انتقد دكتور إبراهيم البيومي غانم أستاذ العلوم السياسية بجامعة الإمارات ومركز البحوث الاجتماعية والجنائية حكم المحكمة الدستورية العليا التي قضت بعدم دستورية قرار الرئيس محمد مرسي بعودة البرلمان من جديد. وقال أن من ينادي باحترام هذه المؤسسة وقراراتها وعدم جواز انتقادها يحول تلك المؤسسات إلى صنم، ويطالب الجميع بالطواف حوله وعدم المساس به، لافتاً إلى أن تلك المؤسسة ستحظى بالاحترام الكامل حين تكون مؤسسة قانونية تحترم القانون ولا تثير قراراتها الريبة. جاء ذلك خلال ندوة "رؤية للدولة العميقة ..أطراف وتشابكات" التي استضافتها دار الحكمة مساء أمس، انتقد كذلك الباحث بطء مؤسسة الرئاسة في اتخاذ قراراتها، لافتاً إلى أن الشعب يحتاج إلى تطمينات. وقال غانم أن الرئيس مرسي لا ينبغي له الإكثار من السفر للخارج في هذه المرحلة إلا إذا كانت هناك ضرورة ملحة كعودة المعتقلين. كما حذر الباحث مؤسسة الرئاسة من أن ترتيب الدولة العميقة يحاول تحطيم برنامج الرئيس الذي وعد بتحقيقه خلال المئة يوم الأولى من رئاسته. وفي محاولة منه لتعريف الدولة العميقة، أكد غانم أن مصطلح الدولة العميقة مصطلح متداول في الخطاب السياسي بمناطق متعددة في العالم في بعض دول أمريكا اللاتينية، وكذلك في بريطانيا فهو موجود بديمقراطيات راسخة وأخرى ناشئة، ومن ثم هو مصطلح ليس له جنسية إنما هو مصطلح رحال. ونفى أستاذ العلوم السياسية أن يكون مصطلح الدولة العميقة وليد ثورة يناير، إنما هو موجود من قبلها ، والدولة العميقة ليست تنظيماً سرياً خارجاً عن القانون، لكنها ظاهرة موجودة في الأنظمة الديكتاتورية، كذلك الدولة العميقة ليست جماعة انقلابية لأنها لو كانت كذلك لسهل أمرها إما تنجح او تفشل فيقضى عليها. كذلك هي ليست فئة خارجة أو باغية، فالدولة العميقة سلطة موازية لسلطة الدولة القانونية تتحداها أحياناً وتتعامل معها أحياناً أخرى، كذلك الدولة العميقة ليست كما يشاع عنها مرادفة لدولة المخابرات والأجهزة الأمنية التي تطلع على أسرار المواطنين بحجة الدفاع عن الدولة. فالدولة الأمنية هي جزء من الدولة العميقة، التي تعد شبكة من المصالح الاقتصادية، يربط بين أعضائها عقيدة سياسية يتشاركون فيها جميعاً، لهم انتماءات وتوجهات سياسية أيضاً، وأعضاء تلك الشبكة عناصر تنتشر في مؤسسات دولة القانون نفسها، قد يكون استاذ أكاديمي أو نائب برلماني، أو قاض أو وزير أو محافظ، أو إعلامي كبير. لذلك هم خلايا سرطانية قد لا يعرفون بعضهم بعضاً، لكنهم يعتبرون أنفسهم قادة التغيير ودعاة المدنية. ويلفت البيومي إلى أن الدولة العميقة حين تشعر بخطر يهدد مصالحها أو حين لا تستطيع تحقيق أهدافها تصبح غير عقلانية لتحافظ على مصالحها وتواجه خصومها، فهي لا تملك مرجعية أخلاقية تستند إليها، في تركيا مثلا كانت تلجأ إلى الاغتيالات، وتوظف الإعلام لخلق إشاعات تسمم الرأي العام. وليس أدل على فقدان الدولة العميقة لرشدها كما يقول الباحث من موقعة الجمل، وكان هو الظهور الأول للدولة العميقة في مصر ثم تكرر الحدث في ماسبيرو ومجلس الوزراء وبور سعيد، فهي تفعل ما تشاء وتحرك أدواتها وقت الخطر. تابع قائلاً أنها من الممكن ان تتحول إلى حزب سياسي عند تهديد مصالحها، فقد عقدت المحكمة الدستورية في مصر اجتماعاً طارئاً بعد إعلان قرار الرئيس مرسي بعودة مجلس الشعب، وهذا الاجتماع خارج عن القانون. ومع ذلك يرى البيومي أن السبب في طفو عناصر الدولة العميقة الآن والفجاجة التي يتحدث بها رموزها مع رئيس الدولة تعود إلى أن تغير المناخ الذي تعيش به هذه الدولة، وشبّه الأمر بغرفة ملئية بالحشرات رطبة، تتعرض لضوء الشمس وفجأة تبدأ تلك الحشرات في الهروب والجري وهذا ما يفسر ظهورهم بهذا الشكل الآن، مؤكداً أن انتفاض الدولة العميقة ناتج من التئام الشرعية بالشعبية، فعناصر تلك الدولة تكره المجالس النيابية ولا تطيق البرلمان، حيث تظن تلك العناصر أنهم فقط من يملكون كل شئ ويتحكمون في أمور العامة. لذلك هم يتمسكون بشكلية القانون دون مراعاة مصالح البلد واستقرارها، ولا يرون غضاضة في تولى جنرالات المجلس العسكري التشريع، فهم لا يريدون سيادة إرادة الشعب بل يريدون الوصاية عليه. كشف البيومي في ورقته عن مخطط الدولة العميقة في تركيا والخطة التي وضوعوها من أجل الحفاظ على مصالحهم هناك، وللعجب تشابهت هذه الخطة في كثير من بنودها مع ما يحدث في مصر، فمثلاً يستهدف المخطط في تركيا إدخال أسلحة وذخائر إلى المؤسسات الدينية، ثم مداهمتها والقبض عليهم باعتبارهم جماعات عنيفة، كذلك شن حملة اعتقالات واسعة داخل الجيش لملاحقة الضباط المتدينين، الإعلام له دور أيضاً في ذلك المخطط فهو يشيع أن اليونان تتآمر على تركيا، وباتالي يلتف الشعب حول الجيش، وتنفر وسائل الإعلام الشعب من المتدينين وتروج أن الإسلاميين في تركيا سيحولونها إلى طالبان جديدة. ويكشف أستاذ العلوم السياسية أن عقيدة الدولة العميقة في مصر ليست راسخة، لكنها مؤخراً تحددت في دعاة الدولة المدنية، ورغبتهم في عزل مصر عن العالم العربي والإسلامي، وإبقاء مصر في وادي النيل فقط، بالإضافة إلى توثيق صلات مصر بالعالم الغربي وعلى رأسه أمريكا وإسرائيل، كذلك التحالف مع العسكر والاستقواء بهم لتعويض الرفض الشعبي، بالإضافة إلى إثارة مشكلات متتالية واصطناع أزمات. أما عن سياسات الدولة العميقة في مصر فتتمثل في الاستئثار ومركزية الثروة والنهب والفساد لتركيع الشعب المصري والقضاء على إرادته. لم يكتف الباحث بعرض المشكلة، إنما عرض سبل مواجهة الدولة العميقة التي لم تستطع تركيا عبر عشر سنوات من المواجهة أن تقضي عليها، لاحتلال عناصر تلك الدولة مناصب رسمية، لذلك يرى البيومي أن الاعتماد على المنطق القانوني وحده في مواجهة الدولة العميقة أمر غير فعال، لكن أهم سبل المواجهة كما يشير يتمثل في تدرج المواجهة، وتفتيت الولاءات الداعمة للدولة العميقة ولنبدأ برجال الأعمال الذين عادة ما تكون ولاءاتهم لمصلحتهم الاقتصادية، وإذا تم كسبهم في تحالف مع دولة القانون، سنقضي على أهم أعمدة الدولة العميقة. ثم الالتفات إلى الجيش والأمن وتطهيرهم، وتعديل قانون تشكيل المحكمة الدستورية العليا، مثلما فعلت تركيا التي جعلت البرلمان يشترك في تعيين عدد من أعضائها، وأن تصبح مدة أعضائها 12 عام فقط غير قابلة للتجديد. يتفاءل بيومي كثيراً بالقادم قائلاً أن الدولة العميقة في مصر لا مستقبل لها، والقضاء عليها أسهل بكثير من نظيرتها في تركيا، لأنها فقدت كثير من أدواتها في الداخل، كذلك عناصرها عبثيون ومفردات خطابهم دونية، فمثلما يوجد توفيق عكاشة في الإعلام - حيث يخلو حديثه من الرزانة والاحترام - هناك عكاشة في كل مؤسسات الدولة ومن ثم هذا التدني في الخطاب يسهل من مهمة القضاء على هذه الدولة وعناصرها. وطالب أستاذ العلوم السياسية بضرورة خروج اجتهادات فقهية جديدة تكشف كيفية التصدي للدولة العميقة، فمثلما يوجد لدينا تراث هائل في كيفية التعامل مع البغي على الحاكم، نحن بحاجة إلى وجود مشروع فقهي رئاسي لمواجهة الدولة العميقة. وقد شارك في الندوة الدكتور مازن النجار الكاتب الفلسطيني ورئيس مجلس تحرير صحيفة "التغيير" الالكترونية وأكد بدوره أن الدولة العميقة مصطلح تركي أكثر منه عربي، وضح في التجربة التركية التي بها قدر ضخم من التشابكات بين المؤسسة العسكرية وقيادات المجتمع المدني ورجال الأعمال، يسمح بإطلاق هذا التعبير على الدولة التركية منذ بدايتها عام 1924. يواصل: هناك دائماً حالة من الجدل والاشتباك بين المركز وهو المؤسسة العسكرية، والأطراف وهي محاولات قيام أحزاب مدنية ذات صبغة ليبرالية. الدولة العميقة كما أشار إليها النجار لا تخدم الشعب إنما تخدم ذاتها، ولا تتعامل بشكل إنساني مع الفرد، وتعتمد في تضخمها على تقليص حرية الفرد.