توقفى عن الكتابة "موتا صغيرا"..والأكبر هو "موت الوطن" طرابيشى اتجه للكتابة ليغير عقلية المجتمع اعتقل مرتين .. مرة بانتمائه البعثي ومرة بمعارضته! موقفنا من المرأة يحدد موقفنا من العالم بأسره فرويد سبيل تصالحه مع ذاته ..وترجم له 30 عملا ظل مدينا للجابري برغم نقده لمشروعه الفكري فرح بالربيع العربي ثم حذر من تحوله لجحيم رجعية "وأنا في رحلة نهاية عمر، وبعد عقود ستة من صحبة القلم الذي آثرته – عدا زوجتي وبناتي – على كل صحبة أخرى، أجدني أتوقف أو أعود إلى التوقف عند ست محطات في حياتي كان لها دور حاسم في أن أكتب كل ما كتبته وفي تحديد الاتجاه الذي كتبت فيه ما كتبته وحتى ما ترجمته." هذه الكلمات الأخيرة للمفكر السورى جورج طرابيشى ، الذى رحل عن عالمنا أمس الأربعاء ، فى مقاله الأخير قبل أن يفارق الحياة بعنوان " ست محطات فى حياتى " والتى لخصت نظرته للحياة و فكره بشكل كبير ، و كأنما أراد أن يكتب سيرة ذاتية مختصرة لذاته قبل الرحيل . المحطة الأولى – حكايته مع المسيحية و تحدث فى محطته الأولى عن ولادته فى أسرة مسيحية و تدينه المفرط فى بداية حياته ، و خوفه من عذاب جهنم الذى حذر منه الكاهن ، و ذكر أن في المسيحيّة يقال إن الخطيئة مثلّثة: خطيئة بالعمل وخطيئة بالقول وخطيئة بالفكر. وحتى هذه الخطيئة الأخيرة قد تكون خطيئة مميتة، وعقابها جهنم إلى أبد الآبدين حسب اللاهوت المسيحي ، و حكى أنه أصابه من الخوف حمى و بقى يومين طريح الفراش، و لما أفاق قال : لا، إن الله ذاك الّذي حدثني عنه الكاهن لا يمكن أن يوجد ولا يمكن أن يكون ظالماً إلى هذا الحدّ. ومن ذلك اليوم كففت عن أن أكون مسيحيا. المحطة الثانية – حكايته مع الإسلام أما المحطة الثانية فتحدث عن دخوله المدرسة الثانوية بعد سقوط حاكم سورية الديكتاتور والجنرال العسكري أديب الشيشكلي ، وبدأ تحالف حزب البعث والحزب الشيوعي والإخوان المسلمين ، و طلب الأخوان لإدخال التعليم الدينى للمدارس الثانوية ، و كان طرابيشى يميل لحزب البعث ، و أراد أن يحضر مع زملائه درس الدين لرغبته فى معرفة المزيد عن الإسلام دين الغالبية السورية ، و لكنه تفاجأ بمقولة " كلّ من هو ليس بمسلم فهو عدوّ للإسلام " ، فرفع جورج يده ليخاطب الشيخ : أنا لست مسلما ؟ فهل أنا عدوا لك ؟ فجاء رد الشيخ : أعوذ بالله ، من قال هذا الكلام؟ كيف تقول ذلك؟ ، فأعاد عليه جورج ما كتبه ، فطفق الرّجل يتدارك خطأه، ويقول: لا، لا، فالمسيحيون أهل كتاب. و من هنا بدأ يبتعد جورج طرابيشى عن الدين ، و يرى أن القضية الأولى ، ليست قضية تغيير سياسات و لا وزارات ، بل تغيير عقليات . و روى جورج أنه عين مدرسا للغة العربية فى المرحلة الثانوية ،مع نفس الشيخ ، و أول مارأه ، أقبل عليه واحتضنه قائلا : عذراً يا أستاذ ، خطيئة ارتكبتها في حياتي لن أكررها أبداً. المحطة الثالثة – حزب البعث والمعتقل بالمحطة الثالثة حكى المفكر عن سبب تحوله إلى كاتب ، قائلا : لأني شعرت أنّ الكتابة هي الطريق الوحيدة الّتي بمستطاعي أن أسلكها لكي أغيّر العقليّة في المجتمع. و فى هذه المرحلة من حياته اعتقل سياسيا لانتمائه لحزب البعث قبل أن يستلم الحزب السلطة بعد ذلك ، و استقال طرابيشى من الحزب بعد دخوله الحكم بعام ، لخلافات سياسية وإيديولوجية ، ولمعارضته الحزب اعتقل مرة أخرى ، بعد أن أصبح يساريا. و فى داخل السجن كان معه معارضون من حزب البعث و لكن من التيار اليمينى و أغلبهم مسيحيون ، و اختلفوا حول عقوبة " جرائم الشرف " ، و كان لجور زوجة الكاتبة"هنرييت عبودي" و ابنة بعمر العامين ، و رفض تماما عقوبة ذبح البنت فى جرائم الشرف سواء كانت مسلمة أو مسيحية ، فقاطعه المعتقلون معه ، و اتهموه بأنه لا يستحق أن يكون عربيا أو بعثيا ، و بعد أن فرضت عليه المقاطعة ، طلب من إدارة السجن وضعه فى حبس انفرادى . و قال عن ذلك : ومنذ ذلك اليوم توطد لديّ الاقتناع بأن الموقف من المرأة في مجتمعاتنا يحدد الموقف من العالم بأسره. ومنذ ذلك اليوم أيضا ترسخ لديّ الاقتناع أكثر من أيّ يوم سبق بوجوب النضال بواسطة الكلمة من أجل تغيير العقليات، تغيير البنية الداخلية للعقل، وليس فقط البنية السطحية السياسية أو الايديولوجية. المحطة الرابعة - فرويد و عن المحطة الرابعة فى حياته يقول : بعد مرحلة القومية العربية والبعثية واليسارية والماركسية، جاء دور فرويد. و كانت معرفته بفرويد بسبب واقعة طريفة ، فهو كانت معتاد على تقطيع أطراف الخبز السورى ، و اكتشف مقالا بالمصادفة لفرويد تفسر ذلك على أنه فعل تمزيق لا شعورى للأب ، و بالفعل كان جورج طرابيشى على صدام مع والده فى مراهقته ، و حينها بدأ الانفتاح على التحليلات النفسية ، و عكف على قراءة فرويد و الترجمة له، حيث ترجم له نحو 30 كتابا . و حينها استطاع طرابيشى أن يتصالح مع والده و ذاته ، و يكون نظرة جديدة للحياة . المحطة الخامسة – نقد نقد العقل العربى تركزت هذه المرحلة على عمله الأكبر " نقد نقد العقل العربى " في نقد مشروع الكاتب والمفكر المغربي محمد عابد الجابري ، و الذى استغرق منه 20 عاما ، و كتب فيه 5 مجلدات . و كان فى هذا الوقت يعمل فى مجلة " دراسات عربية " عن دار الطليعة فى لبنان ، و كان يرسل له الجابرى مقالات لنشرها ، و أرسل أول كتبه "تكوين العقل العربي"، الجزء الأوّل من مشروع "نقد العقل العربي" ، و طلب صاحب الدار من طرابيشى الإطلاع عليه ، فنصحه بنشره قائلا عنه أنه كتاب مدهش . بعدها قرر طرابيشى الهجرة من بيروتلباريس بسبب الحرب الأهلية اللبنانية ، و هناك عمل فى مجلة " الوحدة" ، و عندما سافر لم يأخذ معه من مكتبته التى تحتوى على 5 الآف كتاب ، سوى كتابين هم " تكوين العقل العربى " للجابرى ، و معجم سهيل إدريس "المنهل". و قال طرابيشى عنه : جئت باريس وقعدت في بيتي شبه الفارغ أقرأ هذا الكتاب مرّة ثانية، مسحوراً به سحراً كاملاً. وكان أوّل مقال كتبته في مجلّة "الوحدة" عن هذا الكتاب. وبادرت أكتب : "إنّ هذا الكتاب ليس فقط يثقّف بل يغيّر، فمن يقرأه لا يعود بعد أن يقرأه كما كان قبل أن يقرأه". و اضاف : الجابري قال كلاماً سلبياً للغاية عن إخوان الصفاء ناسباً إياهم الى " العقل المستقيل في الإسلام"، ومؤكداً أنهم وقفوا ضدّ العقل، وضدّ الفلسفة، وضدّ المنطق ، لذا بحث عن كتاب " رسائل إخوان الصفا " للإطلاع على أفكارهم فوجدها ممنوعة فى بلدان الخليج العربى لأنها تتحدث عن الفلسفة ، و لأنها ممنوعة أحضره له صاحب مكتبة من قبو تحت الأرض ، كانت مخبأة فيه مع كتب أخرى . و عندما أطلع على تلك الرسائل ، وجد أن كلام الجابرى عنهم غير صحيحا ، فهم من قالوا : "أنّ من عرف أحكام الدّين فإنّ نظره في علم الفلسفة لا يضرّه بل يزيده في علم الدّين تحققاً وفي فهم المعاني استبصاراً". و حينها أصيب طرابيشى بصدمة كبيرة ، قائلا : طعنت فى كبريائى كمثقف ، لأنّي كتبت في ما كتبت عن كتاب الجابري ، دون أن استوثق من كل المعلومات بصدده . و هنا انكب جورج طرابيشى على قراءة كتب التراث و على مطالعة العديد من المراجع التى ذكرها الجابرى ، و قال :لم يكن شاهد إخوان الصفاء بالشاهد الوحيد ، بل وقعت على عشرات وعشرات من الأمثلة على مثل هذا التزوير الّذي أوقع فيه الجابري عن قصد أو عن غير قصد- لا أدري- قراءه وأنا منهم. وإني لأقولها صراحة اليوم : إني أعترف للجابري، الّذي قضيت معه ربع قرن بكامله وأنا أقرأه وأقرأ مراجعه ومئات المراجع في التراث الإسلامي ومن قبله المسيحي ومن قبلهما التراث اليوناني وكل ما يستوجبه الحوار مع مشروعه، إني أقرّ له، وأعترف أمامكم، أنّه أفادني إفادة كبيرة، وأنه أرغمني على إعادة بناء ثقافتي التراثية . فأنا له أدين بالكثير رغم كلّ النقد الّذي وجّهته إليه. المحطة السادسة – ثورات الربيع وصولا إلى ختام المرحلة الأخيرة من حياته ، قال إن المحطات الخمس كلها كانت بمثابة محطات انطلاق، وبدءاً منها كتب كل ما كتبه على امتداد حياته من أبحاث ومقالات قاربت في عددها الخمسمائة ، ومؤلفات نافت على الثلاثين، وترجمات زادت على المئة . لكن المحطة السادسة – حسب قوله - كانت بالمقابل هي محطة التوقف والصمت والشلل التام عن الكتابة: محطة الألم السوري المتواصل منذ نحو أربع سنوات بدون أن يلوح في الأفق أي بشير بنهاية له. و تابع : على امتداد تلك السنوات الأربع ما أسعفني القلم إلا في كتابة مقالين اثنين فقط: أولهما في 21/3/2011 بالتواقت مع البدايات الأولى لثورات الربيع العربي في تونس ومصر وليبيا، وثانيهما في 28/5/2011 مع انخراط سورية بدورها في معمعة ذلك الربيع . المقال الأول بعنوان " تاريخ صغير على هامش التاريخ الكبير " و عنى بالتاريخ الكبير ثورات الربيع العربي التي بدت في حينه وكأنها تُدخِل العالم العربي في عصر الثورات التاريخية الكبرى كمثل تلك التي شهدتها فرنسا ، أما التاريخ الصغير فهو تاريخه الشخصي المرتبط بخيبة أمل كبرى ، قائلا : أنا ابن الخيبة بالثورة الإيرانية الآفلة أكثر مني ابن الأمل بثورات الربيع العربي الشارقة . و أضاف : كنت أتمنى أن يكون مآل هذه الثورات العربية غير مآل الثورة الإيرانية التي صادرتها القوى الناشطة تحت لواء الإيديولوجيا الدينية، وأن تكون فرحتي بذلك الربيع هي الرفيق الدائم لما تبقى لي من العمر.. و لكن مع الأسف فالربيع العربي لم يفتح من أبواب أخرى غير أبواب الجحيم والردّة إلى ما قبل الحداثة المأمولة والغرق من جديد في مستنقع القرون الوسطى الصليبية/الهلالية . أما المقال الثانى فحمل عنوان " سورية: النظام من الإصلاح إلى الإلغاء " ، و قال فيه أن سوريا على أبواب جحيم الحرب الأهلية ما لم يبادر النظام إلى إصلاح نفسه بإلغاء نفسه بنفسه ، فغير هذا الإلغاء لا سبيل آخر إلى إصلاح سلمي يصون البلاد من الدمار ، ولكن بدلاً من ذلك امتنع النظام حتى عن الوفاء بالوعود في الإصلاح التي كان لوّح بها. و قال عن هذه المطابة فى الأسابيع الأولى من الثورة السورية أنها كانت متفائلة و فى غير محلها ، فالعامل الخارجي إعلاماً وتمويلاً وتسليحاً، دفع ثمنه الشعب السوري بجميع طوائفه دماً وموتاً ودماراً غير مسبوق ، و أنذر بأن احتدام الصراع الطائفي السني/الشيعي يمكن أن يكون تكراراً للصراع الطائفي الكاثوليكي/البروتستانتي البالغ الشراسة الذي كانت شهدته أوروبا في القرنين السادس عشر والسابع عشر. و ختم قائلا : إن شللي عن الكتابة، أنا الذي لم أفعل شيئاً آخر في حياتي سوى أن أكتب، هو بمثابة موت. ولكنه يبقى على كل حال موتاً صغيراً على هامش ما قد يكونه الموت الكبير الذي هو موت الوطن.