الاتجار في أدوية التأمين الصحي «جريمة»    ترامب يتعهد بمقاضاة "بي بي سي": سأطلب تعويضا بالمليارات    كوبري الباجور العلوي، أزمة مستمرة للعام الثاني بسبب أعمال الصيانة (صور)    نشرة أخبار طقس اليوم 15 نوفمبر| الأرصاد تكشف تفاصيل أجواء الساعات المقبلة    عمرو سعد يطمئن الجمهور بعد حادث شقيقه أحمد: "الحمد لله بخير"    إقامة المتاحف ووضع التماثيل فيها جائز شرعًا    حكم شراء سيارة بالتقسيط.. الإفتاء تُجيب    «رحيل المدفعجي».. وفاة محمد صبري لاعب الزمالك السابق تهز قلوب الجماهير    العنف المدرسى    أحمد سعد يتعرض لحادث سير ويخضع لفحوصات عاجلة بالمستشفى    فلسطين.. جيش الاحتلال يعتقل 3 فلسطينيين من مخيم عسكر القديم    ترامب: سنجري اختبارات على أسلحة نووية مثل دول أخرى    ترامب: أشعر بالحزن لرؤية ما حدث في أوروبا بسبب الهجرة    انفراد ل«آخرساعة» من قلب وادي السيليكون بأمريكا.. قناع ذكي يتحكم في أحلامك!    مناقشة رسالة دكتوراه بجامعة حلوان حول دور الرياضة في تعزيز الأمن القومي المصري    دعاء الفجر| اللهم ارزق كل مهموم بالفرج وافتح لي أبواب رزقك    مقتل 7 أشخاص وإصابة 27 إثر انفجار مركز شرطة جامو وكشمير    عضو جمهوري: الإغلاق الحكومي يُعد الأطول في تاريخ الولايات المتحدة    تفاصيل مشروعات السكنية والخدمية بحدائق أكتوبر    اشتباكات دعاية انتخابية بالبحيرة والفيوم.. الداخلية تكشف حقيقة الهتافات المتداولة وتضبط المحرضين    أموال المصريين غنيمة للعسكر .. غرق مطروح بالأمطار الموسمية يفضح إهدار 2.4 مليار جنيه في كورنيش 2 كم!    مناوشات دعاية انتخابية بالبحيرة والفيوم.. الداخلية تكشف حقيقة الهتافات المتداولة وتضبط المحرضين    استقرار سعر الريال السعودي أمام الجنيه المصري خلال تعاملات السبت 15 نوفمبر 2025    جوائز برنامج دولة التلاوة.. 3.5 مليون جنيه الإجمالي (إنفوجراف)    عمرو عرفة يحتفل بزفاف ابنته بحضور ليلى علوي ومحمد ورامي إمام وحفيد الزعيم    "رقم واحد يا أنصاص" تضع محمد رمضان في ورطة.. تفاصيل    نانسي عجرم: شائعات الطلاق لا تتوقف منذ زواجي.. ولا أقبل أن أعيش غير سعيدة    هولندا تضع قدما في المونديال بالتعادل مع بولندا    مستشار الرئيس الفلسطيني: الطريق نحو السلام الحقيقي يمر عبر إقامة الدولة الفلسطينية    باحث في شؤون الأسرة يكشف مخاطر الصداقات غير المنضبطة بين الولد والبنت    شتيجن يطرق باب الرحيل.. ضغوط ألمانية تدفع حارس برشلونة نحو الرحيل في يناير    صدمة في ريال مدريد.. فلورنتينو بيريز يتجه للتنحي    إلى موقعة الحسم.. ألمانيا تهزم لوكسمبورج قبل مواجهة سلوفاكيا على بطاقة التأهل    سيارة طائشة تدهس 3 طلاب أعلى طريق المقطم    عصام صفي الدين: السلوكيات السلبية بالمتاحف نتاج عقود من غياب التربية المتحفية    إبراهيم صلاح ل في الجول: أفضل اللعب أمام الأهلي عن الزمالك.. ونريد الوصول بعيدا في كأس مصر    فرنسا: 5 منصات تجارية تبيع منتجات غير مشروعة    سفير السودان بالاتحاد الأوروبي يشيد بالدور المصري ويشدد على وحدة السودان واستقراره    رئيس قناة السويس: تحسن ملحوظ في حركة الملاحة بالقناة    حسام حسن: هناك بعض الإيجابيات من الهزيمة أمام أوزبكستان    زعيم الثغر يحسم تأهله لنهائي دوري المرتبط لكرة السلة    إخماد حريق في مخبز وسوبر ماركت بالسويس    اليوم.. أولى جلسات استئناف المتهمين في حادث الطريق الإقليمي بالمنوفية    قائد الجيش الثالث: الدور التنموي يكمن في توفير البيئة الآمنة لتنفيذ المشروعات القومية    مصر تبيع أذون خزانة محلية ب99 مليار جنيه في عطاء الخميس.. أعلى من المستهدف بنحو 24%    اليوم.. انقطاع الكهرباء عن 31 قرية وتوابعها بكفر الشيخ لصيانة 19 مغذيا    بيان من مستشفى الحسينية المركزي بالشرقية للرد على مزاعم حالات الوفيات الجماعية    رئيس الطب الوقائى: نوفر جميع التطعيمات حتى للاجئين فى منافذ الدخول لمصر    آخر تطورات الحالة الصحية لطبيب قنا المصاب بطلق ناري طائش    الباز: العزوف تحت شعار "القايمة واحدة" عوار يتحمله الجميع    تربية عين شمس تحتفي بالطلاب الوافدين    «الصحة» تنظم جلسة حول تمكين الشباب في صحة المجتمع    انطلاق برنامج دولة التلاوة عبر الفضائيات بالتعاون بين الأوقاف والمتحدة في تمام التاسعة    تكافؤ الفرص بالشرقية تنفذ 9 ندوات توعوية لمناهضة العنف ضد المرأة    الائتلاف المصري لحقوق الإنسان: صعود المستقلين وتراجع المرأة في المرحلة الأولى لانتخابات النواب    مؤتمر السكان والتنمية.. «الصحة» تناقش النظام الغذائي ونمط الحياة الصحي    صندوق "قادرون باختلاف" يشارك في مؤتمر السياحة الميسرة للأشخاص ذوي الإعاقة    سنن الاستماع لخطبة الجمعة وآداب المسجد – دليلك للخشوع والفائدة    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



على ظهر المحروسة
نشر في محيط يوم 08 - 08 - 2015

أُثمِّن مدخراتى التي ورثتها عن والدي رحمه الله الذى عمل يوماً مديرًا لمصلحة الآثار العربية قبل تحويلها إلي هيئة ووزارة كانت بعض المراجع الدينية والتاريخية والمخطوطات والمذكرات التي كتبها أصحابها بخط أيديهم يوم كانوا ملء السمع والبصر.. ولأن لكل مناسبة رموزها وجدتني في خضم أفراح الوطن بافتتاح قناة مصر الجديدة أستعيد قراءة مذكرات صديق والدى «قلينى فهمى باشا» آخر المصريين الذين عاصروا الخديوى إسماعيل وعملوا إلي جانبه، وأعطاه الله فسحة من العمر ليذهب إليه الوالد مُلبياً دعوته العاجلة للقائه في مزرعته بمغاغة عام 1948 حيث أقعده المرض ووهن التقدم في العمر ليعهد إليه بكراسة مذكراته التي كتب فيها الكثير عن الخديوى المجبر علي التنازل عن عرشه، الذي قاموا بوداعه في محطة مصر يوم الاثنين 30 يونيه 1879 عندما وقف يحتضن ابنه توفيق وعيناه مغرورقتان بالدمع قائلا له: «لقد ارتضت إرادة سلطاننا المعظم أن تكون يا أعز البنين خديوى مصر، فأوصيك بأخوتك وسائر أهلك خيرًا، وبودى لو استطعت قبل ذلك أن أُزيل بعض المصاعب التى أخاف أن تجلب لك الارتباك، علي أننى واثق بحزمك وعزمك فاتبع رأى ذوي مشورتك وكن أسعد حالا من أبيك».
كتب قلينى باشا فى أوراقه النادرة: «لم يفكر إسماعيل لحظة في أن يتولي العرش بعد وفاة سعيد باشا في 18 يناير 1863 وله من العمر 42 عاماً ليُدفن بمسجد النبي دانيال بالإسكندرية بعد أن حكم البلاد ثمانية أعوام وتسعة أشهر وستة أيام.. وذلك لأن أخاه الأمير أحمد باشا رفعت كان أكبر منه وأولي منه بالعرش، ولكن إرادة الأقدار فوق إرادة البشر، فقد حدث في عام 1858 أن أقام سعيد باشا وليمة بالإسكندرية دعا إليها كل الأمراء فلبّوا جميعاً الدعوة بما فيهم ولي العهد الأمير أحمد رفعت باشا، وبعد الفراغ من الوليمة عاد إلي القاهرة بقطار خاص وبصحبته الأمير عبدالحليم و30 شخصاً من رجالات الحاشية، وتصادف عند وصول القطار إلي كوبري كفرالزيات أن الكوبرى كان مفتوحاً لمرور السفن فلم ينتبه السائق للخطر الداهم إلا بعد فوات الأوان، وسقط القطار في النيل، وغرق كل من فيه إلا عبدالحليم باشا، ليجد إسماعيل نفسه فجأة ولياً لعهد الأريكة المصرية تبعاً لنظام التوريث»..
ولا يترك قلينى باشا جانباً من شخصية إسماعيل وأعماله إلا ويأتى على ذكره ولكن بخط عانيت صعوبة بالغة في فك طلاسمه من خلال نشع الحبر دوائرا تجريدية حول الكلمات التي تحكى تاريخاً شاهده صاحب المذكرات بعينيه وعاشه في أجوائه الطبيعية: «كانت القاهرة أول ما ولى العرش لا تتجاوز المنطقة ما بين حى السيدة زينب وخان الخليلي، فمدها طولا وعرضاً، وأصبح في مصر حديقة عظيمة للحيوان، وحديقة الأزبكية، وبنى دار الأوبرا، وأنشأ طريق الأهرام وغرس الشجر علي جانبيه في 40 يوماً، ولم تكن شركة المياه قد وجدت يومئذ فكان الماء ينقل لرى هذا الشجر بواسطة العربات، ولم يكن مجلس النُظار قد وجد في عهد إسماعيل وإن وجد النظار، وكان هو الآمر الناهى في كل شيء، ولعل هذا هو الذي مكنه من تنفيذ المشروعات الإصلاحية الكثيرة التي نفذها في أسرع وقت، ومنها رفع مستوى التعليم حيث كان عدد التلاميذ في عهد محمد علي نحو 3000 وبلغ في عام 1873 في المدارس الحكومية 89893 تلميذًا، عدا من كانوا يدرسون دراسات عليا، أو كانوا في سلك المدارس الأهلية وذلك في بلد لم يكن يزيد عدد سكانها وقتها علي 5250000 ليجعل نسبة المتعلمين نحو 172 في كل عشرة آلاف بينما كانت النسبة في روسيا وقتها 150 في كل عشرة آلاف، ويعود لإسماعيل فضل إنشاء أول مدرسة للبنات في مصر، حيث تفرع منها عدة مدارس أخرى كانت جميعها بالذات تحت رعايته مباشرة، وكان الجيش موضع عنايته الكبري منذ بداية حكمه فزوده بمختلف الأسلحة وأحضر له البنادق الحديثة من فرنسا، والتفت إلي القلاع وبخاصة قِلاع الإسكندرية فحصنها بالمدافع الضخمة التى جلبها من مصانع ارمسترنج بإنجلترا، وزاد عدد الجيش حتى بلغ 180 ألفا وأرسل إلي فرنسا بعثة حربية من 15 ضابطاً لدراسة النظم العسكرية وعادوا لتطبيقها علي الجيش المصرى، وشيَّدَ في طرة معملا لصنع الأسلحة، وآخر لصب المدافع، ومصنعاً لصنع البنادق، عدا معامل الخرطوش والقنابل، وأصلح مصانع البارود حتى طار ذكره في الآفاق مما جعل سلطان مراكش يُرسل البعثات إلي مصر لتعلم صناعة البارود، وأنشأ للجيش صحيفتين حربيتين يحررهما الضباط وكان إسماعيل من أنصار حرية الصحافة ولذا أطلق العنان لأصحاب الأقلام فظهرت في عهده الصحف السياسية التي تتنافس في الحملات علي المطامع الأوروبية والتنديد بالسياسة الاستعمارية، وكانت هناك صحيفتان للمعارضة هما «مرآة الأحوال» و«أبونضارة» لصاحبهما يعقوب صنوع.. وتعد صحيفة «وادي النيل» لصاحبها «عبدالله أفندى أبوالسعود» أقدم صحيفة سياسية فقد تأسست في عام 1867، إلي جانب جريدة «نزهة الأفكار» الأسبوعية المهتمة بالنقد التي صدرت في 1869 لصاحبها «إبراهيم بك المويلحى»، وجريدة «كوكب الشرق» الشاملة لسليم باشا حموى، وجريدة الأهرام لسليم وبشارة تكلا التي صدرت في الإسكندرية عام 1875 ثم انتقلت للقاهرة، وكانت في بدايتها أسبوعية ثم يومية، ومن أشهر أصحاب الأقلام في تلك الصحف كان رفاعة رافع الطهطاوى، والشاعر محمود سامي البارودى، ومصطفي لطفي المنفلوطى، وإبراهيم المويلحى، وعبدالله النديم، والإمام محمد عبده، وعلي باشا مبارك، والشاعرة عائشة عصمت تيمور صاحبة ديوان «حلية الطراز» ورواية «نتائج الأحوال في الأقوال والأفعال» التي كتبتها بأسلوب المقامات الحريرية.
وكانت الحفلات التي أقامها الخديوى لافتتاح قناة السويس مضرب الأمثال في التاريخ بعدما لبى ملوك أوروبا وأمراؤها دعوته وعلي رأسهم أوجينى التي أحضرت معها هدية لليخت «المحروسة» عبارة عن بيانو ثمين تتصدره لوحات من رسومات عصر النهضة، وقد شيّد سموه قصر النيل «سراى لطف الله» خصيصاً لتقيم فيه الضيفة العظيمة أياماً، بل لقد أنشأ مدينة «الإسماعيلية» ليُقيم بها بعض حفلات الافتتاح، وإلي جانب الأوبرا التي شُيّدت في خمسة أشهر أنشأ الخديو في الإسكندرية مسرح زيزينيا ومسرح الفييرى، وفي القاهرة أنشأ مسرح الكوميدى بالأزبكية، ولأنه كان محباً ومشجعاً للفنون الجميلة، ويطرب للصوت الجميل فإنه قرب إليه «عبده الحامولى» كما قرب «ألمظ» صاحبة الصوت الذي لم يكن له نظير، وقد اصطحب معه الحامولي مرافقاً في جميع حفلاته حتي عندما سافر إلي الأستانة ليلتقى هناك بكبار الموسيقيين الأتراك ليقتبس من ألحانهم ما يلائم الذوق المصرى مبتكرًا ألحاناً جديدة مزيجاً من التركية والعربية، وعندما لاحظ الحامولي شدة إعجاب الخديو بأداء ألمظ خاف علي مكانته الفنية، فقام بالتقرب إليها حتى وافقت علي الزواج منه بشرط أن يترك كلاهما صنعة الغناء وينشئان معاً من مدخراتهما «خان» متجرًا كبيرًا للأقمشة فوافقته على الامتناع عن الغناء إلا عند الخديوى فاضطر للقبول، ونفذ سى عبده مشروعه التجارى إلا أنه أفلس بعد ثلاثة أشهر فاستأنفا معاً هو وألمظ مشوار الغناء، وفي هذا العهد اشتهر محمد العقاد القانونجى سلطان العازفين..
وإذا ما كان إسماعيل المولع بالهندسة والتشيّيد وزخارف البناء التى درس فنونها في فترة صباه بفرنسا قد شق الطرق الجديدة في القاهرة والإسكندرية وشيَّدَ فيهما قصوراً منيفة كقصر عابدين، وسراى الجزيرة، وسراى بولاق الدكرور، وقصر القبة، وقصر حلوان، وسراى الإسماعيلية، وسراى الزعفران، وقصر النزهة بشبرا «مدرسة الخديوية»، وسراى المسافرخانة، وقصر النيل بالقاهرة، وسراى رأس التين وسراى الرمل بالإسكندرية، فإنه رغم تلك الباقة المتفردة من الإعجاز الهندسي الجمالي كان يحيا في قصر عابدين حياة عملية طابعها البساطة وجدية العمل، حيث خصص أحد الأجنحة الكبيرة لمكاتب الحكومة والاستقبالات وجناحا صغيرا يضم غرفة لسكرتيرة ملاصقة لغرفته التي لا تضم سوي سجادة إيرانية وفراشاً وبضعة مقاعد ومكتباً مذهباً صغيراً، حيث يستيقظ سموه في الثامنة لاستقبال أولاده الأربعة الذى يشغل أحدهم منصب رئيس المجلس الخاص، والثاني وزير المالية، والثالث وزير الحربية، والرابع الأشغال، وبعدهم يستقبل الوزراء وكبار الموظفين بناء علي مواعيد سابقة، ثم قناصل الدول، ومع مدفع الظهر يحين موعد الإفطار، وقليلا ما كان يذهب في إحدى المركبات المتواضعة للنزهة عصرًا لمدة ساعتين في شارع شبرا أو العباسية، ثم سلسلة أخرى من المقابلات حتي السابعة لتناول الطعام في الوجبة الرئيسية، ثم ساعتين أو ثلاث في شرفة القصر للسمر، وبعدها استئنافا للعمل في مكتبه حتى منتصف الليل أو ما بعدها..».. ويتعجب قلينى باشا ممن زعموا زورًا وبهتاناً بأن إسماعيل كان ممن يقضون لياليهم في اللهو والشراب، بينما المعلوم أن الذاكرة هي أول ما يتأثر في الجسم بالإفراط في الشهوات ويكتب فى مذكراته: «فإن صح ما زعموا فكيف بربك كانت لإسماعيل تلك الذاكرة المدهشة التي همس لى عنها المستر (موبرلى) مراسل التايمز قائلا: حدث أننى اختلفت معه علي نص من النصوص الواردة في المفاوضات الخاصة بقناة السويس فما كان منه إلا أن بادرنى بترديد ما لا يقل عن عشرين سطراً قد وردت في إحدى الوثائق غير المهمة التي لابد وأن تكون قد وقعت عليها عيناه منذ عشرة أعوام علي الأقل، فدونت أقواله ثم رجعت بعد زمن إلي الوثائق وكم كانت دهشتى عندما رأيتها بنصها كما ذكرها إسماعيل».
ويكتب قلينى باشا عن دوره في تفاتيش إسماعيل: «كان يملك مئات الألوف من الأفدنة في أنحاء البلاد ومنها جميع أراضى مديريتى بنى سويف والمنيا، عدا 15 مصنعاً للسكر تكلف كل منها مليونا ونصف المليون وكانت تشرف علي هذه الثروة الضخمة إدارة تسمى (الدائرة السنية) وهى التي بدأت فيها حياتى العملية، وأنا في التاسعة عشرة، وكانت هذه الأراضى مقسَّمة إلي (تفاتيش) كل (تفتيش) لا تقل مساحته عن سبعين ألف فدان، فإذا أراد سموه أن يكافئ أحدًا علي إخلاصه في العمل، أقطعه جزءا منها!.. وإنى لأذكر أن سموه أهدي مرة إلي المرحوم فخري باشا خمسمائة فدان في تفتيش (طناح)، فلما أراد تسلمها طلب منه (المسّاح) الذى يقيسها (برطيل) أى رشوة ليعطيه حقه كاملا، ولم يقبل فخري باشا، فعمد (المسّاح) إلي تسليمه الأطيان المهداة إليه ناقصة 25 فداناً»!.. وشكا فخري باشا إلي الدائرة السنية، فأرسلت عدة لجان للتحقيق وإذا بالمسّاح يصر علي أن المِساحة التي عينها هي خمسمائة فدان، ويتهم كل لجنة بأنها تريد التهام أرض الخديوى، فتعود أدراجها في سكون متخاذل!..
وأخيرًا كلفت أنا بالتحقيق، فلم أذهب إلي التفتيش مباشرة، بل ذهبت إلي أرض تجاوره كانت ملكاً للمرحوم علي باشا مبارك، وهناك عرفت أن صاحبنا (المسّاح) يستعمل هذه الطريقة مع كل من يبخل عليه ب(البرطيل)، ثم دعوته وطلبت منه أن يعد لي بياناً بالقطع المهداة من التفتيش، وتظاهرت بأننى معه، فلما قدم البيان قلت له إننى سأقيس المساحة الباقية التي لاتزال مِلكاً للخديوى.. علي أنه كفاني مشقة ذلك، وأقر بأن مجموع الأراضى التي اقتطعها ممن أهديت إليهم يبلغ 12 ألف فدان، فلم يأخذها طبعاً، بل ضمت إلي أرض التفتيش!.. وهنا لك أمرت بالقبض عليه، وضربته علقة ساخنة، ثم فصلته من عمله، فلما وصل الأمر إلي الخديوى أقرّ ووافق علي ما فعلته، قائلا إنه هو الذى أهدى، فلا مبرر لأن يأخذ مما أهدى بهذه الوسيلة غير المشروعة!.. وكان في مغاغة مفتش بالدائرة السنية يدعي عكوش أفندى.. فاقترح علي الخديوى زراعة 60 فداناً من الزيتون وإنشاء معصرتين لاستخراج الزيت منها ومد البلاد به، وتصدير الفائض إلي الخارج.. ووصل نبأ هذا المشروع إلي المرحوم محمد سلطان باشا حاكم الصعيد، فقال للخديوى إنه مشروع خيالي، فرد عليه قائلا: «إن عكوش يتخيل ويكذب، ولكن كذبه يبسطنى ويروق ليّ، وأنت تصدق ولكن صدقك يثقل علىّ!.. وفعلا أنشئت المعصرتان في «أبوكساه» ولم يصلح زيتهما لا للداخل ولا للتصدير!
وفي عهد إسماعيل باشا توليت إنشاء ساحل روض الفرج وأثر النبي.. وقد افتتح سموه ساحل أثر النبي في حفل عظيم أشرفت علي إعداده بنفسى.. ولاحظ محمد مدكور باشا محافظ العاصمة وقتها وكان مدعوًا أننى وجهت الدعوات باسمي، فاعترض علي ذلك قائلا إن توجيه الدعوة كان ينبغى أن يتولاه من هو أكبر مني، فتقدمت إليه قائلا: «إننى أنا الذي دعوتك، وفي استطاعتى أن أخرجك»! ثم دعوت عشرين حارساً وأمرتهم بأن يقفوا حوله ويحاصروه فى مكانه حتى تنتهي الحفلة.. وقد كان! فذهب بعد ذلك إلي قصر عابدين شاكيّاً، فإذا بالخديوى إسماعيل رحمه الله ينصرنى، ويقول له إنه أخطأ حين اعترض، لأننى أنا من قاسيت المشاق وذللت الصعاب وسهرت الليالي حتى الصباح حتي أتممت العمل علي أكمل وجه وأعددت عدة الافتتاح المشرف.. ولما أجبر رحمه الله علي التنازل عن العرش ركب المحروسة لتقله إلي اسطنبول إذ دعاه السلطان عبدالحميد، ولكنها لم تكد تبتعد عن شاطئ مصر، حتى أمر بتحويل اتجاهها إلي إيطاليا، إذ خشي أن يكون السلطان قد دبر له مكيدة!.. وقد تشرفت بمقابلته في قصره الريفي الذي كان يُقيم فيه بفرنسا بعد تنازله عن العرش. وتناولت أحاديثنا الكثير من الذكريات، حيث أخذ علي الخديوى توفيق تهاونه الذي أدى إلي دخول الإنجليز، وقال إنه لو بقي علي عرشه لما مكَّنَ المستعمر من احتلال البلاد!»..
وينهى قليني باشا مذكراته عن الخديو إسماعيل مذكرًا بأنه انتقل من فرنسا إلي الأستانة في عام 1888 حيث استقبل بحفاوة ليُقيم في قصر «أمرجيان» علي البسفور ليرحل في 2 مارس 1895 وله من العمر 65 عاماً لتحمله الباخرة «توفيق رباني» وليس المحروسة في 10 مارس للإسكندرية تحرسها البارجة العثمانية «عزالدين» ليوارى في الرفاعى ويتبارى الشعراء في رثائه ليكتب أحمد شوقى قصيدة يختمها بقوله:
إنما الموت منتهي كل حى..
لم يصب مالك مع الملك خُلدًا
وكان الخديوى إسماعيل قد أصدر فرمانه ببناء يخت المحروسة أول يخت ملكى مصرى في عام 1863 ليتسلمه فى الأستانة في 1865، ويتجول به في دول أوروبا عام 1868 لدعوة زعمائها وملوكها لحفل افتتاح قناة السويس الأسطورى في 17 نوفمبر 1869 الذي حضرته أوجينى إمبراطورة فرنسا، والأمير هيرتر البروسى، وفرانس جوزيف إمبراطور النمسا، وأمير وأميرة هولندا، ويصعد علي ظهر اليخت عباس حلمي الثانى في عام 1899ليزيح الستار عن تمثال ديليسبس في بورسعيد، ويسافر عليه في إجازة إلي الأستانة عام 1914 فيتم خلعه هناك ليعود اليخت شاغرًا من صاحب أريكة العرش.. وفي تاريخ المحروسة يتم له عدة عَمرات أولها في عام 1872 عندما كان طوله 125 مترا فوصل إلي 137٫5 متر، وفي عام 1912 يتم استبدال طارات الدفع الجانبية إلى مراجل بخارية مع ادخال نظام التلغراف اللاسلكى أحدث وسيلة اتصال وقتها، وأثناء ثورة 19 تمت إجراء عَمرة ثالثة ليزيد طول اليخت من 137٫5 متر إلي 146٫5 متر، ويسافر عليه الملك فؤاد عام 1926 لافتتاح مدينة بور فؤاد، ويحمل علي ظهره الأمير فاروق قادماً لمصر قاطعاً رحلته التعليمية ليتولي عرش البلاد عام 1937، وفي عام 1939 يذهب اليخت ليحمل للبلاد ولي عهد إيران محمد رضا بهلوي ليعقد قرانه علي الأميرة فوزية لتصحبه في عودة اليخت إلى طهران ترافقها الملكة الأم نازلي، ويرسل فاروق اليخت الملكى لإحضار ملك السعودية عبدالعزيز في زيارة لمصر ليتم استقباله باحتفال عسكرى مهيب علي ظهر المحروسة بمناسبة ذكرى جلوسه علي العرش، وفي عام 1849 يرسل اليخت إلي إيطاليا لتجديده ليغدو ارتفاعه خمسة أدوار من بعد أربعة ويعود لموطنه في يناير 52، حيث يغادر من فوقه الملك فاروق البلاد في 26 يوليو 1952 بعد قيام الثورة كأحد شروط تنازله عن العرش، ويبدل عبدالناصر الاسم التاريخى إلي «يخت الحرية» ليسافر به في رحلاته العديدة ويستقبل في صالوناته أهم ضيوفه من العرب والأجانب ومنهم الملك محمد الخامس، وتيتو، وخروشوف، وبن بيللا، ويستضيف السادات بعدها علي متنه الملوك والرؤساء ومنهم الملك فيصل والملك خالد والسلطان قابوس، وكان قد حضر علي متنه عام 74 مناورة بحرية مع الملك فيصل، وفي عام 75 يشارك اليخت التاريخى في الافتتاح الثانى للقناة، وفي عام 76 يسافر في رحلة ال2700 ميل بحرى للمشاركة في العيد المئوى لاستقلال الولايات المتحدة، حيث قام بزيارته آلاف الأمريكيين في العديد من الموانئ، وكان من بين ضيوفه مسز فورد.. ويضع السادات في اعتباره خلال زيارته عام 79 للكنيست أن يتم السفر باليخت التاريخى حتى ميناء حيفا وبعدها استقل طائرته إلي مطار بن جوريون ليخفف من وطأة الرحلة ربما علي نفسه، وفي عام 1980 احتفل السادات من فوق اليخت بافتتاح شرق التفريعة، ليظل بعدها الكائن التاريخى البحرى هامدًا خامدًا في ميناء رأس التين البحرى حتى عام 2000 عندما استرد اسمه المشتق من موطنه وأرضه المقدسة..
المحروسة.. ويتابع الفيلم التسجيلي الذي أشرفت عليه القوات المسلحة من إخراج د. علي شوقي، وتصوير محمد مختار، ومونتاج محمود عبدالمنعم، وإعداد تاريخى لإلهام الجمال، وموسيقي وائل البدراوى تاريخ المحروسة ومواكبته لتاريخ مصر ليسرد الأحداث علي مسامعنا صاحب الصوت المصرى الحميم يحيى الفخرانى..ومع صباح الخميس السادس من أغسطس لعام الحسم والحزم المحفور بحروف من نور علي جدران مصر الحديثة.. صباح له مذاق المجد.. صباح خير غسلنا من الآلام والمعاناة والأحداث الجسام وعام الإخوان وخفافيش الظلام وافتراءات اللئام.. صباح الفرحة الكبرى الذى أبحرَ فيه رَكب المحروسة في ثوبه القشيب المهيب الجديد المحتفظ بكامل ملامحه التاريخية في مياه القناة المصرية الجديدة، التي مولتها الأموال المصرية وحفرتها الأيادي المصرية، وقدمتها هدية للعالم العزيمة المصرية.. يبحر متهادياً علي سطح مياه طازجة أزحنا من طريقها جبال الرمال فانطلقت من عقالها هادرة تصنع بحرًا يشق فتحاً جديداً لأبنائنا.. يبحر المحروس في مياه المحروسة وعلي متنه في المقدمة قائد عظيم جاءنا من بعد طول صبرنا.. قائد قال لنا تحيا مصر.. فأحيا مصر..
نقلا عن " الاهرام " المصرية


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.