القاهرة - أ ش أ : تحتفل مصر بالذكرى ال60 لثورة 23 يوليو عام 1952 فى ظل نسائم الحرية التى أفرزتها ثورة 25 يناير عام 2011 وانتخاب أول رئيس مصرى فى انتخابات ديمقراطية حرة ونزيهة وهو ما يؤكد عمق التواصل بين الثورتين رغم اتساع الفارق الزمنى بينهما وهو 60 عاما. عاشت مصر ثورتين تلاحم فيهما الشعب مع الجيش ، والجيش مع الشعب ضد الظلم والطغيان والفساد، وبين ثورتى 23 يوليو و25 يناير شهدت مصر خلالها انتصارات وانتكاسات وانجازات وأخفاقات وتغيرت أوضاع ونشأت أجيال خرجت تدعو الى نفس المطالب والأهداف التى طالبت بها ثورة يوليو وهى الحرية والعدالة الاجتماعية والعيش الكريم لأبناء الشعب. الثورة الأم قامت بها نخبة من رجال الجيش وأيدها الشعب، والثورة الوليدة قام بها الشعب كله وحماها ورعاها الجيش .. عظمة ثورة يوليو أن قائدها جمال عبد الناصر وعظمة ثورة يناير أنها بلا قائد..كان شعار يوليو / ارفع رأسك ياأخى عاليا فقد مضى عهد الاستعباد ، وكان شعار يناير أرفع رأسك فوق أنت مصرى .. رفعت ثورة يوليو ثلاثية الحرية / الأشتراكية / الوحدة العربية .. ورفعت ثورة يناير ثلاثية الحرية / الكرامة / العدالة الأجتماعية .
واذا كانت حركة الجيش المباركة فى 23 يوليو قد تحولت الى ثورة شاملة استمدت شرعيتها واستمرارها من الشعب الذى ألتف حول مبادئها وتبنى أهدافها، فأن انتفاضة الشباب وحركته المباركة فى 25 يناير قد تحولت الى ثورة شاملة أيضا استمدت شرعيتها من التفاف الشعب حولها وأيمانه بمبادئها وحماية جيش مصر لها وتبنيه لأهدافها والتزامه بتحقيق هذه الأهداف.
وفى كلتا الثورتين كان شعب مصر هو الهدف وكان رفع الظلم عنه وتحقيق طموحاته وأماله فى الحرية والديمقراطية والكرامة على رأس الأولويات للطليعة الثورية التى تحملت أمانة المسئولية. لقد شكلت ثورة 23 يوليو المرتكز الرئيسى لثورة 25 يناير بأفكارها وتوجهاتها وهو ماتجلى ليس فقط فى رفع صور الزعيم الراحل جمال عبد الناصر بشوارع وميادين مصر خلال الثمانية عشر يوما التى أمضتها الجماهير منادية بسقوط مبارك بل فى الشعارات التى تبناها المتظاهرون
ويمكن القول ان المشهد المصرى قبل 23 يوليو كان متقاربا الى حد كبير مع المشهد قبل 25 يناير .. لقد أنطلقت ثورة يوليو من بين صفوف الجيش المصرى يتقدمها شباب الضباط الأحرار ومن واقع شديد السوء سعت الى التخلص منه، وتحرير الشعب وقد تمثل ذلك فى النظام الفاسد لحكم اسرة محمد على الذى كان يقوم على الاقطاع والرأسمالية او ماكان يطلق عليه مجتمع النصف فى المائة الذين كانوا يحكمون وهم الذين كانوا يستولون على كل الثروات فى حماية القوات البريطانية، وكان فساد نظام الملك فاروق وحاشيته وفشله فى تحقيق حلم الشعب المصرى فى التحرر من الاستعمار، ثم هزيمته فى حرب فلسطين عام 48، كما لم يفلح النظام فى دعم حركة الكفاح المسلح التى انفجرت فى القناة، وأخيرا كان حريق القاهرة فى 26 يناير عام 52، كل هذه التطورات السابقة كانت تؤذن بتفسخ النظام الذى أهتز وتحلل وأصبح الكل يشعر بصوت زلزال الثورة يقترب .. وأيضا جاءت ثورة 25 يناير بعد أن بلغ الظلم مداه فى ظل حكم الرئيس السابق حسنى مبارك والذى لم يتمكن مرة من قراءة بوصلة الشارع التى ظلت تعانى من القهر السياسى والأمنى والاجتماعى، ونخبة سياسية زاوجت بين السلطة والثروة.
واذا كان جيش مصر القوى والقادر على حماية البلاد قد عزل الملك فاروق فى 23 يوليو ، ففى 25 يناير أسقط نظام مبارك . ويرى المحللون السياسيون أنه مهما اختلفت الأراء حول ثورة يوليو 52 وماحققته من انتصارات أو اخفاقات وما انجزته على أرض مصر الا انه لايوجد خلاف على انها جعلت مصر لأول مرة منذ أكثر من ألفى سنة يحكمها أبناؤها المصريون وانها نقلت الحكم من الملكية الى الجمهورية، كما انها جاءت كضرورة فرضتها الظروف والتطورات السياسية والاجتماعية فى مصر فى ظل الرفض الشعبى للاحتلال والرغبة فى تحقيق السيادة الوطنية والتطلع الشعبى للحرية والاستقلال وتحقيق العدالة الاجتماعية فى ظل حياة ديمقراطية سليمة.
وفى هذا الاطار كان الحرص من جانب ثوار يوليو على صياغة أهدافها فى بيان قيامها واستطاعت تحقيق الجزء الأكبر من المبادى الستة الشهيرة لأهدافها والتى شملت التحرر والاستقلال والقضاء على الاقطاع وسيطرة رأس المال على الحكم وتحقيق العدالة الاجتماعية واقامة جيش وطنى قوى وحياة ديمقراطية سليمة .
واتخذت ثورة 23 يوليو العديد من الاجراءات والقرارات لتحقيق اهدافها فنجحت منذ البداية فى طرد الملك وحلت الأحزاب السياسية، وتم ابعاد طبقة كبار الملاك الذين أفسدوا الحياة السياسية بعد صدور قانون تحديد الملكية الزراعية ب200 فدان للفرد ثم 100 فدان للأسرة فى 9 سبتمبر 52 أى بعد شهرين من قيام الثورة.
ثم اعلان الجمهورية فى 18 يونيو 53 واعادة تشكيل لجنة مصادرة أموال وممتلكات اسرة محمد على فى 8 نوفمبر 53، وتوقيع اتفاقية الجلاء بالأحرف الأولى فى يوليو عام 54 مرورا بالقرار التاريخى بتأميم قناة السويس فى يوليو عام 56 وهو القرار الذى حقق الاستقلال التام لمصر وذلك بعد احجام البنك الدولى عن تمويل بناء السد العالى، وبدء العمل فى مشروع السد العالى عام 1960 الذى يعد من أهم ايجابيات ثورة 52 فى نظر العديد من المراقبين والذى ظل حلما يداعب خيال المصريين لأنه لم يكن فقط رمزا لمعركة انتصار ضد الذين أرادوا تحجيم نمو مصر وانما أنقذ ملايين الفلاحين فى صعيد مصر من حالات غرق مئات القرى فى كل فيضان، كما ضاعف من التيار الكهربائى لمواجهة حركة التصنيع الكبيرة التى أنتشرت فى بقاع مصر، ثم قوانين يوليو الاشتراكية عامى 1961 و1964 لقطاعات واسعة فى جميع المجالات.
وأقامت الثورة مصانع الحديد والصلب ومصانع الألومنيوم من أجل تطوير الصناعات الثقيلة ، وأقيمت المصانع الحربية لسد حاجة الجيش المصرى من الأسلحة والذخائر وكانت نتيجة بناء تلك القلاع الصناعية فتح أبواب العمل أمام الملايين من أبناء مصر فى كل المجالات الصناعية والخدمية وكانت مصر من أولى الدول النامية التى فكرت فى امتلاك التكنولوجيا النووية ، فأقامت المفاعل النووى فى أنشاص الذى تخرج منه علماء مصريون فى مجال الذرة ، كذلك نفذت الثورة مشروعات لتصنيع الطائرات فى مصر بعد أن أقامت مصانع السيارات فى وادى حوف .. ثم كان الميثاق الوطنى فى 21 مايو 1962.
كما اهتمت الثورة بالتعليم ومجانية التعليم التى فتحت الباب أمام جميع أبناء الشعب المصرى للمشاركة فى بناء نهضة علمية وتعليمية.
واهتمت ثورة يوليو بالعلاقات الخارجية فى دوائر ثلاثة عربية واسلامية وأفريقية فانفتحت مصر على العرب وأصبح جمال عبد الناصر رمزا لكرامة العرب من المحيط الى الخليج وساندت مصر ثوار تونس والجزائر والمغرب.
واعتبرت الثورة قضية فلسطين قضية مصرية وعربية ولعبت دورا بارزا ومستمرا فى عرض القضية الفلسطينية أمام المحافل الدولي وساعدت مصر فى انشاء حركة فتح ثم منظمة التحرير الفلسطينية عام 1964 ..وتبنت الثورة فكرة القومية العربية وحلم تحقيق الوحدة بين شعوب الوطن العربى.
وأصبحت مصر قبلة المجاهدين الأفارقة الأوائل الذين جاءوا الى القاهرة ليصبح منهم رؤساء للدول الأفريقية الحديثة بعد جلاء الأستعمار، كما كانت الرابطة الأفريقية بالقاهرة ملتقى لشخصيات مثل نكروما، وسيكتورى ولوممبا وغيرهم من الشخصيات التى ترأست دولا فى ذلك الوقت وساندت الثورة الدول الأفريقية فى تحقيق استقلالها.
وكان دور مصر الثورة مشهودا له فى قيام منظمة الوحدة الأفريقية عام 63 وأستمر دورها أيضا فى قيام الاتحاد الأفريقى عام 2002. كما أصبحت الثورة رمزا لكل الحركات التحررية فى أسيا وأفريقيا وأمريكا اللاتينية ، وحرص جمال عبد الناصر على أحداث تقارب بين دول أسيا وأفريقيا لتوحيد فكرهم نحو الاستقلال والرخاء والتنمية ومن هذا المنطلق كان الحياد الايجابى الذى انطلق فى مؤتمر باندونج عام 1955 بحضور 29 دولة أسيوية وأفريقية ، وتمخض عن مؤتمر باندونج حركة عدم الانحياز التى عقدت مؤتمرها الأول عام 1964 فى بلجراد.
وكانت نشأة حركة عدم الانحياز لمواجهة تحديات الامبريالية العالمية مثل الولاياتالمتحدة والكيان الصهيونى المتمثل فى اسرائيل الذى حاول ربط مصر بالأحلاف وانتهاج نظام تابع ولكن عبد الناصر رفض وتحدى الامبريالية وخرج منتصرا من مواجهاته مع القوى الكبرى مما دفعها لضرب الثورة بنكسة 67، ولكن الشعب المصرى وقف خلف عبد الناصر الذى قام ببناء الجيش المصرى من جديد استعدادا لمعركة الكرامة واسترداد الأرض وتحقق حلمه بعد أن رحل عندما انتصر الجيش فى اكتوبر 73 .
ويرى المراقبون ان ثورة يوليو استطاعت تحقيق الجزء الأكبر من مبادئها الستة الشهيرة ولكنها لم تستطع ان تحقق حتى وهى فى ذروة مدها ومجدها اقامة حياة ديمقراطية سليمة لأسباب متعددة بعضها نتيجة التحديات الخارجية والبعض الأخر نتيجة صراع السلطة بين مراكز القوى فى مختلف مراحل الثورة.
لكن من ناحية أخرى اجمع المراقبون على أن الثورة وضعت بذرة الحياة الديمقراطية باصدار دستور 1956 الذى نص على اقامة الاتحاد القومى ثم حل محله الاتحاد الاشتراكى بعد ست سنوات ثم اصدار بيان 30 مارس عام 1968.
إلا أن الثورة بأنجازاتها العظيمة كانت لها أيضا سلبيات اعترف بها جمال عبد الناصر نفسه بها بعد نكسة 67 وأوردها صراحة فى بيان 30 مارس 1968 وأهمها أن الثورة عجزت عن أن تنشىء تنظيما شعبيا يحمى مبادئها وينتصر لأفكارها ويضمن الأحتفاظ المستقبلى لحلمها المشروع ، وبالتالى فعظمة عبد الناصر أنه كان مدركا لهذه الحقيقة ولكن لم تسعفه الظروف فى أن يستكمل بناء هذا التنظيم.
ان ثورة يوليو موجودة ومبادئها مازالت قائمة وأحلامها مازالت ملهمة، ولكن بفكر جديد وصياغة جديدة ومنهج جديد يرتكز على تعدد الرؤى وحرية الابداع تحت رايات الديمقراطية التى أصبحت الأن متاحة فى ظل ثورة 25 يناير2011 .