يستمر الربيع العربي في طوفانه مع نهاية عام 2012، حيث لم يضع أوزاره بعد، كما لم تتضح الحدود أو الأسقف التي ستتوقف عندها موجة التغيير والتحول المصاحبة له، ولذا يمكن بلورة رؤية استشرافية، لتداعيات ذلك الربيع على مستقبل النظام الإقليمي العربي. فعلى صعيد التحولات والتفاعلات القطرية خلال العام الحالي، نجحت شعوب عربية في إسقاط أنظمتها الحاكمة بدرجات متفاوتة من العمق كتونس ومصر وليبيا واليمن، في حين يمضي فريق ثان على الدرب لتحقيق ذات المطلب كسوريا، وقد تزامن ذلك مع نجاح بعض الأنظمة العربية في احتواء نصيبها من موجة الاحتجاجات الشعبية، والإفلات ولو مرحليا عبر تبني حزمة من الإصلاحات الشاملة لاسترضاء شعوبها.
وفي حين ألقت أجواء الحذر والترقب بظلالها على مواقف وسياسات الأنظمة التي تصارع من أجل البقاء، غرقت الدول التي قطعت شوطا طويلا على درب التغيير كمصر وتونس وليبيا واليمن، في عمليات إعادة ترتيب أوضاعها الداخلية أمنيا وسياسيا واقتصاديا بما يتماشى وتطلعات شعوبها وأهداف ثوراته.
وعلى مستوى التفاعلات العربية مع المحيطين الإقليمي والدولي، لم يعد النظام الإقليمي العربي خلال العام الجاري حصيلة التفاعلات البينية لدولة فقط وإنما يشمل أيضا مجمل سياسات تلك الدول حيال محيطها الإقليمي والدولي.
وسعت دول الجوار كل منها بطرق مختلفة لترويض النظام الإقليمي العربي بغية تعظيم استفادتها منه قدر المستطاع، سواء في نجاحاته أو إخفاقاته، ولكن يظل أي مسعى لتقويم مدى نجاح تلك الاستراتيجيات الإقليمية والدولية إزاء النظام العربي عملا شائكا ومعقدا طالما ظلت آليات التحول القطري الداخلي الحادة أو مؤثرات التدخل الخارجي القوية في ذلك النظام حتى الآن في طور الصيرورة ولم تصل بعد إلى صيغة مكتملة وواضحة المعالم.
وتتنوع الرؤى والتصورات في قراءة المشهد داخل النظام العربي خلال العام الحالي والمتمثلة في محوري "الاعتدال" و"الممانعة" وكذا الصراع السني - الشيعي الممتد والذي يتخذ من سوريا الثائرة هذه الأيام مسرحا له.
فعلى صعيد محور "الاعتدال" توحي المؤشرات للسياسة الخارجية المصرية بعد ثورة يناير برغبة لدى القاهرة في تبني منحى أقرب إلى "النمط التركي" في التعاطي مع واشنطن وتل أبيب، بمعنى اتخاذ موقع وسط بين محوري الاعتدال والممانعة التقليديين، بحيث تقلص من الانصياع للضغوط الأمريكية والإسرائيلية، من دون تصعيد انفعالي أو صدام مفتعل مع واشنطن وتل أبيب، مع عدم التسامح إزاء أي صلف أو تطاول إسرائيلي.
وفيما يتصل بدول الجوار، اتسم موقف حكومة مصر حيال العلاقات مع كل من إيران وتركيا بمسحة من الانفتاح، وأبدت مصر استعدادا "حذرا ومشروطا" للتطبيع مع الأولى، في حين خطت خطوات ملفتة في التقارب مع الأخرى.
ويمكن القول بأن الربيع العربي من شأنه أن يضفي تغييرا طفيفا على دور مصر وأسلوبها في قيادته، فتسعى مصر ما بعد مبارك، لإحداث حالة من التوازن بين علاقاتها ومصالحها مع الولاياتالمتحدة وإسرائيل من جهة، واعتبارات السيادة والمصالح الوطنية والقومية واسترضاء الشارع المصري من جهة أخرى.
ويمكن استشراف مستقبل محور الممانعة العربي متمثلا فى انتفاضة الشعب السوري ضد نظام بشار الأسد وأسلوب تعاطي الأخير معها وردود الفعل الإقليمية والدولية على الأحداث هناك، ما من شأنه أن يوجه ضربة قاصمة لذلك المحور ولموقع سوريا المركزي فيه على أكثر من مستوى.
فعلى المستوى القطري، كان لإمعان الجيش السوري في مباشرة أقصى درجات القمع ضد الشعب الأعزل المطالب بالحرية، وغضه الطرف عن الاحتلال الإسرائيلي للجولان وتخاذله عن الرد على الخروقات والانتهاكات المتكررة من جانب الطيران الإسرائيلي للأجواء والمواقع الحيوية السورية، دورا محوريا في تفنيد مزاعم النظام البعثي الخاصة برفع لواء المقاومة و"الممانعة" على نحو جعل منه هدفا لمؤامرات الغرب ومخططات الصهيونية، واتهاماته للمتظاهرين بالعمالة لإسرائيل وأمريكا.
ومن شأن ذلك أن يسقط من يد النظام البعثي ورقة استخدام "أدوات غير سورية" لتحقيق أهداف سياسية تتعلق ببقائه، عبر السماح بفتح مكاتب للمقاومة الفلسطينية بجناحيها الوطني والإسلامي وفي مقدمتها حركتا حماس والجهاد الإسلامي، وتقديم دعم سياسي ولوجيستي لحزب الله اللبناني وبعض القوى اللبنانية الأخرى، وتأسيس تحالف إستراتيجي مع إيران.. وهو ما أسماه ثوار سوريا ممارسة النظام سياسة "الممانعة والمقاومة عبر آخرين".
وسيتخلى نظام البعث السوري عن هذه الأدوات إذا ما وجد في ذلك مصلحة له، وهو ما تفعله حاليا قوى الثورة السورية، وتمكن قراءة سماح النظام بشكل مفاجئ لمسيرة العودة بالتوجه إلى حدود هضبة الجولان المحتلة يومي 15 مايو و5 يونيو الماضيين، في مسعى لتسخين جبهتها بدماء المئات من الشهداء والجرحى، ليؤكد ما ذهب إليه راميمخلوف أحد أركان النظام السوري بأن إسرائيل لن تنعم بالأمن إذا ما تزعزع النظام السوري.
وإقليميا، يبدو أن إمعان النظام السوري في استخدام أقصى مستويات القمع والعنف لإجهاض انتفاضة شعبه، ورفضه تبني إصلاحات حقيقية تعينه على امتصاص الغضب الشعبي وتجاوز الأزمة، أفضى إلى حدوث تصدعات في علاقته مع أطراف إقليمية ودولية مهمة.. على غرار ما يحدث الآن مع تركيا، التي تحول التقارب الإستراتيجي معها إلى توتر يكاد يقترب من القطيعة بعد اهتزاز الثقة وتبادل الاتهامات بين الأسد وأردوغان وتردد شائعات عن نية أنقرة إقامة منطقة آمنة على حدودها مع سوريا، التي ردت من جانبها بزيادة عدد دورياتها العسكرية على طول الجانب السوري من الحدود.
ودوليا، يبدو أن دائرة الإجماع الدولي على رفض ممارسات النظام السوري ومطالبته بالتنحي تتسع يوما بعد آخر، حتى بعض الأطراف الدولية التي تربطها مصالح حيوية وعلاقات وثيقة مع نظام دمشق يحملها على إظهار بعض التحفظ على النهج الغربي التصعيدي في التعاطي معه كروسيا والصين والبرازيل، لم تتورع عن إبداء استيائها من ممارساته والإعراب عن قلقها على مصيره في ظل تآكل قدرتها على مناصرته حتى النهاية.
وتدفع الأزمة السورية الحالية بالمنطقة صوب حرب إقليمية بالوكالة تكون ساحتها دمشق ما بين الجناح السني بقيادة السعودية وتركيا والجناح الشيعي بقيادة إيران، في الوقت الذي لا يستبعد خبراء أن تغدو دمشق أيضا ساحة للمواجهة بين الولاياتالمتحدة وإسرائيل من جانب وإيران من جانب آخر، ومنطلقا لإعادة هندسة المنطقة جيواستراتيجيا وإعادة صياغة العلاقات والمصالح الإقليمية والدولية وفقا لأسس واعتبارات مغايرة في ضوء التطورات الجديدة التي تعتري المنطقة هذه الأيام.
فمن شأن قيام أنظمة جديدة في تونس ومصر وليبيا وبعدها اليمن عقب ثورات شعبية أطاحت بالأنظمة السابقة، إيجاد فرص مواتية داخل النظام العربي لبروز موجة استقطابية جديدة مستقبلا أشبه بالموجة الأولى التي نشبت قبل أربعة عقود خلت بين النظم "الثورية" والنظم "التقليدية" أو "غير الثورية".
وبرزت ردود فعل قلقة وغاضبة من قبل بعض الأنظمة التي نجت، حتى الآن، من التسونامي الثوري العربي، حيال سقوط أنظمة متحالفة معها وتوجس بعض الأنظمة الباقية مما يجري في ظل بقاء هواجسها بشأن احتمالات انتقال عدوى السقوط إليها، برغم الإجراءات الاحترازية والوقائية المتنوعة التي اتخذتها للتخندق والتمرس في مواجهة الطوفان الثوري الشعبي الجارف.
وتتمثل ديناميكية التحول السلمي خلال العام الحالي في الاستجابة لمختلف الأطراف من المتظاهرين دون تغيير النظام كما حدث فى المغرب ذات النظام الملكي الدستوري فعند نزول أعداد غفيرة من الشعب المغربي في تظاهرات سلمية، بادر الملك محمد السادس بإنشاء لجنة مؤلفة من شخصيات وفعاليات مغربية محترمة وجديرة بالثقة لاقتراح تعديلات دستورية تضع المغرب في اتجاه التحول نحو نظام ملكي دستوري.
وبالفعل، قدمت اللجنة مسودة مشروع دستور جديد، واقترحت عليه تعديلات طرحت لاحقا لاستفتاء شعبي وحازت موافقة الأغلبية العظمى للشعب، وعلى إثره، تم إجراء انتخابات نزيهة فاز فيها الحزب الحائز على أكثرية المقاعد برئاسة مجلس الوزراء، كما تم تشكيل حكومة ائتلافية تتكون من خمسة أحزاب لضمان قاعدة عريضة داخل مجلس النواب الجديد، ونجح الملك محمد السادس في تهدئة مطالب الشعب المغربي بشكل عام.
وجاءت هذه الاحتجاجات في أعقاب الحراك الذي شهده المغرب من أجل الضغط لمزيد من الإصلاحات السياسية والاجتماعية.. ومنذ تشكيل حكومة بقيادة حزب العدالة والتنمية الإسلامية في يناير 2012، والتي وعدت من جانبها بإجراء إصلاحات سياسية واجتماعية شاملة، ولم تنفذ تلك الإصلاحات، نتيجة ما تواجهه من تحديات كبرى على خلفية ملفات عالقة، على رأسها ملف البطالة المستشرية، إلى جانب ملفي التنمية والتحول الديمقراطي.
وفي الأردن أعرب المواطنون عن دعم كبير لانتفاضات الربيع العربي منذ نشأتها الأولى في تونس، وكسروا حاجز الخوف ونزلوا إلى الشارع في مظاهرات سلمية خلال العام الحالي، وعلى عكس المتظاهرين في دول انطلاقة الربيع الذين طالبوا منذ انطلاقته بإسقاط الأنظمة، هتفوا في تظاهراتهم "الشعب يريد إصلاح النظام"، وبالتالي، تحرك الملك عبد الله لتعديل الدستور، بتعديلات لم تمس جوهر النظام، على عكس التعديلات الدستورية التي أدخلت في المغرب.
يذكر أن الجوار الجغرافي بين الأردن وإسرائيل، يلعب دورا حاسما في إمكانية سماح الولاياتالمتحدةالأمريكية، أو حتى إسرائيل نفسها، بقيام انتفاضات قد تأخذ منحى خطرا، حال نزول أعداد غفيرة من المواطنين في مواجهة النظام، وهو الأمر الذي مازال مستبعدا في الأردن.
وتبعات الربيع العربي لم تتضح بعد تماما في عدد من البلدان العربية الأخرى كالجزائر والسودان وموريتانيا والمملكة العربية السعودية والكويت والإمارات ولبنان، على سبيل المثال، خاصة أن بعض هذه البلدان به أقليات شيعية كبيرة، كالسعودية والكويت، بينما تعتبر دول أخرى كموريتانيا أكثر تماسكا وتجانسا، على الصعيد الديني أو الطائفي على الأقل.
ومن جهة أخرى، فإن السرعة التي تشكلت بها الثورات قبل انتشارها عبر الحدود، بالإضافة إلى نتائجها التي عكست في الواقع رسالة إلى جميع أنحاء الوطن العربي؛ أن التغير ممكن من الداخل.
ففي الجزائر، لم تصل الحركات الاحتجاجية الشعبية الجزائرية إلى درجة الثورة الكاملة كما حدث فى تونس ومصر وليبيا لتقدم الجزائر نموذجا للتغيير يقترب من جارتها المملكة المغربية التي عرفت بتحولات سياسية كبيرة خلال عام 2012 أفضت إلى اتخاذ بعض الخطوات الإصلاحية دون ثورة.
وتمثلت التعديلات في الخطاب الذي وجهه الرئيس بوتفليقة للشعب الجزائري في 15 ابريل الماضي على خلفية انتشار حركة احتجاجية بالبلاد، معلنا إجراء تعديل دستوري وتنظيم مجموعة قوانين جديدة تسمح بالممارسة الديمقراطية وإشراك كافة القوى السياسية من داخل البرلمان ومن خارجه لوضع نظام انتخابي جديد.
وأظهرت نتائج الانتخابات التشريعية الجزائرية في 9 مايو الماضي أن هذا البلد لديه مناعة ضد رياح التحول التي هبت على الدول العربية، وذلك بحصول حزب جبهة التحرير الوطني الحاكم في الجزائر بزعامة الرئيس عبد العزيز بوتفليقة في هذه الانتخابات على 220 مقعدا من أصل 462 مقعدا في البرلمان ليظل الحزب سيد المسرح السياسي في البلاد.
وأرجع محللون هذه النتائج إلى إدخال النظام لعائدات النفط في سلسلة تحسينات على الأجور، والذي لاقى ترحيبا بين الجزائريين بعد أن شهدت الجزائر في عام 2012 بوادر عدوى بالربيع العربي. مواد متعلقة: 1. رغم الربيع العربي.. تراجع تصنيف مصر في مؤشر الفساد 2. الربيع العربي .. هل يدق أبواب الجزائر؟ 3. الغنوشي: الربيع العربي أعاد مشاريع الوحدة