جاءت دعوة خادم الحرمين الشريفين الملك عبدالله بن عبدالعزيز خلال اجتماعات الدورة ال 32 لمجلس التعاون لدول الخليج العربية في الرياض، للانتقال من مرحلة التعاون إلى مرحلة الاتحاد ، لتدشن بداية مرحلة تاريخية مهمة في مسيرة العمل المشترك بين دول المجلس الذي بدأ في مايو 1981. وقد استندت هذه الدعوة إلى ما نصت عليه المادة الرابعة من النظام الأساسي لمجلس التعاون بشأن تحقيق التنسيق والتكامل والترابط بين الدول الأعضاء في جميع الميادين وصولا إلى وحدتها. ويتكون الإطار المؤسسي "للاتحاد" من هيئة متخصصة مشتركة تضم أعضاء من دول مجلس التعاون الست بواقع ثلاثة أعضاء لكل دولة ، تقوم الدول الأعضاء بتسمية ممثليها في موعد أقصاه الأول من فبراير 2012 ، وتقدم الهيئة تقريرا أوليا في شهر مارس 2012 إلى مجلس وزراء الخارجية في دورته الأولى، لرفعها لقادة دول مجلس التعاون وترفع الهيئة توصياتها النهائية إلى اللقاء التشاوري الذي يعقد في يونيو من كل عام. ولا شك أن هذه الدعوة قد أثارت مجموعة من التساؤلات بشأن ماهية هذا الاتحاد وأي الأشكال الأنسب للواقع الخليجي ومبررات الدعوة له والفرص والمعوقات المطروحة أمامه. واقع الأمر أن دول مجلس التعاون الخليجي وهى بصدد فكرة تأسيس اتحاد فيما بينها ، فإنها أمام أحد خيارين ، أحدهما إقامة اتحاد فيدرالي ، والخيار الآخر إقامة اتحاد كونفدرالي. فيما يتعلق بالنظام الفيدرالي فإن أهم أمثلته أمريكا ، وكذلك الإمارات كتجربة عربية. وفي هذا النظام من أنواع الاتحاد فإن الدول المنضوية فيه تفقد شخصيتها وسيادتها الدولية لصالح الاتحاد الفيدرالي .. وتتم إدارة شئون الاتحاد إلى قوانين ودساتير داخلية بموافقة الأغلبية. ويتميز الاتحاد الفيدرالي بعدم إمكانية الدول المشاركة فيه الانفصال عنه، بل يمكن اللجوء إلى إجراءات لإرغامها على البقاء وإن تطلب ذلك استخدام القوة ، كما يتسم النظام الفيدرالي بوجود حكومة فيدرالية ؛ وهى حكومة مركزية تتولى إدارة شئون الاتحاد، وكذلك الحال بالنسبة للبرلمان الذي يجب أن يمثل كافة الدول المشاركة في الاتحاد. وإذ تحتفظ الدول بقوانينها المحلية في النظام الفيدرالي ، لكنها تسري عليها القوانين الفيدرالية التي يجب ألا يكون هناك أي تعارض بينهما ، كذلك هناك إمكانية لاحتفاظ المواطنين بجنسيتهم ، أو يمكن استحداث جنسية واحدة تمثل الاتحاد نفسه. أما النظام الكونفدرالي ، حيث تحتفظ الدول المشتركة في الاتحاد بشخصيتها القانونية دوليا ، وتتمتع بكافة مظاهر السيادة .. وهذا النوع من الاتحاد يتطلب الحصول على موافقة جماعية في حالة إبرام معاهدة بين دوله ، ويسمح النظام الكونفدرالي لجميع الدول الأعضاء بالانفصال عنه في أي وقت. ويستند النظام الكونفدرالي على تشكيل مؤسسة تدير شئون الاتحاد ، ويمكن استحداث مؤسسة تمثل كافة الدول الأعضاء ، ولكن ليس لها صفة البرلمان .. وتتخذ القرارات فيه بالإجماع ، ولا تتم إلا بموافقة الدول المشتركة فيه ، وعادة ما تحتفظ كل دولة من الدول في الاتحاد الكونفدرالي بجنسيات مواطنيها دون أن تكون هناك جنسية مشتركة. وإذا كانت ملامح وشكل الاتحاد الخليجي المقترح لم تتضح حتى الآن ، ومازالت مشروعا يتم تشكيل لجنة من الخبراء لدراسته ، وتقديم تصورات بشأنه ، بحيث يتم عرضها على أعضاء المجلس الأعلى لمجلس التعاون لدول الخليج العربية ، فالأقرب إلى التركيبة الخليجية ، هو أن يكون هناك اتحاد مقارب لشكل اتحاد الإمارات ، بحيث يكون هناك حاكم واحد، ووزارة داخلية وخارجية واحدة لجميع الدول، مع وجود حكم فيدرالي لكل دولة ، إضافة إلى إلغاء الجمارك والسماح للخليجي بالعمل في جميع الدول بصفته مواطنا لهم جميع المميزات. وفي حقيقة الأمر ، جاءت الدعوة للتحول إلى إقامة اتحاد خليجي مرتبطة بعدة متغيرات داخلية وإقليمية ودولية فرضت نفسها وبقوة على الساحة الخليجية وجعلت صانع القرار الخليجي يدرك أهميتها. فعلى المستوى الداخلي ، وجدت دول الخليج بعد 30 عاما على إنشاء المجلس أنها لم تحقق كافة تطلعات المواطن الخليجي ولم تحقق التكامل الاقتصادي ، وإذا كانت دول المجلس بدأت خطوات نحو الاتحاد من تنفيذ مشروع منطقة التجارة الحرة عام 1983 والتي بموجبها ألغيت كافة الرسوم الجمركية بين دول المجلس على البضائع ذات المنشأ الوطني. ثم بدأت المرحلة الثانية من التكامل الاقتصادي الخليجي عام 1999 بإنشاء الاتحاد الجمركي الذي تم تطبيقه فعليا اعتبارا من مطلع 2003. وبدأ المجلس خطوات نحو إقامة السوق الخليجية المشتركة من أبرزها ضمان حرية التنقل والإقامة لمواطني دول المجلس ، ومنحهم معاملة متساوية في الدول الأعضاء، وحرية حركة رؤوس الأموال، بالإضافة إلى حرية التملك والاستثمار .. إلا أن كل هذه الخطوات لا يمكن الاعتماد عليها في إقامة اتحاد اقتصادي أو حتى سياسي بين دول المجلس. وتأسيسا على ما سبق ، فإنه يتوجب الإسراع بعملية التكامل الاقتصادي التي من شأنها أن توجد أساسا راسخا لأي جهود تكاملية آخرى بل إنها ستجعل من دول مجلس التعاون قوة ذات وزن وتأثير سياسي واقتصادي عالمي. أما على المستوى السياسي والأمني ، أدركت دول الخليج أنها ليست بعيدة عن ثورات الربيع العربي في مصر وتونس واليمن وليبيا وسوريا ، وإذا كانت دول الخليج قد استجابت لمطالب المحتجين بتقديم رزمة من الحوافز الاقتصادية ، إلا أن الجرعات التي قدمتها سياسيا من خلال التحديثات السياسية في بعض هياكلها ليست كافية ولم تحقق درجة الإشباع لدى قطاع كبير من المواطنين. وأمنيا .. لم يحقق مجلس التعاون الخليجي أمن دوله بالشكل الذي يتناسب وتغير موازين الأمن في المنطقة ، وذلك بالنظر إلى اعتبارين ، الأول : أنه إذا كانت السياسات الدفاعية والأمنية هى حق سيادي للدولة فإن "المصير المشترك" لدول المجلس يتطلب نوعا من المرونة والتنسيق وبخاصة بشأن ضرورة تكامل الأسلحة التي تحصل عليها دول المجلس ، حيث لوحظ أن دول الخليج كانت الأعلى إنفاقا على التسلح في العالم العام الماضي ، بيد أن سياستها في هذا الشأن لم تكن تكاملية. الاعتبار الثاني .. أنه بالرغم من جهود دول المجلس للارتقاء بقوات درع الجزيرة لتؤدي الدور المناط بها فإنها لم تلامس طموحات المواطن الخليجي الذي لطالما تطلع إلى تكوين جيش موحد وهى الفكرة التي طرحتها في السابق سلطنة عمان ، وبما يعني أن إنشاء تلك القوة لم يتجاوز الدلالات "الرمزية" وصولا إلى "رؤية استراتيجية" بعيدة المدى لتطويرها حتى تكون سياجا واقيا لدول المجلس التي تقع ضمن محيط إقليمي مضطرب. وعلى المستويين الإقليمي والدولي ، تجد دول الخليج نفسها أمام تحديات أمنية كبيرة بعد الانسحاب الأمريكي من العراق وما ترتب عليها من صراعات بدأت تظهر بقوة من صراع بين السنة والشيعة وأصبح العراق مساحة مستباحة من جانب إيران، فضلا عن الطموحات النووية الإيرانية التي تزعج الخليج ، وليست المناورات الإيرانية في مضيق هرمز والتي بدأت في الرابع والعشرين من ديسمبر الجاري وتستمر عشرة أيام ، إلا تأكيدا للتهديدات الأمنية الإيرانية لدول الخليج. فضلا عن انشغال الإدارة الأمريكية بوصول الإسلاميين في عدد من دول الربيع العربي إلى سدة الحكم وهو ما يجعل إدارة أوباما تعمل على توظيف هذه التحديات لخدمة أهدافها الانتخابية ، ولخدمة الاستراتيجية الأمريكية في منطقة الخليج. ومع الإدراك والوعي الكاملين من جانب دول الخليج للتطورات والأحداث التي تشهدها منطقة الشرق الأوسط عامة والخليج خاصة ، تبقى فكرة الدعوة لإقامة الاتحاد الخليجي مرهونة بالفرص والمعوقات. فمع التسليم والقناعة بأن مسيرة التعاون خلال ال 30 عاما الماضية لم تحقق كافة تطلعات الشعوب ، إلا أن ثمة فرصا حقيقية تدفع في اتجاه إقامة مثل هذا الاتحاد أبرزها ، أن طبيعة التكوينات الجيوسياسية والثقافية للمنطقة تلائمها صيغة "الاتحاد" أكثر من صيغة "التعاون"، إذ إن الأخير يجعل الباب مواربا للمزيد دوما من المماطلة والتجميد بغية التحلل من خسائر "تنازلات" التعاون والتنسيق المشترك .. فيما تبدو صيغة "الاتحاد" أكثر صرامة في الالتزام بالاتفاقات المشتركة .. وبعبارة آخرى ، فإن التزامات "التعاون" اختيارية ، بينما التزامات "الاتحاد" إجبارية. فضلا عن طبيعة الظروف المحيطة بالمنطقة من الربيع العربي والخريف الإيراني والشتاء الأمريكي والصيف العراقي بعد الانسحاب الأمريكي وما قد يستتبعه من تناحر طائفي لن تكون دول الخليج بمنأى عنه وانتهاء بالحالة اليمنية التي لم تشهد توافقا بين أطيافها السياسية بعد بالرغم من اضطلاع المملكة العربية السعودية بدور مهم في إنهاء الأزمة من خلال المبادرة الخليجية في هذا الشأن ، بما يعني أن المجلس مطالب الآن وأكثر من أي وقت مضى بإيجاد آليات للامتداد الإقليمي قبل الحديث عن ضم أطراف آخرى مع أهميتها بيد أنها لا تمثل تهديدا حاليا لدوله. ومع بلورة الشكل المؤسسي للاتحاد الخليجي المقترح، فإن ثمة دورا ومسئوليات أكبر للمؤسسات الخليجية ، في مقابل تراجع دور المؤسسات الوطنية .. وهو ما يعني إعطاء هوية الوحدة مساحة أكبر من الهوية القطرية الضيقة. ولا شك أن ذلك المسعى يتطلب أن يكون هناك مفوض خليجي يمثل الاتحاد الخليجي في مجال السياسة الخارجية ، ومفوض للشئون المالية والاقتصادية ، ومفوض لشئون التجارة الخارجية .. إضافة إلى التنسيق على مستوى أعلى في المجالات العسكرية والأمنية ، مما يتطلب أن يكون هناك مؤسسات تشريعية على مستوى دول المجلس ، كالبرلمان أو مجلس الشورى الخليجي. ويبقى التأكيد على أن نجاح دول مجلس التعاون الخليجي في تحقيق هذا الإتحاد سيعتمد بشكل كبير على قدرتها على إعطاء التفويض في هذه المجالات لمؤسسات خليجية ذات سلطة عليا ، وقرارات نافذة على مستوى دول الاتحاد الخليجي. وفي النهاية يبقى نجاح إقامة هذا الاتحاد مرهونا بالاتفاق الخليجي على شكل وتنظيم الهيئة المقترحة وتولي الوظائف القيادية فيها وطبيعة اتخاذ القرارات وآليات تنفيذها وطبيعة الجزاءات التي توقع على المخالف وطريقة تمويلها بالشكل الذي يتلاءم مع طبيعة الظروف الراهنة.