إذ يحتفل المصريون اليوم الاثنين بعيد الأم فإنهم يحتفلون بثقافة وطن وأصالة المرأة المصرية على مر العصور ودورها المجيد في مسيرة وإنجازات شعب يفخر بأن بلاده هي"أم الدنيا". وفي سياق الاحتفال بعيد الأم وتكريم الأمهات اللاتي فزن بلقب "الأم المثالية" كان الرئيس عبد الفتاح السيسي قد وجه التحية لكل امهات وسيدات مصر معربا عن خالص احترامه وتقديره لقصص كفاح الأمهات المثاليات اللاتي ضربن اروع الأمثلة في التضحية والعطاء والمثابرة. ومن نافلة القول ان المرأة المصرية لها دور بالغ الأهمية في بناء "مجتمع السعادة" فيما يؤكد دستور مصر على ان تكفل الدولة اتخاذ التدابير الكفيلة بضمان تمثيل المرأة تمثيلا مناسبا في المجالس النيابية وهو ماتحقق بالفعل في مجلس النواب الحالي فيما باتت حاضرة بوضوح في ميادين الثقافة والاجتماع والاقتصاد وكل اوجه الحياة العامة. ويأتي عيد الأم هذا العام بعد ان ضربت المرأة المصرية أمثلة فذة للوطنية والارتباط بتراب مصر في الثورة الشعبية بموجتيها يناير-يونيو وبما يعيد للأذهان دورها الوطني والتحرري في ثورة 1919 وكل المراحل الحاسمة لهذا الوطن . وبينما تتردد مصطلحات ومفاهيم ثقافية منذ سنوات مثل مفهوم "نوعية الحياة" الذي يتضمن دوما جانبا ذاتيا او شخصيا رغم انه يتصل مباشرة بالتنمية الشاملة فإن الأم تنهض بدور حاسم في إنفاذ هذا المفهوم في حياة الأسرة باعتبارها الوحدة الأساسية للمجتمع وهي "موئل الحب والحنان" وصاحبة الفضل الأهم في احساس أفراد اي اسرة بالسعادة والرضا وتحفيزهم على خوض معترك "الحياة الايجابية والنشطة". وبينما ترفع مجتمعات متقدمة بالمعنى المادي والاقتصادي في الشمال شعار"الإنسان أولا" لم تعد جهود التنمية تعطي في مجال "نوعية الحياة" اولوية مطلقة للعامل الاقتصادي بقدر ما باتت معنية بالتفاعل بين الأبعاد المختلفة لتحسين نوعية الحياة والارتقاء بها في سياق يشهد تغيرات تقنية واقتصادية واجتماعية و ظهرت فيه ديناميات جديدة ترتبط بالعولمة ومجتمع المعرفة. ووسط ذلك كله يبقى دور الأم في اي اسرة ساطعا وبارزا في صنع الحميمية والدفء الانساني بقدر ماهو دور فاعل وحيوي في تحفيز الأبناء على التقدم في مناحي الحياة المختلفة ودعمهم وجدانيا في مواجهة التحديات التي قد تعترض سبلهم. فالجانب الشخصي أو الذاتي مؤثر في تحديد المتطلبات، وبالتالي يتدخل بالضرورة في تحديد طبيعة نوعية الحياة والمكونات التي تدخل في تشكيلها والسبل التي تتيح تلك النوعية المختارة للحياة سواء كانت ثقافية أو اجتماعية وتقنية ومن هنا تتجلى أهمية دور الأم في هذه العملية لأنها المؤثرة بقوة في تكوين الأبناء وتسهم في صياغة قدرتهم على الاختيار ورؤية كل منهم لنفسه ولاحتياجاته ومتطلباته مع مراعاة التقاليد والتراث الثقافي العام للمجتمع. وفي وقت تتوالى فيه الدعوات المخلصة لاستعادة منظومة القيم الايجابية والأخلاقية للمجتمع وتتعدد المآخذ والملاحظات السلبية على ممارسات ومفردات في المجال العام تبقى الأم المصرية "صانعة الحياة الطيبة" وحافظة القيم الأصيلة "لأم الدنيا" وهي التي تعزز التماسك المجتمعي وتتصدى للقيم الدخيلة والأنماط السلبية التي تهدد تجانس وتناغم نسيج الحياة المصرية كما انها القوة المؤثرة بلا جدال في صياغة نظرة الأبناء للحياة وبث الأمل في نفوسهم وهم يتطلعون للمستقبل. وليس ثمة شك في ان ثورة الاتصالات كان لها ثمنها الفادح واعباء واستحقاقات جديدة للأمومة ودور الأم بعد ان ظهرت في خضم هذه الثورة تحديات اجتماعية واشكاليات نفسية وحدثت تغييرات جذرية في انماط الثقافات الأصيلة والمتوارثة وطفحت على السطح مشكلات وانحرافات سلوكية تؤثر سلبا على نوعية الحياة في اي مجتمع والتي تتطلب بطبيعتها نظرة شاملة وكلية. ولا جدال أن هذه الثورة الاتصالية والمعلوماتية أثرت على نموذج "أمينة" الذي نحته سيد الرواية المصرية والعربية النوبلي نجيب محفوظ للأم في رائعة "الثلاثية" وهذا النموذج للأمومة كان متسقا مع سياق الحياة المصرية كما عبر عنها محفوظ في "بين القصرين" و"قصر الشوق" و"السكرية" فيما كان هذا النوبلي قد قال :"مامن شخصية كتبت عنها الا وقد اخذتها من الحياة المعيشة" مؤكدا على ان "امينة" كانت تمثل القطاع الأعظم من الأمهات المصريات في تلك الحقبة مابين ثورة 1919 والحرب العالمية الثانية. وفي كتاب "نجيب محفوظ يقول" وهو من اعداد رجب حسن اكد الروائي المصري على أن:"أمثال أمينة كثيرون..في جيلها وما بعد جيلها" فيما تطرق للتغيير في نموذج الأم المصرية باعتبار أن كل أم مصرية تكاد تحمل بعض جينات "أمينة" بقوله "وأمينة لم تتغير إلا بتعليم البنت ثم زاد تغيرها اكثر بعد ان شاركت في العمل بعد التعلم". ". والطريف أن نجيب محفوظ مضى مع خياله ليتساءل :"ماذا يحدث أن تمردت أمينة" مثلما فعلت "نورا" بطلة "بيت الدمية" للكاتب المسرحي النرويجي هنريك ابسن اما الدال فهو ان ثلاثية محفوظ تبدأ بأمينة وتنتهي بموتها مع الميلاد الجديد للطفلة الوليدة في عائلة السيد احمد عبد الجواد او "امينة الجديدة في دورة الحياة المصرية" . واذا كان اسم "امينة" يتطابق تماما مع صفات الأم المصرية في الحقبة التي تناولها نجيب محفوظ في ثلاثيته فانه من اللافت ان الرواية المصرية بعد محفوظ لم تبدع بعد نموذجا للأمومة في السياق الراهن يمكن ان يحرز من الشهرة او الاعجاب او الجدل مانالته "امينة سيد الرواية المصرية والعربية". وكانت الناقدة والروائية المصرية الدكتور شيرين ابو النجا قد رأت ان التساؤل عن معاناة المبدعة من احتكار الرجال لم يعد صالحا للواقع الابداعي الحالي معتبرة ان المبدعة المصرية والعربية عموما "تمكنت من فرض نفسها على الساحة". وفيما يوافق الاحتفال بعيد الأم في مصر يوم 21 مارس فإن يوم المرأة المصرية يوافق السادس عشر من مارس حيث خرجت اكثر من 500 سيدة وفتاة في هذا اليوم من العام 1919 في مظاهرة شكلت علامة فارقة في الثورة الشعبية آنذاك. ولأستاذ الصحافة الراحلة الدكتور إجلال خليفة صفحات ناصعة عن تاريخ كفاح المرأة المصرية، وكذلك كتاب "المرأة المصرية والتغير الاجتماعي - 1919-1945" للدكتور لطيفة سالم فيما يحق القول بأنه منذ "الأحد 16 مارس 1919 وحتى اليوم لم تتوقف حركة الزمن الى الأمام رغم أن بعض الأفكار داخل الرؤوس تحجب صحيح الرؤية الى قدرات واستحقاقات المرأة. والديمقراطية كما ترى مثقفة مصرية كبيرة مثل الدكتور نوال السعداوي ليست انتخابات فقط "بل هي الكرامة والحرية والمساواة للجميع والعدالة الحقيقية او القانون العادل الذي يطبق على الجميع دون تفرقة" فيما تلفت الكاتبة والأديبة سكينة فؤاد الى ان المرأة المصرية تحملت اقسى الأعباء "نتيجة للفساد والافساد والانهيارات السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية على امتداد عشرات السنين". وتنوه سكينة فؤاد بأن "الأجيال العظيمة من الصابرات والبناءات والعاملات من حفيدات المناضلات عبر حلقات التاريخ لن يرفعن رايات الاستسلام لأنهن يعرفن كم تحتاج اليهن بلدهن وانهن يتقدمن ارصدة الأمان والتأمين والقوة لها في مواجهة الأخطار والارهاب والمؤامرات". وفيما يحتفل المصريون اليوم بعيد الأم فإن الثقافة الغربية تحفل بكتب عن أمهات الرؤساء والقادة الكبار فى هذا العالم مثل الرئيس الأمريكى باراك اوباما الذي تمضي فترة رئاسته الثانية والأخيرة للولايات المتحدة حثيثا نحو نهايتها . وهاهو كتاب "امرأة متفردة..القصة التى لم ترو عن والدة باراك اوباما" لجانى سكوت يطرح احيانا اسئلة قاسية وحساسة عن حقيقة علاقة الابن الرئيس بالأم آن دونهام التى رحلت منذ سنوات بعد الآب حسين اوباما الذى غاب عن الابن وهو فى عامه الأول ثم سرعان مارحل عن الدنيا كلها. وكتابة سيرة ذاتية لأي شخص دون ذكر اسمه في عنوان الكتاب قد يكون امرا غير معتاد لكن هذا الكتاب يتحدث عن روح حرة وسيدة استثنائية فهى امرأة متفردة بحق..ورغم الاختلاف البين في لون البشرة بين الأسمر باراك اوباما الذى ورث لون بشرته عن والده القادم من كينيا وبين والدته الأمريكية ذات البشرة البيضاء فان هناك تشابها مثيرا للتأمل فى الملامح وتقاطيع الوجه بين الابن ووالدته التى ولدت عام 1942 فى كانساس حيث الذقن الطويلة والرأس الموروبة قليلا والحواجب الناتئة. ومع ان باراك اوباما له كتاب عن والده حسين اوباما الذى تخصص فى الاقتصاد بعنوان :"احلام من والدى" فانه لم يكتب بعد عن امه التى كانت علاقته بها غير عادية بل وشكلت احد اهم مصادر إلهامه. والغريب أن باراك أوباما يبدو مشدودا نحو والده الراحل مع أنه تركه بعد عام واحد من ولادته ليعود وحده إلى كينيا والقارة السمراء ويبقى الابن مع أمه.. فكأن الابن كتب عن الأب الذى لايكاد يعرفه ولم يكتب بعد عن الأم الحبيبة التى عرفها اكثر من اى انسان اخر فى هذه الحياة الدنيا. هل يكون سبب احجام الرئيس الأمريكى عن الكتابة عن والدته انه وهو صاحب القلم والكلمة عاجز عن مغالبة مشاعر الفقد لأعز الأحباب تلك التى لم يقدر لها ان تبقى على قيد الحياة لترى ابنها داخل البيت الأبيض؟!..ام انه كما يرى البعض حاول ان يبقى على مسافة بينه وبين الأم التى تزوجت بعد ان رحل الزوج الافريقى بلا عودة؟!. هذا النوع من الاسئلة القاسية والحساسة سعى كتاب جانى سكوت للاجابة عنها عبر ابحار عميق فى مسيرة السيدة آن دونهام ولاجدال أن الظروف الاسرية ومعطيات التنشئة لها اثارها فى تكوين اى شخص وقد تكون فى خلفية قراراته او ميوله عندما يصبح رئيسا او صاحب منصب او موقع مؤثر فى الحياة العامة. . وكما يلاحظ هذا الكتاب فإن باراك اوباما بزواجه من فتاة امريكية منحدرة مثله من اصل افريقى عمد لنهج فى الاختيار مغاير لوالدته ذات البشرة البيضاء التى تزوجت من رجلين أحدهما أفريقي كيني، والآخر آسيوي اندونيسى. ووالدة باراك اوباما لها دراسات متعمقة فى اقتصاديات الحرف اليدوية باندونيسيا وحصلت على الدكتوراه عن اطروحة حول الحياة فى الريف الاندونيسى كما يوضح هذا الكتاب الذى يتضمن صورة التقطت العام 1970 لآن دونهام مع ابنها باراك حسين اوباما وزوجها الثانى الاندونيسى لولو سويترو وابنتهما مايا سويترو. كان الفتى باراك حسين اوباما مع الدته عندما تزوجت للمرة الثانية فى جاكارتا كما عاش معها فى هاواى غير ان بشرته السمراء التى ورثها عن والده الغائب ابدا كانت هى الحاضرة فى مسيرته السياسية وارتباطه بما عرف بحركة امريكا السوداء بل ان اسم الأب الغائب دوما كان يتردد اثناء الحملة الانتخابية الرئاسية فيما غاب اسم الأم الحاضرة ابدا فى حياة الابن عن هذه الحملة التى انتهت بدخول الشاب الأسمر البيت الأبيض. ومع ذلك فان مجرد انتماء باراك اوباما من ناحية الأم لأمريكا البيضاء كان كفيلا بتخفيف حدة العداء من جانب الناخبين البيض اثناء خوضه الانتخابات الرئاسية الأولى على وجه الخصوص فكأن الأم الغائبة ظاهريا عن المشهد الحاسم فى حياة الابن اسهمت ضمنا فى فوزه فى تلك الانتخابات التى جرت العام 2008. واثناء الاقامة التى امتدت عدة سنوات فى اندونيسيا - كانت آن دونهان تأتى لابنها باراك حسين اوباما بكتب عن حركة الحقوق المدنية فى امريكا وكتابات وتسجيلات لداعية حقوق الإنسان مارتن لوثر كينج فضلا عن أشرطة أغانى لأصوات رافضة للتمييز العنصرى. واذا كان الكينى الأصل حسين أوباما قد توفى مبكرا عام 1982 فى حادث سير فالأم الراحلة للرئيس الأمريكى باراك أوباما قضت عام 1995 بالسرطان فى هاواى لتبقى أنشودة حب وشجن وفقد فى قلب الابن الذى قدر له ان تكون لقراراته آثارها ليس على بلاده وحدها وانما العالم كله. لعل علاقة "الأمومة" بين شعب ما ووطنه لا تتجلى على مستوى العالم كله كما هي في الحالة المصرية التي رصدها الصحفي البريطاني ماكس رودنبك في كتابه :"القاهرة:المدينة المنتصرة" ونظرة المصريين لبلادهم باعتبارها "أم الدنيا" فيما ينظر القاهريون لمدينتهم باعتبارها ام المدن في العالم . . فتحية "لأم الدنيا" وتحية لكل ام مصرية في يومها هذا فيما لن يزيد الغياب كل ام رحلت عن الحياة الدنيا الا المزيد من الحضور الحبيب وفيض النور والعطر خالدة في الوجدان وفي حنايا اللحظة وكل لحظة ..تحية للأم الرحيمة الحبيبة التي لم تزل تنجب الشهداء والأبطال وتحنو على كل الأبناء وتوصي بالتراحم وتبشر بالفجر الآتي.