موقف محمود عباس الذي يتحفظ فيه على إمكان تنفيذ حق العودة (إن لم يكن رفضه المطلق له) .. ليس جديداً. فقد سبق أن أكد لرئيس الدولة العبرية شيمون بيريز، بأنه يتفهم تماما صعوبة تطبيق هذا الحق، حيث تقوم الدولة العبرية على الأرض الفلسطينية التي يطالب أصحابها بالعودة إليها، والتي اغتصبها اليهود عام 48 وأقاموا عليها دولتهم. فليس من المستغرب إذن أن يؤكد الرجل- بموقفه هذا- على أنه وعرَّابه الراحل ياسر عرفات، قد تنازلاً عن حق العودة للفلسطينيين الذين هجروا عام 48.. حين وقعا على اتفاق أوسلو المشئوم.
وكلنا يدرك أن عباس وعرفات قد أضفيا- بتوقيعهما على هذا الاتفاق- الشرعية على سرقة اليهود لتلك الأراضي، ما يعني صراحة عدم تمسكهما بحق عودة اللاجئين الفلسطينيين لمدنهم وقراهم وأرضيهم وأملاكهم التي هجروا منها بالقوة. وهذا واقع لا يستطيع عباس أو معاونوه أن يمحوه من ذاكرة الشعب الفلسطيني مهما قدموا من مبررات.
في الحوار الذي أجرته معه القناة الإسرائيلية الثانية، أقر عباس لمحاوره بأنه لا يحق له كفلسطيني أن يعيش في بلدته التي طرد منها عام 48، وأن كل ما يريده هو زيارتها فقط، ما يعبر عن انحيازه الصريح لرفض الإسرائيليين تطبيق هذا الحق الذي أقرته الهيئة الأممية.
ولتأكيد هذا الانحياز قال عباس: إن الضفة الغربية وقطاع غزه يمثلان في نظره، (ووفق حدود ما قبل السادس من يونيو 67)، الكيان الفلسطيني المفترض إقامته وأن تكون القدسالشرقية عاصمة له. أما باقي أراضي فلسطين التاريخية فهي- في نظره- ملك خالص لإسرائيل، مردفاً القول بأن هذا هو الوضع القائم حالياً، والذي سيبقى- في نظره- على حاله إلى الأبد.
كذلك تعهد عباس بأنه لن يسمح مطلقاً بقيام انتفاضة مسلحة طالما بقي في السلطة، وأكد على التزامه بأن يظل تعامله مع الإسرائيليين بشأن حل القضايا الخلافية معهم، قائماً على التفاوض ونبذ العنف.
رد فعل الإسرائيليين
وفي هذا الإطار، رحب رئيس الدولة العبرية شيمون بيريز بتصريحات عباس التي وصفها بالشجاعة مردفا بأن كلماته تعتبر مهمة للغاية ما يحتم على الإسرائيليين التعامل مع عباس بكل احترام. فموقفه الرافض لحق العودة يعني- في نظر بيريز- أن حل مشكلة اللاجئين الفلسطين لن تكون على أرض إسرائيل، وهذا يتفق تماما مع مواقف غالبية الشعب الإسرائيلي. كما أكد على أن تصريحات عباس تؤكد أنه ما زال شريكا حقيقياً في عملية السلام.
أما "أوفير جندلمان" المتحدث باسم رئيس الوزراء الإسرائيلي نتنياهو، فقد علق على تصريحات عباس بقوله : إنه برغم أن هذه التصريحات مرحب بها إسرائيلياً، إلا أن عباس ما زال يرفض دعوة نتنياهو استئناف المفاوضات دون شروط مسبقة.
كما أكد المتحدث باسم وزارة الخارجية الإسرائيلي "بول هيرشسون" ما ذهب إليه "أوفير جندلمان" بشأن رفض عباس المتواصل استئناف المفاوضات قائلاً: إنه يسعد الإسرائيليين أن يقوم عباس بزيارة بلدته "صفد" أو أي مكان آخر في إسرائيل، لكن عليه أن يظهر رغبة صادقة في المضي قدما في عملية السلام . كما أكد على أنه ليس من حق عباس كفلسطيني الإقامة فيها.
لم يكن غريباً أن نرى كل فصائل المقاومة الفلسطينية والشعب من ورائها، ترفض تصريحات عباس جملة وتفصيلاً، وترى أنه لا يمثل في هذه التصريحات إلا نفسه.
بل ذهب البعض إلى اتهامه بخيانة الثوابت الفلسطينية وعلى رأسها حق العودة. فقد صرح القيادي في حركة حماس "صلاح البردويل" بأن أرض فلسطين من البحر إلى النهر هي ملك خالص للفلسطينيين، وليس لأحد أن يفرط بها. بل ذهب أبعد من ذلك حين قال: إن من الواجب محاكمة أي فرد- أيا كان موقعه- يقبل بالتخلي عن أي من الثوابت الفلسطينية وبخاصة حق العودة.
أما معاوني عباس، فقد حاولوا تفسير تصريحاته للقناة الإسرائيلية بصورة أخرى، حيث أكد المتحدث باسم رئاسة السلطة الفلسطينية أبو ردينة، بأن موضوع حق العودة هو من القضايا الخلافية الرئيسة التي ما زالت مطروحة قيد التفاوض، وأن عباس ما زال متمسكا بهذا الحق ولم يتنازل عنه.
هذا إيجاز شديد لردود الشعب الفلسطيني بفصائله واتجاهاته السياسية على اختلافها، حيال تصريحات عباس التي تخلى فيها- بجانب حقوق أخرى- عن حقه في العودة.
وهنا نتساءل: ما الذي دفع عباس للإدلاء بهذه التصريحات؟ .. وما الإجراءات العملية التي يتوجب على الشعب الفلسطيني اتخاذها حيالها وحيال عباس بشخصه؟.
الإجابة على الشق الأول من التساؤل تتلخص في :
أولا- يرى البعض أن ما دفع عباس للإدلاء بهذه التصريحات، هو اعتقاده بأنها ستؤثر في مجرى الانتخابات الإسرائيلية التي من المقرر أن تجري في 22 يناير القادم، باتجاه انصراف الناخب الإسرائيلي عن انتخاب نتنياهو رئيساً لوزراء إسرائيل القادم.
ثانيا- يرى فريق آخر أن الدافع وراء هذه التصريحات، هو استجداء تأييد الإسرائيليين والأمريكان والغرب بعامه له كي يظل على رأس السلطة في اي انتخابات فلسطينية (حقيقية) قادمة، وذلك من خلال الحصول على تنازلات إسرائيلية ولو (خادعة) تدغدغ أحلام الفلسطينيين في استرجاع الحد الأدنى من حقوقهم المسلوبة (على ما يتصور).
ثالثا- يرى فريق ثالث أن عباس يخشى أن تهب رياح الربيع العربي على الشعب الفلسطيني، والتي من شأنها- إذا ما وقعت- أن تضع قادة السلطة الفلسطينية وقادة فتح أوسلو وعلى رأسهم عباس، قيد المحاسبة الشعبية. ويرى هؤلاء أن الغالبية العظمى من الفلسطينيين قد سمعوا عن تلك الشائعات المؤلمة التي تتصل باستيلاء هؤلاء القادة على جزء كبير من الأموال التي قدمتها الدول المانحة للسلطة.
ولعل التقرير الذي نشر مؤخراً حول أوجه صرف الأموال التي تسلمتها السلطة، والذي أظهر أن نحو ألف مليون دولار جرى صرفها على مؤسسة الرئاسة خلال العشر سنوات الماضية (إن لم أكن مخطئاً في ذكر عدد السنوات"، لأبلغ دليل على ميل الشعب الفلسطيني لتصديق تلك الشائعات، والتي يرى الكثير أنها لا تبعد كثيراً عن الحقيقة.
رابعا- هناك من يرى أن عباس يعتقد- بإدلائه بهذه التصريحات- أنه يساعد الرئيس أوباما في الانتخابات الرئاسية القادمة، من زاوية أنها توحي للوبي اليهودي بأن أوباما قد نجح في إقناع الفلسطينيين ممثلين في رئيس السلطة عباس، بتخليهم عن حق العودة. وتحقق أمر كهذا قد يعين- في نظر عباس- في الحصول على تأييد الأمريكيين لبقائه على رأس السلطة.
وهكذا نرى أن من الواجب على الشعب الفلسطيني أن يقنع العالم، بأن هذا الرجل لا يمثل الشعب الفلسطيني لا من قريب ولا من بعيد، وأنه وقادة فتح أوسلو لم يعودوا يمثلون الرأي العام الفلسطيني منذ قبولهم باتفاق أوسلو المشئوم، الذي لم يجلب سوى العار والخراب والدمار على الشعب الفلسطيني.
أما الشق الثاني من ذاك التساؤل والخاص بالتعامل مع عباس، فتتلخص الإجابة عليه في أنه من غير المقبول أن يظل هذا الرجل لاعباً وبأي مستوى على الساحة الفلسطينية لأسباب خطيرة من أبرزها:
اشتراكه في التخطيط لاتفاق أوسلو المشئوم وتبني تنفيذه، بدعم من الراحل عرفات الذي يتحمل الجزء الأكبر من مسئولية اتخاذ القرار الفلسطيني في تلك الفترة.
عدم قناعته بحق العودة للاجئين الفلسطينيين- إن لم يكن رفضه المطلق له- واعترافه بشرعية سرقة اليهود للأراضي الفلسطينية التي اغتصبوها عام48 وأقاموا عليها كيانهم العبري.
يعتبر عباس المسئول الأول عن محاولة القضاء على المقاومة المسلحة في الضفة وغزه، وكذلك محاولات تفكيك البنية التحتية للفصائل الفلسطينية التي تتبنى هذه المقاومة، بما فيها كوادر حركة فتح (التي كان لها فضل السبق في بدء الثورة الفلسطينية والمقاومة المسلحة للاحتلال الإسرائيل تحت شعار "ثورة حتى النصر").
اعتماد عباس أسلوب التفاوض مع العدو الإسرائيلي كخيار استراتيجي وحيد للوصول إلى حلول عادلة للقضية الفلسطينية.
والحقيقة أن هكذا مواقف وتصرفاتٍ لمسئول فلسطيني كبير مثل عباس حيال القضية، لا يمكن أن تسمح ببقائه قيِّما على مصالح الشعب الفلسطيني.
أضف إلى ذلك أن وجوده على رأس السلطة الفلسطينية لفترة طويلة، كان وما زال وجوداً غير شرعي، ما يدعو للعمل وبأقصى سرعة على عزله من رئاسة السلطة، وإقصائه تماما عن ساحة العمل الفلسطيني مهما كلف الأمر، ومهما كانت النتائج.
كما أن المسألة لا تنحصر فقط في إزاحة عباس عن رئاسة السلطة أو رئاسة فتح أوسلو أو رئاسة منظمة التحرير أو أي منصب آخر ما زال يشغله، وإنما تتمثل في ضرورة إقناع العالم، بأن هذا الرجل لم يعد هو وعرابه عرفات وأتباعهما من قادة فتح .. يمثلون الفلسطينيين، منذ شاركوا في وضع اتفاق أوسلو والتوقيع عليه.
فبتوقيعهم على هذا الاتفاق، أسقطوا من يد الشعب الفلسطيني أهم ورقة كانت بيده وهي: رفض الاعتراف بالكيان العبري، ورفض أي عمل من شأنه إضفاء الشرعية على قيام هذا الكيان على الأرض الفلسطينية التي استولت عليها العصابات الصهيونية عام 48، ووقف المقاومة المسلحة للاحتلال الإسرائيلي.