في كل إنسان قمة عليه أن يصعدها وإلا بقي في القاع العجز ليس لمن فقد جزءا من جسده، بل لمن فقد جزءا من حلمه... نورة تتحدى ضابطا صهيونيا ب "ابتسامات كليمنجارو" وحشية الصهاينة تطارد الفلسطينيين ببيوتهم ومزارعهم .. وأحلامهم زمن التسويات يدفع مناضلي الأمس لصحبة الفاسدين والمتاجرين بالأرض الطبيبة أروى لغسان : أنت في دارك بلغت قمة سعينا إليها عبر الجبال! رسالة فلسطين من سطح إفريقيا: كلما أطفأتم شمعة .. نشتعل كل يوم تطالعنا أخبار التوسع في المستوطنات الصهيونية على حساب الأراضي والبيوت الفلسطينية العربية . أمس فقط كانت الأرقام تشير لجرف 12 منزلا و8 منشآت زراعية بقرية أم الحيران، حيث استشهد فلسطيني برصاص الشرطة قبل بدء عملية هدم المنازل لصالح مستوطنة "عمونا". هذا الخيط الكابوسي الذي نعيشه يلتمسه الكاتب الكبير إبراهيم نصر الله، يروايته "أرواح كليمنجارو" ليحول حلكته لنور باهر عبر إرادة أطفال فلسطين ممن بُترت سيقانهم ومع ذلك أصروا على الصعود لرفع شارة النصر من سفح أعلى قمة بإفريقيا .. ومن جبل كليمنجارو بتنزانيا صاح أحد قادة حركة التحرير: سنوقد شمعة على قمة الجبل لتضيء خارج حدودنا وتعطي الشعوب الأمل في وضع يسوده اليأس، الحب في وضع تسوده الكراهية، والإحساس بالكرامة في وضع يسود فيه الإذلال.. " وكما يكتب "نصر الله" : "بعد سنوات يأتي أطفال فلسطينيون يصعدون القمة منشدين بقوة الأمل : كلما انطفأت شمعة .. نشتعل " رواية "أرواح كيمنجارو" حازت مؤخرا جائزة "كتارا" للرواية العربية، وهي صادرة عن دار "بلومزبري – قطر" نوفمبر 2015. وقد صاغها الشاعر والروائي الفلسطيني البارز من وحي تجربة حية خاضها في صعود جبل كليمنجارو دعما لصندوق "إغاثة الأطفال الفلسطينيين" بنهاية 2013. كان يدرك قيمة الرسالة التي يمكن أن تمنحها شارة الأطفال للكيان الصهيوني بأن وحشيته لن تكسر أرواحهم وإن طالت أجسادهم البريئة فجعلتهم بلا أرجل أو عيون أو ثقبت أعضاءهم برصاصها الهائج. الرحلة الواقعية والروائية شارك فيها أبطال من جنسيات وخلفيات ثقافية متفاوتة، صعدوا بأجساد عاجزة وقلوب جريحة في مشهد إنساني حقيقي وسط عالم قاسٍ . نصر الله يتوسط أبطال كليمنجارو الواقعيين ارتفاع القمة عشرون ألف قدم تقريبا، حيث يتلاشى الطقس السهلي المحيط بالجبل تدريجيا مع كل خطوة في طريقهم للقمة الثلجية في ستة أيام سوف يعبر الصاعدون خمس مناطق مناخية مختلفة، بدءا بالاستوائية، مرورا بالألبية الصحراوية العالية، وصولا إلى القطبية. تسعة أيام، ستة صعودًا وثلاثة نزولاً. مليئة بتغيرات المناخ شديد القسوة ونقص الأكسجين والعطش والتعب والإرهاق والخوف، والإعاقة الجسدية المريرة للفلسطينيين يوسف ونورة.. ولكنهم انتصروا . ليس المهم الصعود كفعل في حد ذاته لقمة تعد من أعلى قمم العالم الجبلية، وإنما إدراك فلسفة الصعود، ألا وهي التسامي واختبار الإرادة وتخطي الماضي بكل آلامه والاختلاء بحقيقة النفس والعالم.. الماضي يثقل الروح اختلف طاقم الفريق في دافع كل منهم للصعود، كما اختلفوا بماضي كل منهم؛ هناك مثلا "ريما" خبيرة التسويق التي تعيش بدبي وصاحبة الفكرة .. كانت قد فرغت لتوها من صفقة ناجحة ثم توقفت وصدمتها الأفكار عن مغزى الحياة فقررت ترك كل شيء والبحث عن ذاتها في قمم الجبال العالية. ياسمين (نورة بالرواية) تهزم الألم بابتسامة و "سوسن" الأردنية الفلسطينية الفطرة النسائية العربية الطيبة، فيما تمنت "سهام" المصرية أن تنجب ابنا وتمنحه روح الجبل العظيم. "أروى"طبيبة فلسطينية تعيش بكندا، وقد اكتسبت نجاحات هائلة، ولكنها قاست الغربة المريرة وشاهدت كيف يموت عمها الكاتب الكبير وحيدا هناك بلا أثر . وهي متطوعة ومتفانية بلا حدود لعلاج الحالات الصعبة للأطفال الفلسطينيين. ويشبهها أيضا "إيميل" وهو لبناني يعمل بشركة نفط خليجية عالمية بالخارج، وقد قرر ترك بلاده بعد مآسي الحروب الأهلية بالجنوب . أما "هاري" فهو كاتب أمريكي ظل خاضعا لابتزاز سيدة تمنحه المال فيما قلبه معلق بسواها، وكان محبا للمغامرة والكتابة عن الحروب، كان قد فكر بالمشاركة بعد توحده مع بطل رواية "ثلوج كليمنجارو" لهيمنجواي، وهو الذي لم يتمكن من مغادرة سفح الجبل لمطاردة الماضي إياه! ظل يخبيء معاناته مع غرغرينا قديمة ألمت بساقه وكادت تفقده إياها بإحدى رحلات تسلقه للجبال ، ولكن مشهد الأطفال المصرين كان يزيده صمودا. ويأتي "جون" كنموذج إنساني لرجل وصحفي أمريكي تموت زوجته الفلسطينية مخلفة إياه ابنتين، فيلتحم بالقضية تماما حتى يصير فلسطينيا حقيقيا، تطارده قصص الأطفال المشوهين بفعل آلة الحرب الغاشمة الإسرائيلية، فيكتب ويكتب، ولكنه يعجز عن الكتابة عن مأساة زوجته! سنرى "جيسيكا" الفلبينية الأصل والتي تعيش بأمريكا، والتي أقنعها مديرها بالعمل بالرحلة ثم تخلى عنها في اللحظات الأخيرة ، و"نجاة" طالبة الماجستير السعودية. كل هؤلاء يأتون كظل يستمد وهجه الحقيقي من الأبطال الحقيقيين، والذين يمثلهم بالرواية ثلاثة أطفال ؛ الأول "غسان" والذي نشاهده بكل مراحل صعود كليمنجارو بعينه الوحيدة التي فقأت إسرائيل شقيقتها، بأحزانه المدوية بعد استشهاد شقيقيه بعمر الزهور، واعتلاء المستوطنين سطح منزلهم بمدينة الخليل، ومساومتهم لبيعه بكل الطرق الوحشية ، وهو المنزل الملاصق لمستوطنة صهيونية، يعلم والده أنه لو باعه سينفرط عقد بيوت المنطقة بأسرها .. ويعد مؤلف الرواية مفاجأة بخصوصه تتسق تماما مع فلسفة صعود القمم، باعتبارها عملية روحية وليست مادية! نورة ويوسف .. بالرواية والواقع أما ثاني الأطفال فهو يوسف وقد مُني - كما غيره من أطفال فلسطين –بعبوة ناسفة زرعها جنود كانوا يتسلون بلعبة جديدة، وطارت ساقه إثر الانفجار، ولكن روحه بقيت وثابة ومصرة على إثبات الذات والتحقق. وهو يؤكد مقولة نصر الله بروايته أن " العجز ليس لمن فقد جزءا من جسده، بل لمن فقد جزءا من حلمه..." وتبقى "نورة" حالة فريدة لطفلة فلسطينية بترت ساقها أيضا وظل أهلها يخشون مشاركتها بالرحلة ولكنها أصرت أن تتحدى ذلك الضابط الذي سخر منها على المعبر المؤلم، وأجبرها على إهدار كرامتها وخلع رجلها الاصطناعية والقفز والوقوف ساعات والتفتيش المذل، أصرت أن تخبره كيف أنها بعاهتها يمكنها تسلق أعلى جبال القارة الإفريقية، والتي يعجز الأصحاء عن إدراكها، وكان التحدي .. وبالطبع كان هناك نموذج معادل موضوعي لحال المواطن العربي زمن ما بعد التسويات المؤسفة، فكان "جبريل" نموذجا للرأسماليين الطفيليين، ترك النضال وراح يصادق وزراء فاسدين ومسئولين مرتشين بالسلطة الفلسطينية برام الله، وحتى ذهابه لتلك الرحلة كان من أجل استغلال صور الطفلين على كيس بطاطس يفكر بتقديمه كمنتج تجاري للأطفال!!! ووسط هؤلاء كان "صوول" نموذجا رقيقا لإنسانية مثالية؛ فقد جاء ذلك الشاب لتنزانيا بلد والدته بحثا عن الشهرة وكرة القدم، ولكنه تركها بعد أن شاهد جبل كليمنجارو والذي يمتلك عمه حصة بشركة تنظم رحلات لتسلقه.. تملكه الجبل كما لم يتملك أحدا من قبل.. لكن هذا الفتى الإفريقي الوسيم ظل مفتاحا لفهم مغزى الصعود ودليلا لصوت الجبل الذي لا يسمعه إلا القلة.. والمهم دوما كما يقول أن تعرف ما يريده منك الجبل، لا ما تريده أنت ! ملحمة الشعر المنثور الرواية يقود سردها راوٍ عليم، يسبر أغوار الشخصيات وما يواجهونه من مخاطر ومخاوف ودفء ومرح، وتتجلى استدعاءات الذاكرة التي تركزت بالأساس على مشاهد مؤلمة عايشها أبطال الرحلة في فلسطين. وقد بدت الفصول كبورتريهات متصلة في سياقاتها وحضورها ، ولكنها منفصلة في مكنون كل شخصية وخبراتها . أما اللغة فمتدفقة عذبة تمس شغاف القلب بعبارات شعرية جزلة ؛ أنت مع "نصر الله" تتسلق مع الأبطال الجبل وتشعر بأنفاسك مضطربة .. تبصر الغيم وهو يتجلى في كل المكان .. تشعر بأطرافك تتجمد. ويمتاز السرد بتضفير العامية المحكمة بالحوارات الداخلية بين الشخصيات، والتي تتفاوت بين المصرية واللبنانية والشامية والسواحلية الإفريقية التي تعلمها الأبطال ، وهو ما يعبر عن خبرة الراوي بلهجات العرب الشعبية . كليمنجارو ولنتأمل معاَ بعضا من تلك اللوحات : "لم يكن الصباح قادرا على إضاءة ملامحهم المتعبة.. " ، "كان شلال الغيوم المتدفق بين جبلين آخر ما التقطت كاميرا إيميل"، "كان الغيم يلاحقهم من أسفل البقعة التي خيموا فيها، وأشجار غراند سيسيو العملاقة بفروعها الضخمة مثل عشرات الأيدي المرفوعة عاليا في الهواء مودعة إياهم" .. "لقد صارت السماء تحتهم وهم يصعدون سلما أبديا لا ينتهي" "وكلما اقتربوا شعروا أنهم باتوا على كوكب آخر غير الكوكب . لقد بلغوا حد التسامي وسط الجليد الذي يتبخر ولا يذوب " وتقنيات الرواية أيضا لا ينقصها الإدهاش؛ فغسان تراه بين الفريق حاضرا حضورا كاملا، سواء برحلة الصعود أو بالحوار الدائر مع الدكتورة أروى التي توحدت مع حالته لدرجة كبيرة واعتبرت نفسها مسئولة عنه، وفي النهاية نكتشف أنه لم يشاركهم خوفا من ضياع البيت الذي يسوده مستوطنون يعتلون سطحه ومستعدون لاحتلاله بأية وقت! تخبره د. أروى بعد انتهاء الرحلة أنه بالفعل قد بلغ قمة ، حاولوا هم بمشقة أن يبلغوها ، فالعبرة ليست بالقمم الجبلية وإنما بالقمم التي ينبغي عليك اجتيازها، وقد كانت بالنسبة إليه لا تبتعد عن سطح منزلهم، وطرد المعتدين من فوقه! أيام الوجع .. والفرح الرواية مكتوبة من أجل الأمل، أو كما ينظر الراحل عبدالوهاب المسيري للشعب الفلسطيني البطل، فهو يتعامل مع عدوه كبشر، لا كأسطورة طاغية لا تقهر، ومن هنا فإن الصبي الصغير يستهين بالدبابة أمامه ويلقمها بالحجارة ولا يبالي بردة الفعل! إميل ظل وفيا للصبي يوسف، فهو يذكره بطفولته حين اضطر لترك لبنان الجنوبي بعد حرب شعبية راح ضحيتها جاره الفلسطيني الطيب. أما يوسف فلم ينس بالطبع اللغم الذي أكل قدمه ولا البحر الذي كان صديقه الوحيد، ففيه يصبح خفيفا طافيا وينسى قدمه التي منه راحت، يسبح ويسبح حتى القوارب الصهيونية التي تترصد لمن يتعدى الحدود الفاصلة بشاطيء غزة! ولا ينسى رفاقه الذين قضوا نحبهم أو فقدوا أعضاءهم، عذابات الحواجز وقدمه الاصطناعية التي ضاعت بين المطارات! أما نورة الطفلة الفلسطينية الجميلة، فكانت ضحكتها تغالب الألم الطافح من ساقها المبتورة حين تتآكل بفعل ضغط القدم الصناعية. تتذكر الطائرات الشراعية التي صنعها الأطفال ليعلو علم فلسطين فتحولت لكابوس من الغازات والنيران تلاحق الجميع . تتذكر عمها الذي سلبه المستوطنون حقل زيتونه وأشعلوا فيه النيران فانفجر جسد ولديه وتحول الأب المكلوم لطاقة انتقام قتلت منهم ثلاثة فردوا بتفجيره بعد أن مثلوا به حيا! غسان أيضا، الحاضر الغائب بالرحلة، كان منزله هو الأول بعد مستوطنة إسرائيلية على مشارف الخليل، وقد اعتاد المستوطنون كتابة الشتائم البذيئة للنساء على الجدران والتنكيل بمن يمحوها، احتلوا سطح البيت وأطلقوا أعيرتهم بشكل يومي حتى على صور شقيقيه الشهيدين في عمر الزهور، لطخوا ببياداتهم الوسائد التي افترشها المتعبون أرضا، تغوطوا بخزانات المياه بالسطح ومنعوا الأهل من إغلاق الباب. ولا ينسى الصبي كيف اضطرت أمه ذات مرة للولادة على أحد الحواجز بعد أن أصر الضابط على تفتيش السيارة ولم يأبه لصراخها ودمائها، فمات المولود من شدة المطر والبرد! مرحبا بكم في القمة! ولكن وسط كل تلك الآلام، ستجد مساحة لمكاشفات نسائية وخفة ظل وأغانٍ رائعة فأنت تنشد معهم "جامبو جامبو" "ويرا ويرا" بطعم الجبل، وهناك مساحة أيضا للإنسانية شاهقة بحجم الجبل، كإيميل الذي اتخذ ظهره "حصانا" للفتى يوسف حين تتعبه ساقه المبتورة، أو صوول رائد الرحلة وقد حمل نورة ومن بعدها سهام التي راح بصرها من شدة وهج الثلج، واجتاز بها منحنيات شديدة الخطورة بالجبال في ظل رؤية شبه منعدمة وبرودة تحت الصفر الأمل ينتصر .. ستلد سهام توأما جميلا بعد بضعة أشهر من عودتها، وستتعلم نجاة رغم عدم وصولها للقمة درسا كبيرا من الرحلة، أما جيسيكا فنراها تستقيل من عملها بعد أن علمت كيف تعتمد على نفسها . نورة سترسل للضابط الصهيوني ابتساماتها من كليمنجارو متحدية لسخريته وإهاناته على المعبر، أما يوسف فسيعود ليخبر رفاقه بأنهم الأصحاء لم يفعلوا ما فعله هو حين اعتلى قمة إفريقيا بقدمه المبتورة. وسينعم غسان بكلمات أروى المحفزة بعد أن ظل يحلم كل يوم بأنه يشارك الفريق، وعلم أن سطح بيته قمة عليه اجتيازها . الكاتب هاري سيعود لباريس مصمما أن يصعد بحياته أعلى القمم ولا يرتضي السفوح كبطل هيمنجواي. أما جون وإميل وريما وأروى فسيعودون أقوى مما كانوا في أداء رسالتهم بالحياة ، بعد أن تمثلت البطولة الحية أمام أعينهم وزادتهم أملا بالنصر مهما طال الليل. "نصر الله" يهدي روايته للفلسطينيين، وقد منحهم ثلاثية الملهاة و"زمن الخيول البيضاء" وكرس مشروعه لتصل قضية وطنه لضمير العالم .. نجده هنا بروايته يصعد لأجل الأمل ويعلو بالإنسانية فوق الإيديولوجيا والقارات، مستهلا إياها بعبارة حاكمة : : في كل إنسان قمة عليه أن يصعدها وإلا بقي في القاع .. مهما صعد من قمم ..