في الحلقة الثانية من مسلسل " فرقة ناجي عطا الله " طرح الكاتب الساخر والسيناريست يوسف معاطى علي سبيل التهكم إفتراضية درامية تجعل من عيد ثورة يوليو مناسبة مشتركة يحتفل فيها الجانب المصري بتل أبيب ممثلاً في السفارة المصرية مع الجانب الإسرائيلي بالحدث التاريخي العظيم كنوع من اللياقة الدبلوماسية والتفرقة بين البروتوكولات الضرورية والخلافات السياسية ! معاطي قدم هذه الرؤية بشكل يوحي بأن ما كتبه علي سبيل السخرية كان يحدث بالفعل أيام المخلوع أو كأنه كذلك وهو بهذا ربما يلمح إلي تطبيع العلاقات الرسمية القائم علي قدم وساق بين الدولة والكيان الصهيوني والذي لا ينقصه غير مشاطرتنا الإحتفال بأهم مناسباتنا القومية علي وقع أغاني عبد الحليم الثورية التي شكلت وجداننا ولعبت دوراً رئيسياً في التكوين الجمعي للجماهير برغم أنها لم تسلم أيضاً من تسفيه الكاتب وسخريته . كانت هذه جزئية جوهرية مهمة لفتت نظري في أحداث الحلقة الثانية ، ولتزامن التاريخ الحقيقي لإحتفالات ثورة 23 يوليو مع ما تطرحه الدراما السياسية رأيت أنه من الواجب الإشارة إلي المصادفة الغريبة ، خاصة أن اليوم أيضاً هو تاريخ قيام الثورة المجيدة ، وتجاهل الحدث التاريخي العظيم ليس إلا تفريطاً في ماضينا العريق وتبديداً لإنجازات ثورة فتحت الطريق أمام ثورات كثيرة في المنطقة العربية والإفريقية تحررت بفضلها الشعوب من إستبداد الطغاة والأباطرة . ما ورد في مسلسل يوسف معاطي وعادل إمام يعكس حجم الثورة " الأم " لدي الأعداء وإدراكهم ولو علي سبيل التخيل لقيمتها وقيمة زعيمها جمال عبد الناصر ورفاقه من الضباط الأحرار الذين حملوا رؤوسهم علي أكفهم يوم الليلة الموعودة .. هذا الإهتمام المفترض من جانب العدو بالثورة أشعرني بغُصه في قلبي وأنا أري بعين رأسي فتوراً يقترب من الإهمال لأول مرة منذ عام 52 ، حيث إنطفأت جذوة الحماس بالحدث الجلل فبات مجرد خلفية لا أكثر ولا أقل وهو ما كانت تقام له الإحتفالات وتعلن من أجله حالة الطوارئ القصوى بجميع وسائل الإعلام ولمدة أسبوع علي الأقل .. الآن وبفعل فاعل غابت هذه المظاهر ولم يتبق منها إلا ملامح هي ذراً للرماد في العيون ! قبل عدة سنوات كتبت في مجلة " الموقف العربي " مقالاً أشير فيه إلي عدم إحتفاء الدولة بالشكل اللائق يإنتصارات أكتوبر علي أثر ما صدر للنظام السابق من تعليمات عبر السفارة الإسرائيلية بالقاهرة بعدم المبالغة في التعبير عن الزهو بالإنتصار العسكري في السادس من أكتوبر من كل عام لأن ذلك يؤدي إلي إستفزاز الشعب الإسرائيلي ويعكر صفو العلاقات الدبلوماسية بين البلدين ويهدد عملية السلام ، نُشر هذا الكلام ولم تعلق سفارة الكيان الصهيوني عليه ، وبعد بضعة شهور فوجئت بشخصية سياسية مرموقة تؤكد ذلك علي الهواء مباشرة بأحد البرامج الشهيرة ، وقد عرضت علي الشاشة صورة من خطاب قالت أنه أُرسل بالفعل من السفارة الإسرائيلية إلي الخارجية المصرية تعرب فيه الأولي عن إنزعاجها من الإحتفالات الرسمية والشعبية بإنتصارات أكتوبر 73 وغيرها من المناسبات الوطنية . بعد هذا الإحتجاج الموثق لوحظ وبقوة تغيراً في شكل ومضمون الإحتفالات ولم يزد الأمر عن عرض فيلم بهذه القناة أو تلك من الأفلام التي تم إنتاجها في السبعينيات بعد الحرب ، وقد روعي أن تكون قصة الفيلم المعروض إنسانية أكثر منها حربية ودائماً ما كان يقع الإختيار علي فيلم " بدور " أو " العمر لحظة " لأن كلاهما لا يمجد الحرب بشكل مباشر . أخذت تواريخ الإنتصارات في بلدنا تمر مرور الكرام حتي أن يوم العاشر من رمضان وهو الذكري الثانية لعبور خط بارليف وتحطيم أسطورة الجيش الذى لا يقهر إنطوي في غياهب النسيان وتشاغل عنه النظام الفاسد فلم يعد يمثل شيئاً بالنسبة للأجيال الجديدة التي لم تعاصر الحرب ولم تكلف نفسها عناء البحث عن خصوصيتها وملابساتها وأهميتها . إلي هذا الحد إستطاع مبارك وحاشيته أن يجرفوا التاريخ ويحرثوا أرض الوطنية ويبذروها من جديد لتنبت نباتاً شيطانياَ ليس به ما يشي بإخضرار الحياة ، ولولا ثورة 25 يناير التي قامت في موعدها تماماً لتمكن سدنة النظام المخلوع من محو الذاكرة بالكامل لنظل أمه بلا ماضي ولا حاضر ولا مستقبل ، فآفة الضعفاء شطب تاريخ الأقوياء فلكي تبدو مارداً لابد أن يكون كل من حولك أقزام .
مسلسل آخر لعب علي وتر السياسة والوطنية وبدت حلقاته الأولي مبشره هو مسلسل " الهروب " للكاتب والسيناريست بلال فضل والبطولة لكريم عبد العزيز فهناك تنويع علي أحداث الثورة وكلام مباشر وغير مباشر عن حسني مبارك وجهاز أمن الدولة وممارسات ما قبل الإنهيار والتنحي وكلها إشارات ترصد ملامح المناخ الذي عاشت فيه مصر ثلاثين عاماً . يتجلي دور الدراما في مثل هذه الظروف فمن خلالها يتم التوثيق التاريخي للأحداث الجسام بالصوت والصورة فتصبح دليلاً دامغاً علي المرحلة بكل تفاصيلها ودقائقها ، فلا يخطئ القادم بعد سنوات طوال في تحديد ملامحها السياسية والإجتماعية والثقافية ولا يضل الطريق إلي المعرفة . لقد ساهمت أفلام مثل رد قلبي وغروب وشروق في التعرف علي مقدمات وبوادر ثورة يوليو وأسبابها وكذلك إكتشفنا تضحيات الفدائيين في حرب 48 من خلال فيلم " في بيتنا رجل " وغيره من الأفلام الأخري ، كما أننا عشنا بطولات حرب الإستنزاف في كثير من الأعمال منها ما هو تسجيلي وما هو روائي ، ولعل فيلم " يوم الكرامة " الذي صُنع خصيصاً لتوثيق هذه الحرب كان إسماً علي مسمي . وفي السياق نفسه لا يمكن أن ننسي التحفه الفنية للمخرجة الكبيرة إنعام محمد علي " الطريق إلي إيلات " ، فهذه كلها علامات ودلالات ووثائق لإنتصارات زعيم ثورة يوليو وقائد مسيرتها .