رغم نجاح الثورة التونسية في تحقيق الهدف الذي انطلقت من أجله وهو القضاء على النظام السابق ، إلا ان مطالبة المعتقلين السياسيين في عهد الرئيس التونسي السابق زين العابدين بن علي بالتعويض عن فترة اعتقالهم تثير جدلا في تونس، لاسيما في ظل الوضع الاقتصادي الصعب الذي تمر به البلاد. غير أن تلك الانتقادات الواسعة لم تثن عددا من الجمعيات عن التأكيد على مطالبها بتعويض هؤلاء المعتقلين، في إطار ما يسمى بالعفو العام في تونس.
ويطالب آلاف من الإسلاميين المنتمين إلى حركة النهضة الذين تم الزج بهم في السجون في عهد الرئيس المخلوع زين العابدين بن علي بتعويضات "مادية" عن سنوات السجن.
العفو وعودة المعارضين
وكان أول مرسوم تبنته حكومة محمد الغنوشي هو قانون العفو العام، وتم بموجبه العفو عن كافة المعتقلين السياسيين من كافة التيارات السياسية التي كانت ممنوعة من العمل في عهد الرئيس التونسي السابق. ودعا القانون أيضا إلى ضرورة تعويض المعتقلين "ماديا على سنوات السجن أو النفي".
وكان من نتاج الثورة أيضا عودة رئيس الشبكة الأورومتوسطية لحقوق الإنسان كمال الجندوبي إلى تونس الذي لم يدخلها منذ عام 1994 ، وفي 18 يناير عاد المعارض التاريخي لنظام الرئيس السابق منصف المرزوقي ، كما عاد في 30 يناير زعيم حركة النهضة راشد الغنوشي.
التزام اخلاقي وقانوني
وطالبت رئيسة جمعية نساء تونسيات المختصة بالدفاع عن السجينات السياسيات السابقات، ابتهال عبد اللطيف، الدولة التونسية بالإعتذار بشكل رسمي للمعتقلين، والاعتراف بالظلم الذي وقع عليهم، مؤكدة أن هذه الخطوة تعد "دليلا عمليا على تغير ممارسات النظام الحالي عن النظام السابق".
وأضافت رئيسة الجمعية أن "قانون العفو العام قد تم إقراره ولا ينقص سوى تطبيقه"، مشيرة إلى أن "مسألة الاعتذار لن تكلف ميزانية الدولة أي شيء".
بدوره، أكد المتحدث باسم وزارة حقوق الإنسان والعدالة شكيب درويش، أن "مسألة تعويض المعتقلين السياسيين وجبر ضررهم التزام اخلاقي وقانوني على الدولة في العهد الجديد".
وأضاف أن "هذا التعويض يجب أن يخضع للمعاير الدولية لكي تتحقق العدالة الانتقالية"، غير أنه أشار في المقابل إلى أن "موارد الدولة في المرحلة الحالية لا تسمح بصرف التعويض المادي، لكن الحكومة قد أقرت مبدأ الانتداب الاستثنائي في الوظيفة العمومية من أجل توفير وظائف للمتضررين".
لكن القيادي في الحزب الجمهوري عصام الشابي رفض التعامل مع مبدأ صرف التعويضات ب"منطق الغنيمة"، موضحا أن "الأولوية في وقت الراهن هي تننمية الاقتصاد التونسي وفتح مجالات الاستثمار للتغلب على مشاكل البطالة، وهي من أبرز أسباب الثورة".
وأشار الشابي إلى أن مشاكل كثيرة تعترض تعويض المعتقلين، على رأسها صعوبة حصر أعداد المتضررين، حيث يتراوح عددهم ما بين 9 إلى 14 ألف متضرر.
وشدد على أن "أكبر تعويض هو تحرر البلاد من الدكتاتورية".
رد اعتبار
من جانبه أكد رئيس المجلس الوطني التأسيسي في تونس مصطفى بن جعفر حرص المجلس على "ردّ الاعتبار إلى كلّ المناضلين التونسيين وضمان التعويض المادّي والمعنوي عن حقبة الاستبداد" في عهد الرئيس المخلوع زين العابدين بن علي.
وقال :"إن التعويض يعد حقًا مشروعًا لكل المعنيين بالعفو التشريعي العام، وعلى المجموعة الوطنية أن تساعد المعنيين به على استعادة حقوقهم".
وأوضح رئيس المجلس التأسيسي أن قانون العفو التشريعي العام يجب أن يندرج في إطار قانون العدالة الانتقالية الذي تشرف على إعداده وزارة حقوق الإنسان والعدالة الانتقالية.
من جهة أخرى، أفاد بن جعفر أن التعويضات المادية للمتضررين يجب أن تحافظ على التوازنات المالية الكبرى للدولة.
ويثير مشروع قانون العفو التشريعي العام منذ مدّة جدلاً واسعًا بين النخب التونسية لا سيما وأن غالبية المعنيين بهذا القانون هم من مناضلي حزب حركة النهضة، الذي يقود الائتلاف الثلاثي الحاكم في تونس، الذين عانوا كثيرًا من استبداد الأنظمة السابقة، إذ ترى المعارضة في هذا القانون استنزاف لمقدّرات الدولة المالية لفائدة طرف سياسي بعينه.
متحف بدل معتقل
وبعد المطالبة بعدم تكرار عذابات سجن برج الرومي، امام السجن السيء الصيت، تم الاعلان عن قرب اغلاق هذا المعتقل الواقع في بنزرت شمال العاصمة التونسية، وتحويله الى متحف يقوم شاهدا على فظاعة ومعاناة اجيال من السجناء السياسيين لاكثر من 35 عاما.
وقررت وزارة العدل التي تشرف على سجون البلاد إغلاق سجن برج الرومي نهائيا بحلول يونيو/حزيران 2012 وتحويله الى متحف.
وأتاحت الوزارة لصحفيين ومنظمات غير حكومية وسجناء سياسيين سابقين، القاء نظرة أخيرة على هذا السجن سيء السمعة الذي بناه الجيش الفرنسي سنة 1932 وجعله حصنا عسكريا ثم حوله نظام الحبيب بورقيبة (1956-1987) وزين العابدين بن علي (1987-2011) إلى معتقل للمعارضين.
ويقبع في السجن اليوم 500 سجين (حق عام) في عنابر "اكثر انسانية" غير ان عدد العاملين في السجن بدا غير كاف وايضا تجهيزاتهم.
لحظة حرية
وقال نور الدين البحيري وزير العدل وعضو حركة النهضة الاسلامية التي تقود الائتلاف الثلاثي الحاكم في تونس، عند دخول السجن "إنها لحظة حرية، هذا رمز لوحدة جميع التونسيين بمختلف اتجاهاتهم السياسية ضد القمع والظلم". وقدم البحيري وهو سجين سياسي سابق، باقات ورود لشيوخ قضوا سنوات من أعمارهم في زنزانات سجن برج الرومي بسبب معارضتهم لنظامي بورقيبة وبن علي. ومن بين هؤلاء عروبيون ويوسفيون ويساريون عارضوا حكم بورقيبة وإسلاميون عارضوا حكم بن علي.
وكشف حسين بوشيبة رئيس جمعية الكرامة للسجين السياسي في تونس، عن وجود آلاف التونسيين الذين لم ينتفعوا من العفو التشريعي العام، وقال إنهم ما زالوا حتى الآن يطالبون بتفعيل القانون الصادر في 19 فبراير / شباط 2011، معتبرا أنه مرت سنة على صدور القانون دون أن يحصل المتضررون على تعويضات مادية ومعنوية عن سنوات من التعذيب والتضييق السياسي والاجتماعي.
وقال بوشيبة إن عدد المساجين السياسيين في تونس كان في حدود 33 ألفا زج بهم نظام زين العابدين بن علي في السجون في بداية عقد التسعينات من القرن الماضي. ونفى أن يكون جميع هؤلاء قد أسقطت بحقهم كل المتابعات القضائية، وقال إن من حقهم التمتع بكل حقوقهم المدنية والسياسية.
وقفة الغضب
وفي فبراير الماضي نظم مئات السجناء السياسيين السابقين برفقة عائلاتهم وقفة احتجاجية أطلق عليها اسم "وقفة الغضب"، أمام مبنى المجلس التأسيسي للمطالبة بتفعيل العفو التشريعي العام ورد الاعتبار لهم.
ورفعت خلال الوقفة شعارات تنادي بحقوق هذه الفئات الاجتماعية التي لم تتمكن بعد مرور سنة على صدور العفو التشريعي العام من الحصول على حقوقها. وتضمنت اللافتات شعارات على غرار "الكرامة يا سجين والإصرار على التفعيل"، و"كرامتنا في تفعيل العفو التشريعي العام"، و"لا للمتاجرة بقضية المساجين السياسيين".
وقالت زهرة المنصوري، زوجة سجين سياسي، إن كل أفراد عائلتها تعرضوا للظلم والتعذيب النفسي والجسدي بسبب انتماءاتهم السياسية والفكرية، وهي تطلب اليوم تعويضات عن الحرب النفسية التي شنت ضد كل أفراد عائلتها حيث تم منعهم من العمل خلال عقود من الزمن دون وجه حق، على حد تعبيرها.
وتنتقد منظمات حقوقية تونسية بطء تنفيذ قانون العفو التشريعي العام، وتقول إن الحكومات المتعاقبة لم تستطع إلى اليوم تفعيله بصفته استحقاقا أساسيا من استحقاقات الثورة.
وعلى الرغم من وصول حركة النهضة، ذات التوجه الإسلامي، التي يرجح أن معظم المتضررين من الاعتقالات هم من أعضائها، للحكم، فإن هذا القانون ما زال يواجه مصاعب متنوعة على مستوى التطبيق نتيجة امتناع جهات لا تزال تحتفظ بنفوذها في أجهزة الدولة عن تطبيق هذا القانون، وكذلك لغياب قانون خاص يتضمن نصوصا تطبيقية واضحة حول كيفية التعويض للمساجين السياسيين، وتصنيف الفئات التي تستحق مثل تلك التعويضات.