبية المجتمع بشقيه الرشيد و الانفعالي.
نظرة متأنية لتاريخ الثورات في العالم تقودنا الي حقيقة ثابتة هي ان كل الثورات يتبعها فترات عصيبة من قلاقل واضطرابات تشبه بالام المخاض. طول الفترة او قصرها يعتمد علي امور كثيرة معظمها معقد لكنه ليس بمستحيل الحل.
دعونا ننظر للتغيرات المجتمعية التي طرأت علي المصريين خلال الثورة وبعدها، عندما تلاحمت جموع الشعب علي هدف واحد و في مواجهة موقف واحد، ارادة الشعب انتصرت ، لكن سرعان مادبت الخلافات بين الجموع فاصبحت اطيافا ، نظريا لا يوجد ضرر مجتمعي من وجود تيارات و اطياف مختلفة بالعكس هذه ظاهرة حميدة في مجملها ان توافر لها شروط اساسية كالمشاركة و الهدف الاعظم وعدم الاستقطاب و عدم التخوين.
ما رأيناه من واقع الامور ينذر بعواقب وخيمة ان لم نتداركها سريعا و لنأخذ عظة من امم سبقتنا الي هذا الدرب المظلم و نتعلم مما هم فيه.
فلنتطرق الان لمفهوم المواطنة ونبحث عن تعريفاته وهل تغير المفهوم علي مر العصور.
ماهي المواطنة، البعض يعرف المواطنة بانها العضوية الكاملة والمتساوية في مجتمع ما حيث يتساوي افراد المجتمع في الحقوق و الواجبات بدون اي تمييز وفقا لمعايير من شأنها ان تفرق بين ابناء الوطن الواحد.
قيم اصيلة تتحق تحت هذه المنظومة منها، قيمة المساواة في الحقوق كالامن و التعليم والصحة و الوقوف علي مسافة واحدة امام القانون و تبعاته.
قيمة المشاركة كما في حالة المشاركة السياسية في الاستفتاءات والانتخابات و الانضمام للاحزاب السياسية و تكوينها. قيمة المسئوليه الاجتماعية مثل التساوي الضريبي و الخدمة العسكرية و والدفاع عن حدود الوطن.
واخيرا قيمة الحرية و ما يتبعها من حقوق كحرية الاعتقاد وممارسة الشعائر و التكسب المشروع.
تاريخيا ، تغير مفهوم المواطنة علي مر العصور بدءا من استخدام المصريين لها كأداة للنضال ضد الزحف الخارجى. تعبر المواطنة مرحلتين اساسيتين من خلال محاولات المصريين كسر حاجز السلطة الاجنبية الوافدة ، مرحلة فقه الحكام حيث يهيمن الحاكم الاجنبي علي مبادئ المواطنة بدون شوري و وجود حاجز بين الحكام والمحكومين و التغير الوحيد يكون في طبقة الحكام تغيرا افقيا من جراء انقلابات عسكرية او قبلية ، مرورا الي المرحلة الثانية المسماه بفقه المواطنة وهي اساس الدولة الحديثة.
للمواطن ثلاث صفات اساسية ، من وجهة نظر الدكتور وليم قلادة - رائد في الكتابة عن مباديء المواطنة -
اولا : الانتماء لوطن ما وهنا يقصد رقعة ارض مشتركة يعيش عليها مجموعة من الناس ،
ثانيا : المشاركة في السلطة - اساسيات بداية فقه المواطنة ،
ثالثا: توجد المساواة في مرحلة فقه الحكام من حيث المساواة في الحرمان من الحقوق الاساسية وتمتد كذلك الي مرحلة فقه المواطنة من خلال المشاركة الايجابة في الحكم.
نجد ان المرجعية الدينية عنصر اساسي في تكوين الوجدان المصري من قديم الازل ارسائها للقيم الاساسية التي تكون التفكير المصري. الدولة الاخشيدية والدولة الطولونية كانتا نتاج ثورات الشعب من خلال بحثه عن جذوره الشعبية.
ناتي الي فترة حكم المماليك و الدولة العثمانية و هنا نجد ثورة تمثل المحكومين من الفلاحين مسلمين واقباط من قبيلة الهوارة بزعامة الشيخ همام واستقلالهم بالصعيد .
اما الثورة الثانية فكانت ثورة علي بك الكبير كمثال لثورة من السلطة.
يري الدكتور قلادة أن من الاف السنين وجد الكيان المصري بيئة خصبة ممثلة في الارض والطبيعة و الحضارة، وترسخ الوجدان المصري عبر السنين و بمجئ الاديان السماوية ، ظهرت التعددية الدينية من يهودية و قبطية و اسلامية ، هذه التعددية اشتركت في مرجعية سماوية واحدة .
اين نحن الان من موضوع المواطنة ، تغير الشارع كثيرا ، تعددت الانتماءات و استحدث كثير منها لم نعهد معظمها ، بمجرد سقوط النظام السابق ظهرت فصائل تدعو الي تقسيم وتفصيل المواطنة حسب مقاييس غريبة، لم يقتصر الموقف علي المسيحي والمسلم، وهي المرجعية الدينية الاصلية ، امتدت الان الي تقسيمات من داخل الجانب الاسلامي الي تقسيمات سلفية و اخري اخوانية ، و تبنت هذه التيارات التي كانت في الاصل سياسية الدعاية لنفسها علي انها الاساس للمواطنة و من لا ينتمي اليها فهو منقوص المواطنة. لاول مرة تقوم مظاهرات و لا ُيري علم مصري واحد في حين تمتلئ المظاهرة باعلام دخيلة لدول تتبني فكر معين. وكأن الهدف هو تهميش متعمد للوطن الاصل و تركيز الذهن علي الفكر و العلم الدخيل، تكرار هذه الظاهرة بانتظام سيكون له اثار متردية خطيرة بمرور الوقت علي معني الانتماء و مدلول المواطنة لدي سواء الشعب.
تداعيات الموقف الان هو الخلط بين الهوية السياسيه والدينية و المواطنة، ومدي استغلال البعض لهذا الخلط من اجل تحقيق انتصارات سياسية مؤقتة و تغليفها بوازع ديني وطني في حين ان الواقع مختلف.
في المجمل، عناصر المواطنة التي جمعت الشعب المصري علي مدي العصور ، اصبحت في امس الحاجة لاعادة تركيز وبحث و تمحيص من قبل علماء الاجتماع و باحثيه ومهتميه من اجل تدارك هذه الهوة قبل فوات الاوان و تاتي اجيال قادمة وهويتها محل شك ، وقتها لن نلوم الا انفسنا .