أصل "الجرافيتي" قديم, يعود للرسوم المخدوشة أو الخربشة بمسمار على صخور العصور الغابرة. وعلى جدران شوارع مصر رسم الثوار لوحاتهم بقلوب صافية, وكتبوا رسائل سياسية بدهانات رخيصة أو بعبوات رذاذه, من غير إذن من صاحب العقار. وتمنع سلطات القمع الرسم على الجدران بحجة كونها "تشوه" البيئة، بل تمحيها, ثم يعيد الثوار رسمها من جديد, مثل المسيرة التي تنفض بالقوة, ثم يتجمع المحتجون مرات ومرات. وليس في استطاعة السلطة المنزعجة أن تقمع حرية التعبير, وتقاوم الفن المتمرد وغير الموالي, عندما يفضح القمع والتهميش. وليس معقولاً أن العالم يتغير, ويبقى الفنان جامداً ومنغلقاً على نفسه, بأسلوبه الشبيه بالآلة ولا يتغير. أليس هو إنسان يعيش وسط الناس ويحلم بالحرية?! ولماذا يتحسر على الماضي ويحن لرواج خادع لسوق الفن التجاري قبل الثورة, بينما انفتحت طاقة نور يتنفس من هوائها نسيم الحرية, مع صيحات تطالب بالعيش الكريم. وبسرعة يلتقط الجمهور صوراً بالمحمول"يشَيروها"على الفيسبوك وعلى التويتر. فتنتقل الرسالة مصورة, حية في نفس الدقيقة؛ ليشارك كل من وصلت له الرسالة في مسيرة الغضب. وفي الحقيقة أن "الجرافيتي" هو فن مقاومة, ورسائله لا تحجبها حواجز الخرسانة, إنما ترسم ملحمة الأبطال ووجوه الشهداء الذين سقطوا في شوارع "محمد محمود" و"ماسبيرو" و"مجلس الوزراء"ومذبحة الألتراس في "بورسعيد". الشعب الذي ثار على الظلم, وناضل من أجل حريته, ومن أجل العيش بكرامة, فلا يهاب الموت شهيداً. ومهارة الرسم موروثة في جينات المصريين من أجدادهم الذين ملأوا حوائط بناياتهم برموز شُجاعة وبليغة. واليوم تشحن صور الوجوه والرموز على جدران الشوارع بصرخات غضب الثائرين, وبأنفاس الشباب الذين كسروا حاجزالخوف, ورفعوا أصواتهم ينادون بالحرية. والرسامون الجدد ليسوا محترفين والرسم ليس صنعتهم لأكل العيش. ويستعملون الكرتون, بعدما يفرغوا فيه الشكل وتسقط الملونات عبر الفراغات؛ لتسجيل لحظة التمرد وأوقات الفشل الحزينة وحلم العدل بين كل البشر. وترسم وجوه الشهداء مهيبة, تذكر بوجوه الفيوم التي رسمت منذ زمن الرومان, وتذكر كذلك برسوم جدران الكنائس القبطية. وعلى حوائط الشوارع بالقرب من ميدان التحرير رسم لشاب يقود دراجة، ويحمل على رأسه قفصاً مملوءاً, بدلاً من الخبز مدرعة تصوب فوهة مدفعها نحو المتظاهرين. إنها رسوم غاية في البساطة, ومع ذلك مؤثرة جداً وتوجع القلب, بل وتدفع بالمطالبة بحق الشهيد. ويستخدم الثوار أدوات فن رخيصة في متناول الجميع. وفي وسع أي إنسان يود أن يعمق تواصله مع الناس أن يمارس "الجرافيتي"؛ ليبعث برسائل تصل بسرعة للشعب بأطيافه, وتسمح بالانتشار على الصعيد العالمي, فلا يقتصر "الجرافيتي" على النخبة المتميزة. وليس في الرسوم ما يشير إلى تعالى الفنان حول ذاته. فهو يرسم بأكثر الوسائل عادية, ويعرض عمله في حالته الطازجة دون ضرورة لإعادة ترتيبه،على أساس مبدأ تقريب الفن من باقي مجالات الحياة, والانفتاح على الآخر, بدلاً من التقوقع حول النفس حتى لا تصاب بالاكتئاب، فمع انتشار رسوم الشارع, لم يعد الفن مغترباً, ولم يعد متوجها للنخبة, ويضيق فجوة عزلة الفنان عن المجتمع والناس, مهما اختلفت ثقافتهم. وكذلك من غير المتوقع لهذا النوع من الفن أن يبقى للأبد وكأنه الأهرامات, إذ أنه ذو طبيعة وقتية وآنية مثل الأحداث الجارية, أو مثل اللحظات التي تعاش لمرة واحدة ومنها الحب الأول, ويمثل لحظة لا تنسى منذ الطفولة, لها تأثيرها الذي لا يمحى من الذاكرة. وفي الواقع أن الناس قد سئموا الإلحاح في تضخيم الذات من قلة من الفنانين المشهورين, ويتعاطفون مع رسوم الشارع كلما كانت قريبة منهم وتترك أثراً في ذاكرتهم. وفي كل الأحوال يمكن تعكس هويته وإنسانيته. ورغم سرعة تنفيذ الرسوم الجرافيتية, وافتقادها للصنعة الفنية وعدم إتباعها لنموذج, فإنها لا تفقد جاذبيتها, إذا شوهدت بعين الحدس والعاطفة فسوف تصل إلى القلب, وتحدث تاثيراً قوياً ومدهشً غير متكلف, ولا يمحى بمرور الزمن, حتى ظهرت تلك الرسوم مثل فوضى, تخلط الرقة بالخشونة مع مسحات هزل وتهكم ساخر, فتدعو للتفكير في أمور سياسية, وهي تشبه الحياة عندما تكون على طبيعتها. وقد أفسحت الأحداث المتغيرة مجالاً لتجديد الأسلوب, حتى يستوعب العمق النفسي والسياسي لتلك الأحداث. والرسم "الجرافيتي" يلبي نداء الحرية بممارسة العمل الفني كطقس تنفيسي مقدس في فضاء حي, وفي نفس اللحظة ونفس المكان, وفي جو احتفالي يتخطى الخطوط الحمراء التي فرضتها التقاليد والاشتراطات المهنية. فيتشكل الفن بطريقة قلبت التقنيات الفنية المستهلكة رأساً على عقب. ويتجاوز الرسم البعد المرئي ليتحول إلى أفكار وطاقات, تمثل موقفاً متمرداً بعنف, ويستثير في المشاهد الجوانب المستفزة. وبذلك أنتجت العشوائية ابتكارات مدهشة, تحرك المشاعر وتستثير الفكر. وكان الرسم "الجرافيتي" قد ظل قبل الثورة يشبه العمل السري, ينفذ في خمس دقائق, خوفاً من مطاردة الشرطة والسلطات التي تسرع إلى محوه, فلا يريدون تسجيل لحظات فارقة من تاريخ مصر. وفي الواقع أنه لا يهم أن تمحي الرسوم من على الحوائط, فإنها رسمت لتمحى, وما سوف يغيب عن العين, سيظل محفوراً في ذاكرة الأجيال, نظراً لصدق الرسالة ولقوة تأثيرها, وكذلك من الممكن أن تسجيلها بالفيديو وبالفوتوغرافيا. وإذا بقى الظلم ولم يتغير شيء، فسوف يستمر الغضب, وتتجدد الرسوم الجرافيتية الحرة لتنتشر في كل شوارع مصر, حتى تدرك السلطات قوة الفن الثقافية - التحريضية المؤثرة على عاطفة شعب عشق الحرية. وكل ما أنجزه الشباب الثوري, حصل على الاهتمام الدولي والاعتراف العالمي. والأمر المهم في الرسم "الجرافيتي" هو فرحة الرسم بإرادة حرة وتبعاً لاختيارات الرسام, دون الإذعان لأي إملاءات أو لأي هيمنة ملزمة. وما يحرك الفرشاة إنما الإحساس والفكرة التي تخمرت في الخيال, وكيف تنفذ هذه الفكرة لتتحول إلى رمز طاهر للتمرد على توحش الشر, وإلى رسم يجسد حلم الشباب بالحرية والمساواة. والرسم العفوي الحر لوجوه الشهداء الذين واجهوا الآلة الجبارة لقوات القمع يقنع من يراه؛ ولذلك يزعج السلطة التي تخشى موجة الغضب, فتحاول أن توقف تداولها بين الجموع, بالترويج لادعاءات تستخف بالجرافيتي, وتصفه بأنه مجرد "شخبطة" تشوه الحوائط والميادين. غير أن هذه الرسوم التي تمثل الحرية بأكمل معانيها, تخلط بين مجريات الثورة ومواقف الثوار الجريئة تجاه ما يعانوه, فتحولت إلى صور مدهشة نابضة بالحياة. والنمط الفني الجديد ثوري وديمقراطي, يناسب تماماً حالة الغليان, ويناسب التعبير العلني وسط الجموع, مهما اتسعت فجوة الاختلاف بينهم؛ لأنهم لا يخافون تبادل وجهات النظر, ويقبلون العيش بتسامح مع الآخر- المختلف.