اكتسبت الزيارة التي اختتمها رئيس الوزراء العراقي نوري المالكي مؤخرا لواشنطن أهمية كبيرة كونها تأتي عشية إتمام الانسحاب الأمريكي من العراق في 31 ديسمبر الحالي وفقا للاتفاقية الأمنية الموقعة بين واشنطن والحكومة العراقية عام 2008. وظهرت أهمية الزيارة في استقبال الرئيس الأمريكي أوباما لنوري المالكي في مقر "بلير هاوس" المواجه للبيت الأبيض، وهو مخصص للحلفاء، إلى جانب عقد اجتماعات مطولة معه. ويعكس تصرف واشنطن وعدم إصرارها أو خوضها جدالات سياسية مع حكومة المالكي في منح حصانة للجنود الأميركيين، ثقة واشنطن بأن العراق يحتاج إليها أكثر مما تحتاج إليه. كما عكست نتائج الزيارة وموافقة واشنطن على بيع بغداد طائرات أف 16، إلى جانب الاجتماعات الاقتصادية للمالكي مع رجال أعمال أمريكيين، الموقع الاستثنائي الذي تحظى به في رسم الشراكة الاستراتيجية في المرحلة المقبلة. كان جو بايدن قد قام بزيارة للعراق في التاسع والعشرين من شهر نوفمبر المنصرم لوضع أسس الاستراتيجية الأمريكيةالجديدة في العراق، وقد ناقش بايدن ملفات على درجة كبيرة من الأهمية مع الساسة العراقيين كمحاولة لتخفيف الضغط على الموقف الأمريكي جراء أكثر من ثمان سنوات من الفشل المتلاحق على صعيد السياسة الخارجية متمثلا بتراجع الدور الأمريكي ليس في منطقة الشرق الأوسط فحسب بل في مجمل القضايا العالمية، في ظل احتدام الجدل والصراع حول موضوع الانسحاب الأمريكي ومشروع الفيدراليات ومستقبل العملية السياسية في العراق. ويعد جو بايدن المنظر لمشروع تقسيم العراق إلى ثلاث مناطق أطلق عليها "فيدراليات" في عام 2007، إذ زار بغداد ثلاث مرات، سبقت وأعقبت الانتخابات البرلمانية التي جرت في 7 مارس 2010. الأولى كانت عقب إعلان قوائم الاجتثاث عشية الانتخابات لمنع بعض المرشحين من الترشح، والثانية كانت عقب الانتخابات غير الحاسمة، والاختلاف حول القائمة الفائزة أو الكتلة الأكبر، أما الثالثة فجاءت مترافقة مع سيناريو المرحلة الأولى من الانسحاب الأمريكي من العراق، والتي أكد خلالها على أن شراكة واشنطن مع بغداد هي شراكة استراتيجية طويلة الأمد، وأن واشنطن ملتزمة بذلك حتى بعد انسحابها من العراق. ناهيك عن أن هناك استراتيجية سرية بين واشنطن والحلف الأطلسي "الناتو" في العراق، وتسمى ب "استراتيجية رد الجميل" أي قيام حلف الأطلسي بالتوغل السري والناعم داخل العراق، وبتنسيق مع أطراف عراقية حاكمة، وبحجج التدريب والتعليم وغيرها، ولكن الهدف هو رد الجميل للولايات المتحدة في ليبيا، حيث لعبت واشنطن دورا داعما لحلف الناتو خلال الأزمة في ليبيا، لذا سوف يكون هناك تنسيق مباشر بين هذه القوات "الأطلسية" المتغلغلة في العراق بشكل ناعم، وبين السفارة الأمريكية في بغداد من جهة، وبين غرفة العمليات الأطلسية الأمريكية في تركيا وبتخويل أمريكي للأتراك بأخذ زمام المبادرة والقيادة عند الضرورة ودون الرجوع لواشنطن، والهدف منع الهيمنة الإيرانية على العراق والخليج من جهة، ومحاولة طرد إيران وبحرب ناعمة من العراق وصولا لسوريا والخليج، لتتفرغ إدارة أوباما الى الورقة الأفغانية. ثمة عدد من المخاطر والتداعيات السلبية للانسحاب العسكري الأمريكي من العراق على كافة الأصعدة الأمنية والسياسية وتزايد حدة مطالب الانفصال والصراع على السلطة والثروة والنفوذ. فعلى المستوى الأمني: هناك وجهتا نظر، الأولى، تأزم الوضع الأمني أكثر من ذي قبل لان الثقل الذي كان للقوات الأمريكية في مساندة القوات العراقية قد زال ، وبالتالي فان مهمة القوات الأمنية العراقية باتت صعبة ومربكة مما يعطي مجالا اكبر للجماعات الإرهابية والعصابات المسلحة ان تتحرك بمساحة أوسع وبشكل اكثر حرية. في حين ترى وجهة النظر الثانية أن بقاء القوات الأمريكية بالعراق هو العامل المؤثر في عدم قدرة القوات الأمنية العراقية على مسك زمام الأمور واثبات قدرتها على إدارة الملف الأمني في عموم البلاد وان من كان يؤثر في عملها هو التدخل من قبل القوات الأمريكية الأمر الذي أربك عمل القوات الأمنية العراقية ولم يعطها الفسحة الكاملة في إظهار مقدرتها على مجابهة الأمور. وأيا كانت المبررات، فإن الذي لا شك فيه أن الانكشاف والفراغ الأمني الذي تتركه القوات الأمريكية، سيعطي الجماعات الارهابية والمليشيات المسلحة مزيدا من الحرية مستندين على ان اغلب مفاصل الدولة الأمنية "الجيش والشرطة" تدار على أساس المذهب أو الطائفة أي أن أغلب القيادات الأمنية في الملف الأمني خاضعة لضغوطات أو صفقات مع جهات خارجية بالشكل الذي تمليه تلك الجهات، الأمر الذي ينذر بحدوث أزمات، هذا من جانب ومن جانب آخر فان هناك تخوفا كبيرا لدى الحكومة العرقية من وجود مخططات إقليمية لدعم جهات داخل العراق للقيام بأعمال إرهابية قد تصل الى مستوى الانقلابات العسكرية والحكومية "والتصفيات الجسدية" ولا ريب أن التنازع السياسي الحالي في العراق وسياسة التخوين بين قياداته أو بين الكتل ستنمي حالة التخندق وفقدان الثقة وانعزال كل طائفة عن الاخرى وانحيازها لمن يخاطبها على اساس المناطقية او الهوية المذهبية وهذا الاختلاف السياسي هو عامل تأزيم للوضع الامني في المستقبل. ويمكن القول أن إنهاء الوجود العسكري الأمريكي في العراق، ربما يحولها إلى نموذج كلاسيكي للدولة الفاشلة، أولا بسبب فرار مئات الآلاف من اللاجئين إلى إلى دول الجوار، والتأثيرات السلبية التي تترتب على عدم الاستقرار في منطقة الشرق الأوسط. وثانيا أن عدم وجود القوات الأمريكية قد يؤدي إلى شرارة اشتعال حرب سنية شيعية إقليمية تتجاوز حدودها وسط وجنوب العراق. أما في المناطق الشمالية من العراق، حيث الأغلبية الكردية، فإن الاحتمال المفترض في حال انسحاب القوات الأمريكية من العراق، فهو انتهاز الأكراد هذا الفراغ الأمني والعسكري لإعلان استقلالهم عن العراق العربي. وهو الأمر الذي من شأنه أن يستفز تركيا وإيران وسوريا ويدفع هذه الدول إلى اتخاذ إجراء عسكريا للقضاء على العناصر الإرهابية من الأكراد، ومنع قيام دولة كردية مستقلة. ويعد الصراع السياسي على النفط أبرز تحدي في مستقبل المشهد السياسي العراقي، إذ يعاني العراق منذ العام 2003 مشكلة صراع سياسي داخلي بهدف السيطرة على الوزارات السيادية، بخاصة النفط، فضلاً عن صراع آخر بين الحكومة المركزية وحكومة كردستان على محافظة كركوك، التي تملك ثلث النفط العراقي، وثالث مع المحافظات على صلاحيات تنفيذ المشاريع، ناهيك عن مشاكل أخرى تتعلق بالبطالة التي تتجاوز بحسب تقارير الأممالمتحدة، 30 في المئة من المواطنين، إلى غياب وجود بنى تحتية، وملف الديون الخارجية الذي لم يحسم بعد، وملف التعويضات وتفشّي الفساد في أغلب قطاعات الدولة. وتأسيسا على ذلك لن يكون النفط مصدر صراع بين مختلف القوى السياسية العراقية، بل سيكون مطمعا للكثير من الدول التي ستسعى حتى إلى التحكم بالسياسة الداخلية للبلاد على ضوء أن الاحتياط النفطي العراقي، بحسب الدراسات، يكفي العراق نحو 163 عاما. ومن هنا تنبع أهمية العقود التي أبرمتها الحكومة العراقية مع شركات نفط عالمية لتطوير القدرة الإنتاجية للنفط بحيث تصل 12 مليون برميل يوميا بحلول 2017. اجمالا يمكن القول أن الانسحاب العسكري الأمريكي من العراق يدشن بداية مرحلة جديدة من تاريخ العراق سياسيا وأمنيا واقتصاديا، ويضع منطقة الشرق الأوسط برمتها على المحك السياسي بما تحملها هذه المرحلة من تحديات وفرص للعراق كدولة وللمنطقة ككل. ** مركز أبحاث ودراسات الشرق الأوسط