بقلم مؤمن المحمدى قلنا ونقول إنه لا يوجد ما يسمى ب"الشريعة الإسلامية"، ليس رفضا لها، وإنما اقتناعا باستحالة التشريع من خلال نصوص الإسلام المقدسة، واعتراضا على فكرة أن ما يقوله الشيوخ هو نقل لكلام الله، وتأكيدا لأنه اجتهاد بشري، فما يقوله فلان هو شريعة فلان، وما يفتي به علان هو فتوى علان، ولا أحد، مهما كان من حقه الادعاء باحتكار الدين. قلنا إن القرآن احتوى كثيرا من الأمور التي تحدد علاقة الإنسان بربه، لكنها لا يمكن أن تتحول إلى ما يمكن للحاكم أن يعاقب عليه المحكومين، واليوم نتحدث عما يخص علاقة الإنسان بأسرته ومحيطه الشخصي.
والملحوظة الأولى هو أن الإسلاميين يخلطون بين الحرام، والجريمة. في حين أننا نرى بوجوب التفرقة بينهما، بل إننا نفرق بين كل منهما، وبين الغلط والعيب والممنوع والجريمة. فكل كلمة من هذه الكلمات تدل على حظر لفعل ما، لكن مصدر الحظر مختلف في كل مرة، وطريقة العقاب ليست واحدة.
ومنذ انتشار الفتوى في سبعينيات القرن الماضي، والخلط بين هذه المفاهيم يصبح كل يوم أفدح وأفضح، وعلى نحو متعمد، وذلك حتى تصب كل هذه المفاهيم في خانة واحدة يتحكم فيها السلطان، سواء كان سلطانا دينيا أم سلطانا سياسيا، أم دينيا سياسيا كما هو حادث الآن.
والكذب، مثلا، حرام دينيا، لكن كيف يمكن تنظيم قانون يجرم الكذب؟ وصلة الرحم فريضة، حرام تركها. لكن، هل يعني ذلك أن نتتبع البشر لنعرف إن كانوا يصلون رحمهم أم يقطعونها؟
ليس كل ما يحرمه الدين قابل للتجريم، بل ليس كل ما يحظره المجتمع قابل للتحريم أو التجريم، مثلا، في قريتنا بالصعيد كان مرورك راكبا الحمار على من أكبر سنا أمرا غير مقبول، والسلام باليد من الوضع جالسا كان إهانة قد تستوجب الدم. لا يمكن التعامل مع هذه المعايير "الأخلاقية" باعتبارها حراما أو جريمة، مع الاعتراف بضرورة احترامها، لأنها نابعة من سياق المجتمع.
وفي سياق حديثنا نركز فقط على التشريع، بالمعنى القانوني، نفتش عما يمكننا اعتباره جريمة تستوجب العقاب البشري الواضح، لا على ما يدخل الجنة أو النار، مع إقرارنا بحق كل شخص في التصرف كما يحلو له لضمان الجنة أو تجنب النار، في إطار القانون، فليس من حق أحد أن يقتل مثلا، لأنه يتصور أنه بقتل المواطنين سيدخل الجنة، المهم هو على أي أساس نصوغ القوانين.
طبقا لهذه الرؤية، فإن البحث في القرآن عما يمكن اتخاذه "شريعة" يكاد يقتصر على قواعد الزواج والطلاق من ناحية، وقوانين المواريث من ناحية أخرى.
والملحوظة الأساسية لدينا هو أن الأحكام المذكورة في القرآن في كلا الحالين ليست شاملة بحيث يمكنك صياغة قوانين جامعة مانعة، وإنما هي شذرات أقرب إلى التعاليم. ولننظر إلى هذا المثال:
رجل توفي وله أب وأم على قيد الحياة، وزوجته كذلك، لم يرزقه الله أولادا، بل ثلاثا من البنات، كيف يمكن توزيع تركة الرجل، بحسب القرآن، إذا عرفنا أنها مثلا مليون جنيه؟
القرآن يذكر أن الأب له السدس والأم لها السدس كذلك، وذلك بنص الآية: "ولأبويه كل واحد منهما السدس مما ترك"، أما الزوجة، فينطبق عليها نص الآية: "فلهن الثمن مما تركتم"، وللبنات الثلثان طبقا للقانون: "فإن كن نساء فوق اثنتين فلهن ثلثا ما ترك".
لكن إذا جمعنا هذه الأنصبة، فإنها تزيد عن الواحد الصحيح، ف سدس الأب + سدس الأم = الثلث، وثلث الوالدين + ثلثا البنتين يعني أن التركة قد انتهت، ولا مكان لثمن الزوجة.
ليست هذه هي الحالة الوحيدة التي يزيد فيها عدد الأنصبة عن الواحد الصحيح، وهو ما يعني استحالة تنفيذ ما ورد بالقرآن.
وما تقوله كتب الفقه إن أيا من هذه الحالات لم يحدث في حياة النبي، ولا في أيام أبي القصيرة، وأن هذه المعضلة واجهت أول ما واجهت عمر بن الخطاب، الذي جمع كبار القوم، وكان هناك أحد حلين،إما أن ننقص من حق البنات، كان هذا رأي ابن عباس، أو أن ننقص من حقوق الجميع بالتساوي، كان هذا رأي عمر نفسه، وهو الرأي الذي ساد فيما بعد. لكن أيا كان فإن الاجتهاد البشري هو الحل لجبر الكسور.
من ناحية أخرى يخبرنا أنه "للذكر مثل حظ الأنثيين"، في حين نجد تساوي الأنصبة في حالات كثيرة، كالأب والأم الذي يحصل كل منهما على السدس، رغم أن الأب ذكر، والأم أنثى.
ناهيك عن اللغط الدائر حول الزواج، وتعريفه وطبيعته وأنواعه، وهل نعتبر زواج المسيار أو المتعة أو غيرهما من أشكال الزواج التي يقرها هذا الفقيه أو ذلك استنادا إلى آيات قرآنية، إضافة إلى عدم قطعية دلالة بعض الألفاظ مثل "القروء" التي قد تعني الحيض وقد تعني الطهر، وكل معنى يعطي حكما مختلفا، ومدة مختلفة للعدة.
إن كل هذا يعطينا دلالة على أن هذه ليست أحكاما قاطعة، وإنما تلحق بالتعاليم الأخلاقية التي تندرج تحت بند "الحرام"، الذي يأثم مخالفه، لكنها ليست قوانين تجرم مخالفيها. وإذا نظرنا بوجهة نظر إسلامية، أمكننا فهم أن عدم إحكام النصوص لا يعني تقصيرا، وإنما فتحا للمجال العام، وتيسيرا للأجيال، والتعامل مع النص ليس بطريقة حرفية، وإنما بفهم شامل للمقصود من تلك الآيات، وإيجاد تأويلات تناسب كل عصر بناء على هذا الفهم.