كلية البنات بجامعة عين شمس تحصل على الاعتماد لخمسة برامج دراسية    مستقبل وطن يواصل مؤتمراته الجماهيرية لدعم مرشحيه وحث المواطنين على المشاركة في انتخابات النواب (فيديو)    ضمن مبادرة «صحح مفاهيمك» وبالتعاون مع وزارة الشباب والرياضة.. الأوقاف تطلق (1010) قافلة دعوية بمراكز الشباب على مستوى الجمهورية    الداخلية تعلن مد فعاليات المرحلة ال27 من مبادرة كلنا واحد لمدة شهر    رسميًا خلال ساعات.. تطبيق التوقيت الشتوي 2025 في مصر وإلغاء الصيفي (رجع ساعتك)    مصر تستضيف الاجتماع الثاني للجنة رؤساء سلطات المنافسة لمنطقة التجارة الحرة القارية الأفريقية    تفاصيل قرار جديد للرئيس عبدالفتاح السيسي    مصطفى بكري: يجب محاكمة حميدتي كمجرم حرب    20 مليون دولار لتوفير مساعدات منقذة للحياة بالسودان    تقرير أمريكى يكشف ملامح قوة غزة الدولية.. التفاصيل    ترتيبات جديدة في الأهلي استعدادا لانتخابات النادي غدا    بتروجت: حامد حمدان سينتقل للأهلي في حالتين فقط    الفنانة نيجار محمد تتهم مدير شركة بالنصب عليها في الشيخ زايد    مدمن مخدرات.. القبض علي مسجل اعتدى بالضرب علي شخص وزوجته بالعمرانية    الفنانة نيجار محمد تتهم مدير شركة بالاستيلاء على مبلغ مالى فى الشيخ زايد    تأجيل محاكمة البلوجر أم مكة بتهمة بث فيديوهات خادشة    سينما الأطفال تطرق أبواب الدلتا.. انطلاق أول مهرجان من نوعه في المنصورة (تفاصيل)    «ابن أمه ميتعاشرش».. 4 أبراج رجالهم لا يتخلون عن والدتهم رغم كبرهم    قافلة بين سينمائيات تطلق ورشة الفيلم التسجيلي الإبداعي 2026 لتأهيل جيل جديد من المخرجات    تعرف على مواقيت الصلاة اليوم الخميس 30-10-2025 في محافظة الأقصر    وزير الصحة يشهد إطلاق الإصدار الثالث من الأدلة الإرشادية لجراحة المسالك البولية    الطريق للسعادة.. 7 أطعمة هتعدل مزاجك مع تغيير الفصول والتوقيت الشتوي    تأجيل النسخة الثالثة من المؤتمر العالمي للسكان والصحة والتنمية البشرية 48 ساعة    عاجل الأحد المقبل بدء تسليم أراضي "بيت الوطن" للمصريين بالخارج بالقاهرة الجديدة    جيل بعد جيل على كرسى رئيس التحرير    إقالة مديرة مدرسة في بنها بعد مشادة بين معلمين    أسعار طن الأرز الأبيض والشعير اليوم الخميس 30 أكتوبر 2025 في محافظة المنيا    شوبير يكشف تفاصيل مفاوضات الزمالك مع محمد السيد    شوبير يكشف آخر تطورات حالة إمام عاشور ومشاركته في السوبر المحلي    رئيس مجلس إدارة جهاز تنمية التجارة الداخلية الجديد يبدأ مهام عمله    محافظ شمال سيناء: الوفود الدولية ترى على أرض الواقع جهود مصر في تنفيذ اتفاقية السلام بدلاً من الاكتفاء بالمعلومات المكتوبة    ميرتس: علينا استغلال الإمكانات الكبيرة لعلاقاتنا مع تركيا بشكل أفضل    أحمد موسى يتقدم ببلاغات للنائب العام ضد صفحات نشرت تصريحات مفبركة باسمه    المشدد من 3 إلى 15 سنة ل4 متهمين بحيازة أسلحة نارية وذخائر بشبرا الخيمة    وزير الصحة: أصدرنا حتى الآن أكثر من 115 دليلًا إرشاديًا فى مختلف التخصصات الطبية    «نفسي أشتمنا».. يسري نصرالله ينعى المصورين ماجد هلال وكيرلس صلاح    وزيرة التضامن تشهد احتفالية الأب القدوة.. وتكرم شخصيات ملهمة    محافظ بني سويف: تخصيص 11 شاشة عرض لنقل افتتاح المتحف الكبير    هل يتنافى تنظيم النسل أو تتعارض الدعوة إليه مع التوكل على الله وضمان الرزق للخلق؟    «يوم الوفاء» محافظ أسيوط يكرم أسر الشهداء وقدامى المحاربين    مدحت شلبي: محمد عبد المنعم يرفض العودة إلى الأهلي ويفضل الاستمرار في أوروبا    بينيا يقارن بين سارابيا وفليك: أكثر صرامة في بناء الهجمة    ضبط سلع غذائية فاسدة ودقيق مدعم قبل بيعه في السوق السوداء بأسيوط    الرئاسة تكشف تفاصيل لقاء السيسي ب رئيس مجلس الوزراء الكويتي    «بالزي الفرعوني وأعلام مصر» .. مدارس الإسكندرية تحتفل بافتتاح المتحف المصرى الكبير في طابور الصباح (صور)    محافظ سوهاج يوقف معدية غير مرخصة بالبلينا بعد تداول فيديو لطلاب يستخدمونها    محمد سلام والمخرج حسام حامد والمؤلف أحمد عاطف من كواليس مسلسل كارثة طبيعية    أسعار النفط تسجل 64.52 دولار لخام برنت و60.11 دولار للخام الأمريكى    الزمالك في اختبار مهم أمام البنك الأهلي لاستعادة التوازن في الدوري المصري    هل يحق للزوج منع زوجته من العمل بعد الزواج؟.. أمين الفتوى يجيب    طريقة عمل طاجن البطاطس بالدجاج| وصفة شهية تجمع الدفء والنكهة الشرقية    توفيق عكاشة: السادات أفشل كل محاولات إشعال الحرب في السودان    تعرف على مواقيت الصلاة اليوم الخميس 30-10-2025 في محافظة قنا    طابور الصباح فى الشرقية يحتفل بافتتاح المتحف المصرى الكبير.. فيديو    وزيرا خارجية اليابان وكوريا الجنوبية يتفقان على تطوير العلاقات    مواقيت الصلاة اليوم الخميس 30-10-2025 في الشرقية    طريقة استخراج جواز سفر مصري 2025.. التفاصيل كاملة    «فين اللعيبة الجامدة اللي بملايين».. تعليق مثير من مدحت شلبي بعد تعادل الأهلي مع بتروجت    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



ياسر عثمان يكتب : أيقونة السرد عند الكاتب التركي عمر سيف الدين
نشر في محيط يوم 12 - 11 - 2015


تنويهٌ وشكرٌ
لقد قدم لي هذه الباقة المختارة من القصص المترجمُ والمؤرخ والمفكر المصري العربي الكبير الأستاذ الدكتور محمد حرب في كتابهِ الموسوم " القصص المختارة، عمر سيف الدين، الصادر عن نَشْريَّات قوناق، 2012م)، وله يعود الفضل في حثي وتشجيعي على إنجاز هذه الدراسة عن الأديب التركي الذائع الصيت.
مدخل عام: (من واقع الصفحة رقم 4 من الكتاب المذكور بتصرف قليل)
* ولد عمر سيف الدين الأديب التركي في 28 فبراير 1884م وتوفي في 9 مارس 1929 في استانبول.
* تخرج في المدرسة الحربية باستانبول وعمل ضابطا بالجيش التركي.. وعلى الرغم من أنه قد ترك الجيش بعدما دفع تعويضا ماليا، إلا أنه جُنِّدَ في العسكرية عند بداية الحرب البلقانية.. وقع في أسر اليونانيين في الدفاع عن "يانيا"عام 1913م، وقد أطلق سراحُهُ في نهاية ذلك العام.
* اتَّجَهَ إلي استانبول، حيث بدأ عمله في تدريس الأدب في مدرسة قاباطاش حتى مماته... كتب في مدة لا تتجاوز 10 سنوات ما يقرب من 150 حكاية تَعانقَ فيها اليومي بالعائلي بالأسطوري بذكريات طفولته بالتاريخي عبر موهبة فريدة استطاعت أن توظف وتؤلف بين كل تلك الروافد في حكايته الإبداعية التي نشرها خلال أكثر من منبرٍ ونافذةٍ إبداعيةٍ، منها "المجلة الجديدة"و مجلة " الشاعر"
* له عددٌ من المسرحيات منها "امتحان الخجل"
* من نصوصه ما ضاع قبل أن ينشر، وأغلب كتبه تم نشرها بعد وفاته من خلالِ مجهودات بُذِلَت في تنسيقها وتبسيط لغتها من قبل عددٍ من الأدباء منهم صديقه علي جانب يونتم، والأديب شريف خلوصي ، وصادق كمال، وناظم حكمت، ومطفر أويكون أرْ، وسامن أورنر وغيرهم
* من الأعمال التي نشرت في حياته:
1. الأساطير التركية(1906 ) دراسة.
2. الوطن والوطن فقط( 1911) دراسة.
3. السياسة العملية المستخرجة من التجربة الوطنية(1912) دراسة.
4. القومية التركية(1913-1914) دراسة.
5. دولة الغد الطورانية( 1914) دراسة.
6. أصحاب كهفنا(1918) رواية.
7. حرم(1918) حكاية طويلة.
8. أفروز بك(1919) رواية.
9. فن الكتابة( 1919) دراسة.
بعد وفاته جمعت نصوصه ونسقت في كتب بعناوين مختلفة وتم نشرها، كما قامت مؤخرا دار نشر قوناق بنشر 120 حكاية من حكاياته، بالإضافة إلى نشر مسرحية له بعد تنقيحها في خمس مجلدات جاءت موسومة ب " القفطان ذو اللؤلؤ الأحمر الوردي" و"أفروز بك" و " حرم " و " أصحاب كهفنا" و" الجسور فقط".
القرءاة:
يترامى ويتسعُ ويتنوع العالمُ القصصي الحكائي عند عمر سيف الدين - مثله مثلُ مثل بقية عوالم القصِّ الجديدِ- إلى الدرجةِ التي تجبرُ محاولاتِ التأويل والقراءةِ على تقديمِ أوراق اعتمادها للمقاربات الخارج نصية، والمقاربات الداخل نصية في الآن نفسه، وذلك إذا ما رامت تلك المحاولات الكشف عن العلاقة بين المتواليات الدلالية للنص القصصي بوصفها متواليات داخل نصية، وبين المرجعيات الخارجية التي تحيل إليها تلك المتواليات من جهة ثانية، وذلك بوصف هذه الأخيرة مرجعياتٍ يتأسس عليها القول السردي، ومن ثمَّ فهي شرطٌ أيضًا في عملية القراءة والتأويل. وفي ضوء هذا فقد اختارت هذه المقدمة بعضًا من مفاتيح الدخول لعالم عمر سيف الدين القصصي عبر عدد من القصص التي ترجمها إلى العربية الدكتور محمد حرب ( في كتابه " القصص المختارة عمر سيف الدين"المُشار إليه منذُ قليلٍ:) من منظور سيميائي فيما يأتي:
1. النَّص القصصي بين الانعكاس و التمثُّل:
يراوِحُ النَّص السردي القصصي شأنه شأن بقيةِ حالات الإبداع الأخرى بين عالمين:عالمٍ كائنِ الحدوث وهو الواقع الكائن بالفعل، وآخرَ ممكنِ الحدوث، وهو الواقع الذي يتجلى للتلقي في فيما تنتجه الذات المبدعة. بل ربما تجلَّت تلك المراوحة في النَّصين: القصصي، والروائي أكثر من غيرهما، وذلك لكونِهِما بؤرتين يلتقي فيهما السرد بالتاريخ، بالحدث بالزمان، بالمكان، ثمَّ برؤية مخيلة المبدع لكل ذلك.
لذا يمكنُ القولُ: إن الواقعَ (الكائنَ الأولَ) الذي تتعاطى معه الذهنيةُ المبدعةُ في سياق العملية الإبداعية ليس نفسه الواقعَ كما تراه تلك الذهنية، أوكما ترسّمَ فيها، إذ إنَّهُ يصبحُ في الذهن عبر المشاهدة والتأملِ واقعًا (كائنًا ثانيًا)، بالتالي فإنَّ الواقعَ( الممكنَ ) الذي تنتجه تلك الذهنية في صورةٍ من صور الإبداع ليسَ انعكاسًا حرفيًّا بالمعنى المطلق للواقع الأول، و إنمَّا هو- في الحقيقة - واقعٌ مُنتَجٌ يتماهى فيه الانعكاس بالتَّمَثُّلِ؛ فيصبحُ بالإمكان النظر إلى سيرورة العمل الإبداعي بوصفها عملية صهر معُطيات الواقع، بمعطيات أخرى تتعلق بالذات المبدعة وما تتوافر عليه تلك الذات من ثقافةٍ وخبراتٍ ومَلكَاتٍ تميز مخيلتها الإبداعية وتمنَحُهَا التفَرُّدَ.
وباختصار شديد يمكن فهم العملية الإبداعية في سياق ما ذكرناه سابقًا وفق هذا الشكل التقريبي: الذي يمثلُ فيه الواقع الأول أرضيةً وأساسًا في بناء النَّصِّ ينتهي البناءُ فوقها عبر التعاطي إبداعيًّا معها إلى بناء الواقع الثاني الذهني قبل الكتابة، ثمَّ إلى الواقع الثالث الذي يتجلّى للتلقي عبر حروف الكاتب، وهو ما تمثلهُ بدقةٍ الهرميةُ الإبداعيةُ الآتية التي يتكثف فيها الواقع الأول الأول تدريجيًا عبر مراحل عملية الإبداع:
واقعٌ ثالثٌ وهو الواقع الممكن الذي يتجلى للمتلقي فيما خطتْهُ الذات المبدعة منْتَجًا إبداعيًا نهائيًا

يخرجُ إلى فضاء الكتابة في عملية يمكن تسميتها بالتكثيف الثاني
واقعٌ ثانٍ وهو حالةٌ أو صورةٌ ذهنية تسبق عملية الكتابة، تُرَسِّمها محصلةُ تعاطي الذات المبدعة مع الواقع الأول الكائن

يدخل في حيز إدراك الذات المبدعة، عبر صورة افتراضية ذهنية
يمكن تسميتها بالتكثيف الأول

الواقع الأول / الكائن وما يعجُّ به من وقائع وسياقات تؤثر في التكوينةِ الإبداعيةِ التي تنتجها عملية الكتابة( وهي هنا تكوينة سردية)
وعليه يمكن القول عن قصص سيف الدين التي نقاربها هنا إنها تجربةٌ إبداعيةٌ تمتحُ من معين المعايشة والإحساس بالواقع، ومن ثمَّ فهي تقرأه ثم تتأولُهُ، فتتمثلهُ مرةً أخرى فتحوله إلى واقع ممكن الحدوث يرتدي عباءة السرد دون الجنوح نحو الأسطرة المبالغ فيها، ولذلك فلا يمكن أن تتحقق القراءة الفاعلة لنصوص سيف الدين دون استلهام المحمولات الخارج نصية، وتتبع مسارات تمظهرها داخل تلك النصوص، ومن ثمَّ تأثيرها العميق في بناء منظومة الدلالة لحظة القراءة والتأويل، وكذلك التعرف على الأطوار الثقافية والنفسية للفواعل النصية، ورصد شبكات التعالقات النصية الجلية والخفية بين النص والعالم الخارجي.
1. النسق الدلالي للنَّص وعلاقتُهُ بالمرجعياتِ الخارج نصِّية:
يتجلى الموروث الثقافي والديني لدى عمر سيف الدين بوصفه مرجعيةً خارجَ نصية تكتمل بها القراءة الداخلية لنصِّهِ القصصي من جهة، ويستدل بها على فلسفةِ مشروعهِ الإبداعي من جهةٍ أخرى؛ ففي قصته " الأسير والأمل"يقول سيف الدين " ومع لك لم يصب شيءٌ ساقيه بعضلاتهما الاقوى من الفولاذ. لكنه فقط كان حزيناً لأنه لا يستطيع الوضوء. كان دائماً يأخذ الجهة اليسرى بقليل من الناحية التي تشرق فيها الشمس ويدير عينيه إلى القبلة ويؤدي الخمس فروض في سرية وبالإشارة" (1) هنا تحيل هذه الفقرة إلى دلالات سردية تقول ذاتها ، ثمَّ تقول شيئاً آخرَ غير ذاتها، وهو الدلالات السردية القريبة التي تتجلى للقارئ، ثمَّ بعد كل ذلك تتحول الفقرة إلى منظومة إشارية أبدعها اللسان تحيل إلى السياق الثقافي الذي أُنْتِجَ فيه النَّص؛ إذ يتجلى الموروث الثقافي الإسلامي العميق للذات المبدعة -عبر حُضور النَّص القرآني والحديث الشريف_ موجهًا الدالَ القصصي نحو دلالته الكاشفة عن البعد الروحي للذات الأسيرة؛ فالإرادة المعتصمة بالله، ثمَّ رفع الحرج عن الذات المبدعة وهي تتوضأ، ثمَّ تؤدي صلواتها الخمس، والميل نحو اليسر في أداء تلك الصلوات، وتعمد السِّرية حتى لا ينكشف أمر الأسير العابد فتصيبه اليدُ الآسرة بأذي.... كل ذلك من مدلولات السَّردِ، تقف وراءه الدوال المذكورة في الفقرة المنوه بها منذُ لحظات، وهذه الدوال- من منظور المقاربات السيميائية تشي من ورائها بمرجعيات ثقافية ودينية وفلسفة خاصة بالذات المبدعة. وهذه المرجعيات كثيرة ومتعددة يتجلى للقراءة منها على سبيل المثال:
1. قاعدة رفع الحرج في الفقه الإسلامي.
2. ضرورة القياس على الواقعة في غياب النَّص.
3. مكانة الصلاة في الإسلام.
4. الاعتصام بالله والوثوق في نصره.
وهذه الأخيرة وإن تم الاستدلال عليها من الفقرة المذكورة، إلا أنَّها أكثر حضورًا في عنوان القصة " الأسير والأمل"؛ ومن ثمَّ في بقية أيقونات السَّردِ، إذ يحضر الأمل معادلاً موضوعياً شرساً قوياً في مواجهة الأسْر، فينتصرُ عليه في نهاية القصة عندما يخفقُ الأسر في كسر إرادة الأسير فيتحقق حلم العودة المتسع اتساع الكون والذي يتسع معه الوطن في النهاية فيصبح العلمَ الذي يمكن اصطحابه في أي مكان والاستئناس به حتى في وحشة القبر" إذا مت فلفوني بهذا العلم! أليس الوطن حيث يرفرف عليه هذا العلم الأحمر".(2)
ولو أطلنا النظر في قصة " الأسير والأمل"لوجدناها تقومُ على ثانيئةِ العقيدة/ الأمل إذ يصبحُ الأملُ عقيدةَ صاحبه التي لا تنفصم عراها، كما تصبحُ العقيدةُ منبتاً للأملِ وحاضنةً لهُ، إذ أنزلتْ أيقونةُ السَّرد الأملَ منزلةَ الثبات والديمومة والقوة من خلال ربطه بالمعتقد الراسخِ والإيمان القوي لدى الذات الأسيرة: " لم يفقد أمله طوال ثلاثين سنةً ولو لحظةٍ. كان يقولُ مثل إيماني ببعثي بعد موتي، مثل إيماني كذلك بأني سأعود إلى وطني بعد أسْرِ خمسين عاماً" (3) حيثُ ماثلَ الإيمانُ بالأمل الإيمانَ بالبعث وهو ركن من أركان الإيمان في عقيدة التوحيدِ.
هذا ويستمر التراثُ والثقافة الإسلاميةُ حاضنين لأيقونة السردِّ ومَعينَيْنِ لها يستعصيان على النضوب عبر قصص هذه المجموعة المختارة، بل ربما عبر مشروع سيف الدين الإبداعي في مجملهِ، منوهين – هنا قبل الانتقال إلى مساحات جديدة من السَّردِ في هذه المجموعة- بامتداد تيمةِ الأمل من قصة" الأسير والأمل" إلى قصةِ " الأشجار الجافة": " قال: أهلا بك، كنت أنتظرك./ - أنا؟ / - نعم./- ولماذا؟ /- تريد أن تذهب إلى الحج، أليس كذلك؟/ أمسك دَلي مراد بيدي هذا الشيخ المبارك الذي يعرف كل شيء، ويرى كل شيء، ويأتيه من يخبره بالغيب. قبّل يديه وقال:- لكن يا والدنا العزيز بأي وجه أحج؟ / - الله يعفو عن كل شيء./ - ليس بي سوء. ولكن ذنوبي كبيرة جداً./ - .... / جثا على ركبتيه بجانب السجادة. وأخذ - وهو يبكي بكاءً مرًّا - في سرد ماضيه. طالما أن هذا في ذاكرته فإنَّهُ لا يتجرأ في مسح وجهه على قبر النبي./قال قره بابا:- عندك أربعون دماً./- نعم./- إن الله يعفو حتى عن هذا."(4) و يحضر - هنا - التعالق الثقافي الخفي مع الموروث الثقافي الإسلامي من خلال التعالق مع حديث قاتل المائة نفس الذي أراد التوبة والذي كان - مثَلُهُ مثلَ التائب في هذه الفقرة المذكورة - يائسًا في بداية الأمر من التوبة نظرًا لعظم ذنوبه، وهذا ما جعله يتمثل قول التائب في حديث قاتل المائة نفس عندما قال " دلوني على أعلم أهل الأرض"؛ عبر قولٍ مماثل إلى حدٍ ما " وكان هذا الشيخ أحد العارفين الكبار في زمنه".
ومما يحيل إلى المرجعيات الثقافية لنص سيف الدين حضور الدال الديني متخفيًا وراء الدال القصصي المطروح في قصة التطور(5) ؛ ليشي بفلسفة المجتمع وبهويته الإسلامية وباستلهام الذات المبدعة لتلك الثقافة التي تؤمن بالبعث ومن قبله بحتمية الموت وحقيقته وبكون الإيمان به من ثوابت الإيمان لدى الشخصية المسلمة، ومن لم تتحقق فيه تلك الحضورات للموت فهو ليس من الإنسانية في شيءٍ، بل إنه يكون - ساعتها - أشبه بالحيوان: " نحن الآن هنا، وغداً لا نكون. آخر النهار ليل وآخر النهار ظلام. وآخر النار رماد. مهما اختبأنا في قلاع من الحديد ومن الصلب فبالتأكيد أن سهام الموت لابد أن تصيبنا عاجلاً أم آجلاً. أتساءل ونحن في مواجهة أكيدة بهذا الشكل: هل من يتتبع هواه وينسى نفسه وغده، إنسان؟! أبداً، إنه حيوان .. فما الفرق بين الحيوان ومن يتبع هواه ولا يعرف شيئاً غير شهواته؟(6)
ومن المرجعيات الثقافية الأخرى التي تتجلى عبر تلك الحالة السردية المبدعة بامتياز، إيمان الذات المبدعة بقيم وثقافة المواطنة والانتماء للوطن على مختلف مشاربه الدينية والثقافية والعرقية والتي تتجلى كثيراً عبر إبداع سيف الدين. فهو يقول في ختام " الأسير والأمل": " اعتدل قراماميش في تلك اللحظة مثل قبطان دب فيه الشباب. لم يكن يستطيع الانتظار. طلب درعاً وسيفاً. ثم أشار إلى العلم الذي يرفرف على ظهر السفينة وقال إذا مت فلفوني بهذا العلم! أليس الوطن حيث يرفرف عليه هذا العلم الأحمر".(7) ومثلما يتعالق نصُّ سيف الدين القصصي مع الثقافي والديني نصًّا، وفكرةً؛ فإنه يستجيب لهواجس واقعه السياسية والقومية وهواجس الهوية فيوارب لها مرارًا أبواب الحضور، مثلما هي الحال في قصة " القسم "؛ إذ يحضر هاجس الهوية والقومية ضمنًا منذُ البدءِ حتى يعربَ عن نفسهِ صراحةً في الختام: " كلما بعدنا عن أصالتنا وعن قوميتنا الحدسية كلما انحدرنا في قاع هذه اللاأخلاقية وهذا الجفاء وعدم الوفاء والأنانية والسفالة والذل إلي قاع جهنم وإلي هاوية من الظلام الذي نتدحرج فيه إلى أعماق العفن أكثر وأكثر وبينما نتقلص وننكمش بائسين يتفتح أمامي ماضٍ من نور على شكل سراب بعيد من الحقيقة في جنة اختفت".(8)
1. العنوان بوصفه واحدةً من عتبات التأويل:
يشكل العنوان في الدراسات السيميائية الحديثة مركزاً للدلالة، وعتبةً للدخول إلى عالم النَّص. فالعنوان قد يجيءُ في السرد – مثلما قد يجيء في الشعر - علامةً لغويةً ترابطُ عند مدخل النَّصِّ، فتصبحُ جوازَ مرورٍ نحو أفق التلقي ومآلات الدلالة، بل تصبحُ - أيضاً - الوسيطَ الفاعل بين النَّص والتداول ( أقصد بالتداول هنا التلقي في صياغاتِهِ المتنوعة المتعاقبة على النَّص الواحد). هذا هو العنوان في النصوص الجديدة، وهذه بعض سماته الوظيفية في عمليتي الإنتاج والتلقي......... (9) وهذا ما يجعلنا نقول إن العنوان هو ابن النَّص( وذلك لكونه يكتب في كثير من الأحيان بعد كتابة النَّص وليس قبله )، فيه من صفاته بالنسب والوراثة ما يجعلُهُ مفتاحاً للدخول إلى عالم أبيه، فتسهل عملية التأويل والكشف عن / في ذلك العالم.
وباختصار يمكن النظر إلى عناوين سيف الدين القصصية من هذا المنظور السيميائي؛ إذ إنها تحيل إلى نفسها، ثمَّ إلى شيئٍ آخر غير نفسها، وبالتالي فإنها تشارك الدوال الأخرى المنتشرة عبر فضاء النصوص في إتمام عملية القراءة والتأويل. وللعنوان في مشروع سيف الدين القصصي مقاصد دلالية عدة. فالعنوان في " الأسير والأمل" (10) يحضر بوصفه دالاً مركزيًا قويًا يُوجِّهُ مساراتِ السَّردِ والتأويلِ حتى آخر القصة التي تنتهي بانتصار الأمل على الأسْرِ كما أسلفنا، وهو يحضر بالوصف نفسه في معظم القصص التي نقدم لها - هنا- إلا أنه أكثر حضورًا وتجليًّا بهذا الوصف في قصة " التطور" (11) ، حيث أشار العنوان بشكل استباقي لسيرورة الأحداث في القصةِ، وهي تتصاعد نحو نقطة النهاية موحيةً باستمرار بأنَّ ثمَّةَ تغيرًا ينتظرُ في ناهيتها. وقد يحضر العنوان بوصفه شفرةً ولازمةً يساهم تأويلها في تأويل النسق القصصي الذي تتجلى من خلاله، مثلما هي الحال في قصة "الأشجار الجافة"؟ (12) ، إذ يتحول العنوان إلى لازمة قصصية ظلت تومضُ صراحةً، وضمنًا عبر ثنايا النَّص؛ لتوحيَ بعظم ذنوب البطل وبمدى الخوف من عدم حصول التوبة. وقد يشي العنوان أحياناً لدى سيف الدين بتقنية بعينها تمثل التقنية الأساس في قصة بعينها، مثلما هي الحال في قصة " العشق وأصابع القدم"(13) ؛ إذ تشي مفارقة التركيب في العنوان بمفارقة الأحداث عبر القصة. هذا وقد يحضر العنوان بوصفه مؤولاً ومخففًا من حدةِ المفارقة التي يقوم عليها العمل القصصي مثلما هو الحال في قصة "الإيمان بالشفقة"(14) ؛ فقد تحول العنوان إلى كاسر لحدة المفارقة في بنية القصة فاللص والمجرم والسارق يمكن أن يدفعه إحساسه الإنساني بالشفقة على الآخرين إلى معاملتهم معاملة إنسانية غاية في الرقي قد تصل إلى الإحسان إليهم وتقديم يد المساعدة والعون في مشهد مفارق لا يكسر حدته سوى الإحساس بالشفقة؛ فاللصوص يجدون البطلَ مثيراً للشفقة لا عمل له، ولا حيلة له في الرزق، فيسندون إليه بالإكراه فرصة عمل لحظية يعطونه بعدها مقابلاً، ثم يتركونهُ، ويتركهم وشأنهم بعدها:" فكر أن يتركهم ويهرب. لكنه قطع على نفسه عهداً بأن ينتظرهم. ألا تكون سفالة منه إذا هرب!! ....قالوا هذا وابتعدوا عنه. نظر رشيد إلى الورقة التي أعطوها له. كانت ورقة بنكنوت كبيرة بمبلغ ليرتين ونصف ليره. وكأن شمساً دفيئة ولدت فجأة في ظلمات الضمير. ندم على ما فكر فيه على وصمه الناس جميعًا بالخيانة. ها هي الحياة ليست مثلما كان يظن. هناك أيضاً الناس الذين لا يعرفون مفهوماً اسمه "الحق" لكنهم يقدمون شيئاً لفقير جائع وهم يتألمون! ليست الفضيلة والطيبة والمرحمة والشفقة خيالاً! والشاهد على هذا ما يمسكه في يده من ورقة مالية هي ليرتان ونصف ليرة" "(15) وهكذا كلما ازداد مشهدُ المفارقةِ حدةً، كلما حضرَ عنوان القصة ماثلاً ليكسرَ من تلك الحدة، فحضور الوفاء في مقام الخيانة، والمروءة في مقام النذاله، والعدل في مقام الجور، والأمانة في مقام السرقة، والصدق في مقام الكذب، كل هذه المشاهد المفارقة ما كان لحدتها أن تنكسر بعضَ الشيء إلا على صخرة الشفقة التي فسرت حضور تلك المشاهد المفارقة في عالم سيف الدين القصصي. وهذا ما يتعلق بوظيفة العنوان التي يمارسها في النَّص. أمَّا عن وظيفة النَّص الدلالية في العنوان فهي تتجلى بوضوح في قصة "التطور" (16) ، التي المحنا لها من قبل، إذ يحيل السياق على معنى التطور من منظور الذات المبدعة وفلسفتها، وذلك بوصف هذا التطور يأخذ مسار الدائرة وليس مسار الخطوط المستقيمة، فالأشياء تعود بعد التطور إلى ما كانت عليه في البدء: "اضحكوا أيها الناس، اضحكوا فآخر الضحك بكاء، وآخر الوصل هجران وآخر الصيف الخريف .. وآخر الإقبال زوال .. وآخر الحياة، الموت. ترى أيها الناس ماذا لو نظرتم إلى هذه الدنيا بنظرة الاعتبار .. يا رب .. يا رب"(17)
وهذه الرؤية للتطور من منظور الذات إنما تحيلُ في الآن نفسه إلى مرجعية خارج نصية تعاطت معها الذات المبدعة وتعالقت معها نصًّا وفكرةً وهي مرجعية دينية تشكل فلسفة الذات ورؤيتها تجاه مفهوم التطور تعود إلى قوله عزَّ وجل في سورة الحج "... ومنكم من يردُّ إلى أرذلِ العمرِ لكي لا يعلم من بعد علمٍ شيئًا"( الحج من الآية 5) ، ولقوله سبحانه " ومن نعمره ننكسه في الخلقِ أفلا يعقلون " ( يس 68).
وقد تتعمد نصوص سيف الدين اللعب بورقة الإثارة بما يحفز التأويل على فك شفرة الإبهام القصدي لعناوين نصوصهِ في محاولةٍ للكشف عن العلاقة الدلالية بين عنوان النَّص وجسده مثلما هي الحال في قصته" العشق وأصابع القدم" (18)؛ إذ يتحول جسدُ النَّصِّ بعدَ إتمامِ عمليةِ القراءةِ إلى مفاتيح يُفَكُ بها شفرةُ العنوان وتكتمل معه دلاليًا، وقد يحدث أن يحيلك السياق للعنوان للبحث عن الفاعل وراء المشهد المفارق الصادم في بعض القصص كما في قصة" المربية"(19)؛ إذ ربما يكون هو عينُهُ (العنوان/ المربية) الفاعلَ الحقيقي وراء الحدث المفارق الذي يقع للبطل في نهاية القصة:" حدث أني خبأت مفتاح بابها معي، وتوجهت وأنا على هذا الحال إلي غرفتي وفي منتصف الليل فتحت باب أدريان وأنا في كامل الأمن والآمان كانت الغرفة تغرق في ظلام دامس. كان دليلي نَفَس خفيف اسمعه. وتقدمت بهدوء وأنا أتحسس المكان بيدي. وعندما اقتربت من السرير، أحسست بيدي أن ليس هناك لحاف ولا نحوه. طبعاً أعطيتها الحق، فقد كنا في حر يوليو ولا يمكن النوم إلا هكذا بدون ألحفه. وإذا بأصابعي تتحسس شيئاً ناعماً، وصوت يرتفع:من هناك؟ كنت قد أمسكت بلحية أبي في هذا الظلام. "(20)
وهكذا تتنوع أدوار العنوان في سرد عمر سيف الدين في هذه المجموعة القصصية إلى الدرجة التي تجعل ما ذُكر في هذا الشأن يعدُّ مثالاً لا حصرًا.
المصادر و الهوامش والإحالات:
(1) القصص المختارة عمر سيف الدين، ترجمة محمد حرب، دار قوناق للنشر، ط1،2012م، ص50.
(2) القصص المختارة، ص56.
(3) القصص المختارة، ص50.
(4) ص38،40.
(5) ص102
(6): ص106.
(7) : ص56.
(8): ص26.
(9): انظر في ذلك كتابنا، الانتهاك ومآلات المعنى، مقاربات سيميائية في الخطاب الشعري الحديث، دار نينوى للنشر والتوزيع،2015م.
(10):القصص المختارة عمر سيف الدين، ترجمة محمد حرب، دار قوناق للنشر، ط1،2012م، ص48.
(11): القصص المختارة عمر سيف الدين، ص102.
(12): ص38.
(13): ص74.
(14): ص94 .
(15): ص98.
(16): ص102.
(17): ص108.
(18): ص74.
(19): ص66.
(20): ص72.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.