أبيات للشاعر الفلسطيني العالمي محمود درويش، تمس واقع أكثر من 1500 أسير مكبل في سجون الاحتلال الصهيوني. وامتنع مئات منهم كلية عن الطعام قبل أكثر من شهر فيما عُرف ب "إضراب الكرامة" في تصعيد يرهن زهرة شباب المقاومة بتحرك عاجل وجاد ، يفيق الساكنين ويهز الضمائر ضاغطا على إسرائيل كي تعاملهم "إنسانيا" على الأقل، بعد أن اغتصبت أرضهم! كان محمود درويش صادقا حين كتب عنهم "ونحن نحب الحياة اذا ما استطعنا اليها سبيلا" فالسبيل بات مضنيا في ظل قهر إسرائيلي وصمت وخذلان عربي يصل للتواطؤ أحيانا . وفي قصيدته "رد الفعل" بشرهم بنهاية المغتصب وقال : يا دامى العينين والكفين إن الليل زائل لا غرفة التوقيف باقية ولا زرد السلاسل نيرون مات ....ولم تمت روما بعينيها تقاتل! وحبوب سنبلة تموت ستملأ الوادى سنابل........! الأمر جد خطير؛ وتحفل الذاكرة بصور شهداء سقطوا ضحية الإضرابات المفتوحة بمعتقلات إسرائيل، ومنهم علي الجعفري وراسم حلاوه ، وسبقهم عبدالقادر أبوالفحم الذي شارك بإضراب السبعينات رغم إصابته بسجن عسقلان، وظل مطلب هؤلاء بسيطا "تحسين ظروف الاعتقال" ، ناهيك عن مئات المرضى بأمراض مختلفة نجمت عن الامتناع عن الطعام في كل الإضرابات الماضية. واليوم تنتظم مسيرات بعواصم عربية عدة بفلسطين وتونس ولبنان وبعض العواصم الأووبية يوميا لنصرة الأقصى، كما تنتشر حملات ومبادرات على شبكات التواصل الاجتماعي بينها مثلا "مي وملح" للتعريف بإضراب الكرامة، في رمزية لاستخدام المضرب مياه وملح منعا لفساد أعضائه نتيجة غياب التغذية. وبادر نشطاء بإغلاق مقر الأممالمتحدة في رام الله مؤخرا للضغط على الاحتلال بشأن الأسرى. فتحنا نقاشا مع عدد من المبدعين العرب والفلسطينيين بالأخص باعتبارهم ضمير شعبهم وأمتنا حول ما يمكن فعله من مبادرات لإيصال صوت أسرانا ومطالبهم العادلة للعالم ووقف ساعة الرمال الرهيبة التي تتسرب حباتها تدريجيا لتفاجئنا بكارثة مروعة، خاصة والذاكرة تحفل بأسماء من راحوا ضحية الإضرابات المفتوحة من قبل. التضامن لا يكفي وحده يقول الشاعر الفلسطيني جهاد أبوحشيش : أكثر من شهر مر على إضراب الكرامة، وكأن الأمر لا يعني المشهد العربي العام، ربما كما قال أحدهم قديما نحن نحب البطولة لكننا لا نحب أن نكونها، نصفق لها ونهرب منها. ويقر صاحب دار "فضاءات" بحالة العجز الذي يعاني منه المشهد العربي سياسيا واقتصاديا وثقافيا والذي يبتلع كل شيء، حتى بتنا نلمس ذلك الإحساس الذي يشبه إحساس الموتى ليس لدى المثقف فقط، الذي قد يكتفي بالصراخ والشجب حاله حال الأنظمة العربية، وحتى لو كان صادقاً في رغبته بالوقوف والتغيير فإن إحساسه بالعجز يجعله يمضي مرتبكا دون أن يقوم بما هو مؤثر على هذا الصعيد. كان من المفترض منا جميعاً ومنذ البدء الالتفاف حول الأسرى بلجان محلية وعربية وعالمية، من أجل تحصين مسار الإضراب. بعيدا عن الشعارات التي قد تجر إلى أفعال عبثية لا أكثر ولا أقل، ووضع منهجية متكاملة لدعمهم كل في مجاله، ويعتقد جهاد أبوحشيش أن الاكتفاء بجملة "أنا متضامن" غير كاف. وإن كان الشاعر لا يزال يرى إمكانية لتنسيق عربي ضاغط يدفع أحوال الأسرى والقضية عموما للتحسن. إنهم يذكروننا بعجزنا لا يملك الشاعر الفلسطيني موسى حوامدة "وصفة ناجعة" لكسر حاجز الصمت تجاه الأسرى وتجاه أساس قضية الأسرى وهي اغتصاب فلسطين، مشيرا الى أن الأسرى يدفعون أجسادهم وأرواحهم اليوم – وهي آخر ورقة لديهم- لتذكيرنا بعجزنا وفشلنا كمثقفين عرب وفلسطينيين عن ممارسة دورنا الحقيقي والنضالي المأمول سواء على صعيد حقوق الفرد أو حقوق الجماعة أو مواجهة الظلاميين والهمجيين والفسادين وكل أشكال القمع والتعتيم وكل هذه الممارسات السلبية التي تجري يوميا في عالمنا العربي . وقد منعت حالة الانقسام الكبيرة "الشروخات" كما يصفها الكاتب الفلسطيني، ومعاناة أهل الشتات، وإيمانه بأن التأييد العربي للقضية الفلسطينية يقف على حافة التأييد فقط دون اتخاذ مواقف تهز ضمير العالم المغيب، منعته تلك الأزمات من التفاعل بالكتابة مع إضراب الأسرى، يؤكد :"ربما لشعوري بفداحة الوضع واحساسي بالعجز العربي الشعبي والرسمي " وبالتالي، يرى "حوامدة" عدم إمكانية لكسر حاجز الصمت دون اقناع مثقفي العالم أن هناك قضية عادلة وإنسانية تواجه الشعب الفسلطيني الرازح تحت الاحتلال وان القضية الأساس هي الاحتلال الذي يبرع يوميا في مصادرة الأرض وخنق حرية الفلسطيني داخل المعتقلات وخارجها ، وإقناعهم بأن الصراع الأول مع الحركة الصهيونية أساس كل خراب في العالم العربي وان الخراب المتوالد عربياً يساهم في إطالة أمد الأسر والاغتصاب. دربوا أنفسهم على الأمل هكذا تنظر بيسان عدوان، الشاعرة الفلسطينية صاحبة دار "ابن رشد" لمأساة الأسرى الفلسطينيين، والذين تدربوا على الأمل رغم الويلات . وتعتقد أن أوان المبادرات الثقافية والإعلامية يمكن أن يكون قد انتهى! وتؤمن الشاعرة بأنه "حين يستخدم الأسرى الورقة الأخيرة في المعركة.. أجسادهم.. فإن المعركة لا رجعة منها وكل يوم يمر يصبح الضرر والأذى الشخصي غير قابل للتصليح.. أعضاء الجسد تبدأ بالتوقف والتلف. يعي الأسرى الذين يتخذون قرار الإضراب هذا الأمر.. لكنهم يتخذون قراراهم عن قناعة ووعي.. حيث اسُتنفذت كل الوسائل العادية والتي سبقت هذه الخطوة.. " وكي تنجح الإضرابات نحتاج "عناية الله" - تقولها بإحباط شديد- بعد يأسها من التحركات الصغيرة التي لا ترقى لهبة عربية شعبية، والأهم موقف حازم من القيادة الفلسطينية خارج السجون "المحسوبة علينا قيادة" سواء تلك التي تجلس في السلطة الفلسطينية "قيادة أوسلو" والتي ترى مهمتها الأسسية بكيفية الحفاظ على وضعية التفاوض المستمر مع اسرائيل.. أو غيرها مما يسمى بقيادات.. حين لا تنجح هذه الامور خارج السجن فإن سلطة السجون تضرب بيد من حديد بالأسرى وتستهزأ بهم وبإضرابهم.. ولا يحقق ساعتها الاضراب أهدافه.. قضية إنسانية أولا متى نستطيع إيصال صوت قضيتنا للعالم ؟ سؤال تعتقد د. زينات ابو شاويش الشاعرة وأستاذ الإعلام الفلسطينية ، أن إجابته مفتاحها بإمكانية صنع إعلام عربي مؤهل أخلاقيا للتعامل مع القضايا الانسانية بعيدا عن الأطر الايدلوجية أو المحكات الإثنية ،حينها سينتصر الإنسان لأخيه الانسان. وتتساءل رئيس تحرير شبكة فلسطين: أين قضية فلسطين من وسائل الإعلام العربية ومن ثم أين قضية الأسرى؟ إننا بصدد مبادرات فردية؛ فنحن لا نمتلك منظومة إعلامية يمكن من خلالها أن نطالب بحقوقنا المشروعة التي شرعها واقرها لنا القانون الدولي والانساني ويمكن بقراءة بسيطة للمقارنة بين الإعلام الإسرائيلي وبين الإعلام العربي والفلسطيني أن نرى مفارقات شاسعة في كل شيء. نحتاج – كما تؤكد شاويش- لنشر قصص إنسانية حول معاناة الأسرى داخل سجون الاحتلال؛ على سبيل المثال لا الحصر هناك أسرى فلسطينيين لديهم محكوميات تصل إلى مئات الأعوام، ناهيك عن معاناة الأسرى في منع الزيارات عنهم وسوء المعاملة، وتشوية قضيتهم من جانب وسائل الإعلام الإسرائيلية سلاح "النسيان" وهو أشد ما يخشى منه الشاعر المصري فتحي عبدالسميع صاحب ديوان "الشاعر والطفل والحجر" والمؤمن بأن القضية الفلسطينية أم الجراح العربية. فالعدو قد لا ينهي المعركة بالرصاص، طالما الصدور العارية تقاومها، وحجارة الأطفال تندفع أمام الدبابات والمدرعات بجسارة . لكن الصمت العربي المريب والتواطؤ الدولي يسعى اليوم لجعل المأساة "حدثا عاديا يوميا" وعابرا يمكن نسيانه ، وهو ما يجب أن نلتفت إليه. يقول الشاعر أننا نعيش كمثقفين ومواطنين حزنا فرديا، لا توجد خيوط لتحويله لوقفة واصطفاف حقيقي يصنع تغييرا . ولكنه لا يفقد الأمل فالشعر والكلمة والحق والإنسانية ستبقى مهما زادت قوة التدمير والإفساد والمصالح السياسية المتجردة من القيم حولنا . إنه أمر مؤسف أن تتضامن شعوب العالم مع قضية فلسطينية وتذهب أنظمة عربية للتفاوض والتصالح الجزئي مع المعتدين، وهو ما يجعلنا نحن أصحاب الشأن مفرطين في قضيتنا فنهون بنظر العالم . شهر مروع يطالب الأسرى المضربين بإنهاء سياسة الاعتقال الإداري، وإنهاء سياسة العزل الانفرادي، وإنهاء سياسة منع زيارات العائلات وعدم انتظامها، وإنهاء سياسة الإهمال الطبي، وغير ذلك من المطالب الأساسية والتي كانوا قد حققوا بعضها بإضرابات سابقة . وأوردت هيئة شؤون الأسرى والمحررين ونادي الأسير الفلسطيني ما مفاده بأن عشرات المضربين تم نقلهم للمستشفيات "المدنية" بحسب وصف الاحتلال، فيما نُقل الأسير حافظ قندس إلى مستشفى "سوروكا"، بعد إصابته بنزيف داخلي. وأعلن الأسير مروان البرغوثي توقفه عن شرب الماء ، فيما ظلت سلطات الاحتلال تمارس قهرها على المعتقلين وتمنع عنهم زيارات المحامين أو الأهل ، لا سيما قيادات الإضراب. شرعت إدارة سجون الاحتلال بسلسلة إجراءات رداً على إضراب نحو (1500) أسير فلسطيني، وتمثلت بحملة تنقّلات للأسرى المضربين ولقيادة الإضراب، كنقل الأسيرين مروان البرغوثي وكريم يونس من سجن "هداريم" إلى عزل "الجلمة"، مصادرة ممتلكات المضربين وملابسهم والإبقاء على ما يرتدونه فقط، وتحويل غرف الأسرى إلى زنازين عزل، وإقامة مستشفى ميداني في صحراء النقب لاستقبال الأسرى المضربين ورفض استقبالهم في المستشفيات المدنية، وحجب المحطات التلفزيونية المحلية والعربية عنهم. نفذت قوات القمع التابعة لإدارة مصلحة السجون، اقتحامات وتفتيشات مكثفة في أقسام الأسرى المضربين عن الطعام، ففي سجن "نيتسان" الرملة، استخدمت قوات القمع الكلاب البوليسية، كما صادرت الملح و القرآن الكريم منهم، وشوهدت رضوض بالوجه والرأس إثر تعرض بعض المعتقلين للعنف، كما تعرض آخرون لهجوم بالغاز داخل محابسهم، ولاقى معتقلون عمليات مصادرة للملح ومنع من التريض . وواصل قادة الاحتلال، عبر تصريحاتهم، التحريض على الأسرى، والدعوة لتركهم حتى الموت، وكان آخرهم تصريح عضو الكنيست أورين حازان الذي قال في مضمون تصريحه: " السجون مليئة ولم تعد تتسع، ولكن هناك مكان تحت الأرض".! وتنتهج إدارة السّجن سياسة النقل المستمرّة داخل السّجن، إذ لا يستقر أسير في غرفة لأكثر من ثلاثة أيام. ووحدات قمع السجون "الدرور" و"المتسادا" و"اليماز" لا تفارق السّجن، وتقوم بتفتيشات واقتحامات على مدار السّاعة. وفي الزيارة الأولى للأسرى المضربين بسجن "نيتسان" منذ بدء الإضراب قالوا: إدارة السجن تحتجزهم في قسم مهجور، والغرف عبارة عن زنازين لا تتوفر فيها أدنى شروط الحياة الآدمية وتنعدم فيها النظافة. أما إدارة عزل "نيتسان الرملة" فحرمت الأسرى من ضوء الشمس بعد أن منعتهم من الخروج للفورة وغطت الشبابيك وبالطبع يزداد قمع البرغوثي وسعدات وهما من قيادات الإضراب، بإجراءات منها الضوضاء المستمرة المهيجة للأعصاب منعا لأي نوم و الإنهاك الشديد والتعريض للشمس الحارقة، ما من شانه مضاعفة معاناتهم الأصلية بعد حرمانهم من أساسيات الحياة. وأكد عميد الأسرى الفلسطينيين كريم يونس خلال رسالة وجهها من عزله بسجن "أيلون" الرملة "أن مندوبين عن مخابرات الاحتلال حاولوا فتح (مفاوضات) وهمية وعبثية تهدف إلى إفراغ المعركة من مضمونها مقابل وعود فارغة وجمل إنشائية لا تملك أي رصيد". .. درويش يخاطب الأسرى : في السجن اسرى محبتهم في اليوم أكبر عاما في هوى وطني فعانقوني عناق الريح للنار.